على جدول التفاهم الأميركي ــــ الروسي، والأميركي ــــ الإيراني، توجد ثلاث حزم من الملفات: (1) معلّقة على سواها، وأهمها التسويات مع إسرائيل، والمقاومة، واستثمارات النفط والغاز شرقيّ المتوسط،

(2) وغامضة، كملفات العراق والبحرين واليمن… والسعودية، في سياق إعادة بناء الهيكل السياسي الأمني للشرق الأوسط، (3) ومتفق عليها. وهي الآتية: استبعاد الحرب والمواجهات العنيفة، واعتماد الحلول السياسية، والاعتراف بإيران كقوة إقليمية أساسية للتعاطي مع ملفات المنطقة، ومكافحة الحركات التكفيرية الإرهابية، ومنعها، خصوصاً، من التوطن في سوريا، وتلافي انفراط البلد. وهو ما يعني عدم المساس بالجيش العربي السوري، وتفويضه ــــ وحلفاءه ــــ مهمتين: تطهير سوريا من الإرهابيين والحفاظ على وحدتها الترابية ودولتها.

في هكذا سياق، يكون الحديث عن تغييب الرئيس بشار الأسد من المشهد، مجرّد هذيان. الأسد باقٍ، بالتمديد والانتخاب، أقله لولاية كاملة تبدأ ــــ ولا تنتهي ــــ العام 2014؛ ففي السنوات الثلاث الباقية من رئاسة باراك أوباما، هناك سلسلة من الاتفاقات التي يريد البيت الأبيض انجازها، وسلسلة من السياقات التي يريد فتحها، بما يضع الولايات المتحدة على سكّة الأوبامية بعد غياب أوباما، ويضمن استمرار الديموقراطيين في الحكم. وقد أصبح واضحاً لمطبخ القرار الأميركي أن كل شيء في الشرق الأوسط يبدأ من سوريا، ولا يمرّ من دون الأسد.

على جميع الأفرقاء، إذاً، التعوّد، من الآن فصاعداً، على فكرة التعايش مع بقاء الأسد في قصر المهاجرين. الأفرقاء الدوليون والإقليميون يعرفون ذلك جيداً، معظمهم بدأ بالاستدارة ــــ بمن فيهم الأوروبيون والأتراك والقطريون والإماراتيون ــــ بينما إسرائيل والسعودية تحاولان اعتراض المجرى العام: الأولى تبتزّ والثانية تنتحر.

لكن ما يهمني، هنا، هو كيف يتعاطى الأفرقاء السوريون مع الحقائق الجيوسياسية. سأترك، جانباً، أولئك الذين ترتبط أدوارهم، بل يرتبط حضورهم نفسه بالدعم الخارجي؛ وُجد هؤلاء بقرار دولي وإقليمي ويغادرون بقرار مثله. ما يعنيني أفرقاء المعارضة الوطنية، الذين لديهم أوهام حول امكانية تحصيل مواقع سياسية عن طريق مؤتمر «جنيف 2»، في إطار استخدام الضغط الدولي لإحداث تغيير أو إصلاح سياسي في سوريا. وهو ما ستحسمه، فقط، موازين القوى الاجتماعية السياسية الداخلية. هكذا، يصبح الحديث عن استحالة الحسم العسكري، ضرورة للمخرج السياسي والتغييرات السياسية.

لكننا أمام واقع فظ؛ فالمطروح، واقعياً، هو خيار واحد، هو خيار الحسم. كان ممكناً لصالح الفوضى والميليشيات، من خلال عدوان عسكري خارجي، وأصبح الآن ممكناً لصالح الدولة، من خلال تسوية سياسية خارجية؛ فما هو المخرج؟

أتحدث هنا، بالطبع، عن مخرج واقعي؛ إذ يستطيع الجميع التمسك بعُصاباتهم وعصبياتهم ورؤاهم وأوهامهم، لكن عجلة الأمر الواقع ستتخطى كل من لا يتحلى بالواقعية. وخشيتي أن تصطدم قوى التجديد بالجدار، وينتصر أولئك الذين يريدون استنساخ الصيغة الفائتة للنظام السوري، كما كان قبل 2011. ومن المؤسف القول إن هذا الاتجاه بدأ يطل برأسه، ويستعيد خطابه وحضوره.

الأسد باقٍ. والصراع الآن هو حول توسيع المشاركة الجدية لمزيد من النخب، السياسية والاقتصادية والثقافية، في الحياة الوطنية والقرار الوطني. وهو ما يتطلب الانتقال من مفهوم المعارضة إلى مفهوم الحركة الوطنية التي تضم طيفاً أوسع بكثير من طيف القوى السياسية، أعني الهيئات المختلفة المرتبطة بحساسية الطبقة الوسطى، النشطاء الشباب والطلاب والمعلمين، والمثقفين ــــ المهنيين ــــ والنقابات العمالية والمتقاعدين العسكريين والمدنيين والنساء والصناعيين والفلاحين والتجار الخ.

هل يمكن التوصل إلى هذا الإطار الاجتماعي السياسي العريض، القادر على تحديد برنامج وطني مشترك لنهضة سوريا الموحدة الجديدة، أعني برنامج الاعتراضات والمطالب والتصورات المنتظمة في رؤية سياسية جامعة، تفرض نفسها على قوى النظام، قبل «جنيف 2»، وبعده، وتعيد بناءه كأداة جبهوية للحركة الوطنية؟ ولا يعتمد مسار كهذا على مبادرة أو حتى موافقة المسؤولين السوريين، وإنما على مبادرة ذاتية للقوى المجتمعية المعدودة أعلاه. ليس المطلوب مبادرات تكرّر مؤتمرات المعارضة السياسية المؤسسة على خليط من الرؤى الليبرالية، وإنما لقاءات تنسج المصالح في نقاش ووثيقة وحركة، تحدد ما الذي ينبغي الإبقاء عليه، وما الذي تنبغي معارضته في سوريا؛ ما هو شكل ومضمون المشاركة السياسية اللازمة للتنمية والتقدم والدمج الوطني، خارج إطار الخيار الديموقراطي المطروح القائم على المحاصصة أو خيار استمرار شمولية الحزب؟ هل تبقى دولة القطاع العام الفائتة والجامدة والمنخورة بالنيوليبرالية أم يتم تفكيك القطاع العام والخضوع الكامل للنيوليبرالية، أم أن هناك بديلاً ثالثاً يقوم على هيمنة الدولة الوطنية على كل حقول الانتاج والخدمات، وإعادة التوزيع الاجتماعي، بغض النظر عن المُلكية؟

أسئلة كهذه ليست مبكرة أبدا؛ إنها أسئلة تأسيسية للحل السوري ــــ السوري، الحل الوحيد الممكن للخروج من براثن الأزمة.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-12-01
  • 9188
  • من الأرشيف

الأسد باقٍ، ما الذي تنبغي معارضته؟

على جدول التفاهم الأميركي ــــ الروسي، والأميركي ــــ الإيراني، توجد ثلاث حزم من الملفات: (1) معلّقة على سواها، وأهمها التسويات مع إسرائيل، والمقاومة، واستثمارات النفط والغاز شرقيّ المتوسط، (2) وغامضة، كملفات العراق والبحرين واليمن… والسعودية، في سياق إعادة بناء الهيكل السياسي الأمني للشرق الأوسط، (3) ومتفق عليها. وهي الآتية: استبعاد الحرب والمواجهات العنيفة، واعتماد الحلول السياسية، والاعتراف بإيران كقوة إقليمية أساسية للتعاطي مع ملفات المنطقة، ومكافحة الحركات التكفيرية الإرهابية، ومنعها، خصوصاً، من التوطن في سوريا، وتلافي انفراط البلد. وهو ما يعني عدم المساس بالجيش العربي السوري، وتفويضه ــــ وحلفاءه ــــ مهمتين: تطهير سوريا من الإرهابيين والحفاظ على وحدتها الترابية ودولتها. في هكذا سياق، يكون الحديث عن تغييب الرئيس بشار الأسد من المشهد، مجرّد هذيان. الأسد باقٍ، بالتمديد والانتخاب، أقله لولاية كاملة تبدأ ــــ ولا تنتهي ــــ العام 2014؛ ففي السنوات الثلاث الباقية من رئاسة باراك أوباما، هناك سلسلة من الاتفاقات التي يريد البيت الأبيض انجازها، وسلسلة من السياقات التي يريد فتحها، بما يضع الولايات المتحدة على سكّة الأوبامية بعد غياب أوباما، ويضمن استمرار الديموقراطيين في الحكم. وقد أصبح واضحاً لمطبخ القرار الأميركي أن كل شيء في الشرق الأوسط يبدأ من سوريا، ولا يمرّ من دون الأسد. على جميع الأفرقاء، إذاً، التعوّد، من الآن فصاعداً، على فكرة التعايش مع بقاء الأسد في قصر المهاجرين. الأفرقاء الدوليون والإقليميون يعرفون ذلك جيداً، معظمهم بدأ بالاستدارة ــــ بمن فيهم الأوروبيون والأتراك والقطريون والإماراتيون ــــ بينما إسرائيل والسعودية تحاولان اعتراض المجرى العام: الأولى تبتزّ والثانية تنتحر. لكن ما يهمني، هنا، هو كيف يتعاطى الأفرقاء السوريون مع الحقائق الجيوسياسية. سأترك، جانباً، أولئك الذين ترتبط أدوارهم، بل يرتبط حضورهم نفسه بالدعم الخارجي؛ وُجد هؤلاء بقرار دولي وإقليمي ويغادرون بقرار مثله. ما يعنيني أفرقاء المعارضة الوطنية، الذين لديهم أوهام حول امكانية تحصيل مواقع سياسية عن طريق مؤتمر «جنيف 2»، في إطار استخدام الضغط الدولي لإحداث تغيير أو إصلاح سياسي في سوريا. وهو ما ستحسمه، فقط، موازين القوى الاجتماعية السياسية الداخلية. هكذا، يصبح الحديث عن استحالة الحسم العسكري، ضرورة للمخرج السياسي والتغييرات السياسية. لكننا أمام واقع فظ؛ فالمطروح، واقعياً، هو خيار واحد، هو خيار الحسم. كان ممكناً لصالح الفوضى والميليشيات، من خلال عدوان عسكري خارجي، وأصبح الآن ممكناً لصالح الدولة، من خلال تسوية سياسية خارجية؛ فما هو المخرج؟ أتحدث هنا، بالطبع، عن مخرج واقعي؛ إذ يستطيع الجميع التمسك بعُصاباتهم وعصبياتهم ورؤاهم وأوهامهم، لكن عجلة الأمر الواقع ستتخطى كل من لا يتحلى بالواقعية. وخشيتي أن تصطدم قوى التجديد بالجدار، وينتصر أولئك الذين يريدون استنساخ الصيغة الفائتة للنظام السوري، كما كان قبل 2011. ومن المؤسف القول إن هذا الاتجاه بدأ يطل برأسه، ويستعيد خطابه وحضوره. الأسد باقٍ. والصراع الآن هو حول توسيع المشاركة الجدية لمزيد من النخب، السياسية والاقتصادية والثقافية، في الحياة الوطنية والقرار الوطني. وهو ما يتطلب الانتقال من مفهوم المعارضة إلى مفهوم الحركة الوطنية التي تضم طيفاً أوسع بكثير من طيف القوى السياسية، أعني الهيئات المختلفة المرتبطة بحساسية الطبقة الوسطى، النشطاء الشباب والطلاب والمعلمين، والمثقفين ــــ المهنيين ــــ والنقابات العمالية والمتقاعدين العسكريين والمدنيين والنساء والصناعيين والفلاحين والتجار الخ. هل يمكن التوصل إلى هذا الإطار الاجتماعي السياسي العريض، القادر على تحديد برنامج وطني مشترك لنهضة سوريا الموحدة الجديدة، أعني برنامج الاعتراضات والمطالب والتصورات المنتظمة في رؤية سياسية جامعة، تفرض نفسها على قوى النظام، قبل «جنيف 2»، وبعده، وتعيد بناءه كأداة جبهوية للحركة الوطنية؟ ولا يعتمد مسار كهذا على مبادرة أو حتى موافقة المسؤولين السوريين، وإنما على مبادرة ذاتية للقوى المجتمعية المعدودة أعلاه. ليس المطلوب مبادرات تكرّر مؤتمرات المعارضة السياسية المؤسسة على خليط من الرؤى الليبرالية، وإنما لقاءات تنسج المصالح في نقاش ووثيقة وحركة، تحدد ما الذي ينبغي الإبقاء عليه، وما الذي تنبغي معارضته في سوريا؛ ما هو شكل ومضمون المشاركة السياسية اللازمة للتنمية والتقدم والدمج الوطني، خارج إطار الخيار الديموقراطي المطروح القائم على المحاصصة أو خيار استمرار شمولية الحزب؟ هل تبقى دولة القطاع العام الفائتة والجامدة والمنخورة بالنيوليبرالية أم يتم تفكيك القطاع العام والخضوع الكامل للنيوليبرالية، أم أن هناك بديلاً ثالثاً يقوم على هيمنة الدولة الوطنية على كل حقول الانتاج والخدمات، وإعادة التوزيع الاجتماعي، بغض النظر عن المُلكية؟ أسئلة كهذه ليست مبكرة أبدا؛ إنها أسئلة تأسيسية للحل السوري ــــ السوري، الحل الوحيد الممكن للخروج من براثن الأزمة.  

المصدر : الاخبار/ ناهض حتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة