«الحياة فرص»، يقول أهل النظام السياسي في لبنان. ويضيفون: غبي من لا يفيد من مثل هذه الفرص بمعزل عن مصدرها وأسبابها.. والقاعدة في سلوكهم «إذا هبّت رياحك فاغتنمها»، من دون أن تدقق في مصدر هذه الرياح أو وجهتها أو ضحايا تبدّل الاتجاه.

والانتفاضات التي عصفت وتعصف باستقرار العديد من الدول العربية فأسقطت أنظمة حكم عاتية عمّرت عقوداً من الزمن وهدّدت أنظمة أخرى يمكن أن تتحول عند أهل النظام السياسي إلى فرص قدرية، يبادرون إلى القفز عليها والإفادة منها، مطمئنين إلى أن لا شيء سوف يتغيّر في لبنان في المدى المنظور: فلا حكومة جديدة، بمعزل عن لعبة الأرقام لابتداع تشكيلتها المستحيلة، ولا معجزة تعيد الروح إلى المجلس النيابي بكتله المتصارعة ـ المتقاطعة فيه، المتصالحة إلى حد التآخي خارجه... ولا رئيس جديداً للفراغ الذي يشكل استثماراً مجزياً «للدول» يمكن توظيفه في الابتزاز السياسي بغير موانع أو محاذير أو ارتدادات مؤذية.

ولقد جاء في الأمثال أن «مصائب قوم عند قوم فوائد».. وهكذا فالحرب في سوريا وعليها فرصة مفتوحة للربح الحلال، سواء اتخذت شكل تصدير أو استيراد «المجاهدين»، أو تأمين السلاح والذخيرة ووسائط النقل... ويمكن تغطية ذلك كله بإظهار الإشفاق على السوريين الهاربين من جحيم الحرب إلى تركيا أو الأردن أو لبنان ذاته، وضرورة تأمين الغذاء والكساء والمأوى للأشقاء الذين صُيّروا لاجئين وموضوع استثمار دولي يحتاج «الوسطاء» ومسهّلي عمليات النقل والتوزيع، وإجراء الإحصاءات اللازمة مع تصنيف واضح للرجال والنساء والأطفال. وكلما تزايدت الأعداد تزايد الدخل أرباحاً صافية.

كذلك فإن «الحرب» في العراق وعليه والتي شطرته أو تكاد إلى «دولتين» توفر فرص استثمار خرافية، وعبر تقسيم عصري للعمل يمكن لبعض أهل النظام السياسي في لبنان أن يخوضوا فنون التجارة في مختلف مجالات الاستيراد والتصدير، بالشراكة أو بالتواطؤ مع أطراف من أهل النظام في بغداد أو في أربيل (فلا تعصّب ولا استبعاد)، لا فرق بين الإتجار بالمشاعر الدينية أو بالماء أو بالنفط أو بمشاريع إعادة إعمار ما تهدم وهو كثير ومكلف جداً وله الأولوية، على وجه الخصوص، أو بإطلاق قناة تلفزيونية من بغداد أو من بيروت التي كانت وتحاول أن تبقى عاصمة الإعلام العربي...

ثم هناك فرص غير محدودة في دول الاتحاد الخليجي، بدءاً بالمملكة القائدة، السعودية، مروراً بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر التي عادت أو أعيدت إلى «بيت الطاعة»، فضلاً عن الكويت التي قدر عليها أن تعيد بناء دولتها مرة ثانية بعد اجتياح صدام لها.

وإذا كان «السابقون» قد اكتشفوا المملكة المذهّبة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أو في بدايات هذا القرن، فأفادوا من هذا الاكتشاف المبكر مالاً وجاهاً ونفوذاً ومناصب حاكمة، إذ صار بعضهم في مصاف الرؤساء، يستوي في ذلك أن يكونوا رؤساء للدولة أو فيها أو رؤساء لمجالس إدارات المصارف، أو أخفوا ثرواتهم في العقار في الداخل أو في الخارج، منعاً للحسد أو سوء الظن بأمانتهم، فإن اللاحقين يحاولون التعويض عبر اكتشاف أنحاء أخرى في الخليج أو مجالات جديدة للإنتاج في بلاد مفتوحة أمام الاستثمار والسياحة والصناعة والمضاربات في البورصة، أو تقديم الخدمات للإعمار بخيره الوفير... فخبراتهم متعددة المصدر وتشمل أسباب المعرفة جيداً، وما لا يعرفونه يشترون أسراره.

إن أهل النظام السياسي الذين أثبتوا كفاءتهم في تدمير لبنان أو في منعه من النمو والاستقرار أو من استثمار منابع الطاقة في بره وبحره، هم «أشطر» من يكون في بناء دول الغير.

إن شهادة كفاءتهم تتمثل في نجاحهم بتدمير دولته التي لا يطلبون منها إلا جواز السفر ليكون واحداً أصلياً من مجموعة جوازات سفر مكتسبة بالمال أو بالشطارة أو بتقديم الخدمات للدول المتقدمة التي لا تفتح أبوابها إلا لمن يحملون جوازات سفر توحي بالثقة، أمنياً وسياسياً، في الدرجة الأولى.

ولأن مركز الثقل في القرار العربي قد غادر القاهرة، بعدما شطب الطغيان طويل الأمد موقعها الممتاز، ثم غادر دمشق مطارداً بالقذائف والرصاص، فإن دول الخليج مؤهلة لأن تكون الصوت المرجح في سباق أهل النظام السياسي إلى الرئاسات ومراكز القرار في لبنان، الذي يتقن أهله قراءة الطالع في الكف أو الفنجان أو الرمل أو موج البحر لا فرق.

وهكذا فإن على طالب الرئاسة، أي رئاسة وكل رئاسة، أن يسلِّم بأن أقطار الخليج لم تعد البقرة الحلوب التي تدر خيرها لكل قاصد... بل هي باتت شريكة أولى في أي قرار حول المنطقة، بالسياسة فيها والاقتصاد والأمن والإعلام والتجارة والعمارة.

لقد غدت دول الخليج مستقلة بقرارها عن سائر العرب، لا سيما بعدما غادرت القاهرة موقعها في القيادة المسلَّم بها، وغيّبت الحرب الأميركية على العراق لإسقاط صدام حسين بعد إنجاز مهمته في «شطب» بلاد الرافدين كدولة مؤثرة، وغيّبت الحرب على سوريا وفيها دمشق عن موقعها كمركز للقرار العربي، لا سيما في غياب القاهرة.

.. فإلى عواصم دول الخليج أيها الطامعون أو الحالمون أو العاملون للوصول إلى سدة الحكم في لبنان.. والله ولي التوفيق!

  • فريق ماسة
  • 2013-11-17
  • 9889
  • من الأرشيف

عن دول الخليج كصانعة للرؤساء ..

«الحياة فرص»، يقول أهل النظام السياسي في لبنان. ويضيفون: غبي من لا يفيد من مثل هذه الفرص بمعزل عن مصدرها وأسبابها.. والقاعدة في سلوكهم «إذا هبّت رياحك فاغتنمها»، من دون أن تدقق في مصدر هذه الرياح أو وجهتها أو ضحايا تبدّل الاتجاه. والانتفاضات التي عصفت وتعصف باستقرار العديد من الدول العربية فأسقطت أنظمة حكم عاتية عمّرت عقوداً من الزمن وهدّدت أنظمة أخرى يمكن أن تتحول عند أهل النظام السياسي إلى فرص قدرية، يبادرون إلى القفز عليها والإفادة منها، مطمئنين إلى أن لا شيء سوف يتغيّر في لبنان في المدى المنظور: فلا حكومة جديدة، بمعزل عن لعبة الأرقام لابتداع تشكيلتها المستحيلة، ولا معجزة تعيد الروح إلى المجلس النيابي بكتله المتصارعة ـ المتقاطعة فيه، المتصالحة إلى حد التآخي خارجه... ولا رئيس جديداً للفراغ الذي يشكل استثماراً مجزياً «للدول» يمكن توظيفه في الابتزاز السياسي بغير موانع أو محاذير أو ارتدادات مؤذية. ولقد جاء في الأمثال أن «مصائب قوم عند قوم فوائد».. وهكذا فالحرب في سوريا وعليها فرصة مفتوحة للربح الحلال، سواء اتخذت شكل تصدير أو استيراد «المجاهدين»، أو تأمين السلاح والذخيرة ووسائط النقل... ويمكن تغطية ذلك كله بإظهار الإشفاق على السوريين الهاربين من جحيم الحرب إلى تركيا أو الأردن أو لبنان ذاته، وضرورة تأمين الغذاء والكساء والمأوى للأشقاء الذين صُيّروا لاجئين وموضوع استثمار دولي يحتاج «الوسطاء» ومسهّلي عمليات النقل والتوزيع، وإجراء الإحصاءات اللازمة مع تصنيف واضح للرجال والنساء والأطفال. وكلما تزايدت الأعداد تزايد الدخل أرباحاً صافية. كذلك فإن «الحرب» في العراق وعليه والتي شطرته أو تكاد إلى «دولتين» توفر فرص استثمار خرافية، وعبر تقسيم عصري للعمل يمكن لبعض أهل النظام السياسي في لبنان أن يخوضوا فنون التجارة في مختلف مجالات الاستيراد والتصدير، بالشراكة أو بالتواطؤ مع أطراف من أهل النظام في بغداد أو في أربيل (فلا تعصّب ولا استبعاد)، لا فرق بين الإتجار بالمشاعر الدينية أو بالماء أو بالنفط أو بمشاريع إعادة إعمار ما تهدم وهو كثير ومكلف جداً وله الأولوية، على وجه الخصوص، أو بإطلاق قناة تلفزيونية من بغداد أو من بيروت التي كانت وتحاول أن تبقى عاصمة الإعلام العربي... ثم هناك فرص غير محدودة في دول الاتحاد الخليجي، بدءاً بالمملكة القائدة، السعودية، مروراً بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر التي عادت أو أعيدت إلى «بيت الطاعة»، فضلاً عن الكويت التي قدر عليها أن تعيد بناء دولتها مرة ثانية بعد اجتياح صدام لها. وإذا كان «السابقون» قد اكتشفوا المملكة المذهّبة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أو في بدايات هذا القرن، فأفادوا من هذا الاكتشاف المبكر مالاً وجاهاً ونفوذاً ومناصب حاكمة، إذ صار بعضهم في مصاف الرؤساء، يستوي في ذلك أن يكونوا رؤساء للدولة أو فيها أو رؤساء لمجالس إدارات المصارف، أو أخفوا ثرواتهم في العقار في الداخل أو في الخارج، منعاً للحسد أو سوء الظن بأمانتهم، فإن اللاحقين يحاولون التعويض عبر اكتشاف أنحاء أخرى في الخليج أو مجالات جديدة للإنتاج في بلاد مفتوحة أمام الاستثمار والسياحة والصناعة والمضاربات في البورصة، أو تقديم الخدمات للإعمار بخيره الوفير... فخبراتهم متعددة المصدر وتشمل أسباب المعرفة جيداً، وما لا يعرفونه يشترون أسراره. إن أهل النظام السياسي الذين أثبتوا كفاءتهم في تدمير لبنان أو في منعه من النمو والاستقرار أو من استثمار منابع الطاقة في بره وبحره، هم «أشطر» من يكون في بناء دول الغير. إن شهادة كفاءتهم تتمثل في نجاحهم بتدمير دولته التي لا يطلبون منها إلا جواز السفر ليكون واحداً أصلياً من مجموعة جوازات سفر مكتسبة بالمال أو بالشطارة أو بتقديم الخدمات للدول المتقدمة التي لا تفتح أبوابها إلا لمن يحملون جوازات سفر توحي بالثقة، أمنياً وسياسياً، في الدرجة الأولى. ولأن مركز الثقل في القرار العربي قد غادر القاهرة، بعدما شطب الطغيان طويل الأمد موقعها الممتاز، ثم غادر دمشق مطارداً بالقذائف والرصاص، فإن دول الخليج مؤهلة لأن تكون الصوت المرجح في سباق أهل النظام السياسي إلى الرئاسات ومراكز القرار في لبنان، الذي يتقن أهله قراءة الطالع في الكف أو الفنجان أو الرمل أو موج البحر لا فرق. وهكذا فإن على طالب الرئاسة، أي رئاسة وكل رئاسة، أن يسلِّم بأن أقطار الخليج لم تعد البقرة الحلوب التي تدر خيرها لكل قاصد... بل هي باتت شريكة أولى في أي قرار حول المنطقة، بالسياسة فيها والاقتصاد والأمن والإعلام والتجارة والعمارة. لقد غدت دول الخليج مستقلة بقرارها عن سائر العرب، لا سيما بعدما غادرت القاهرة موقعها في القيادة المسلَّم بها، وغيّبت الحرب الأميركية على العراق لإسقاط صدام حسين بعد إنجاز مهمته في «شطب» بلاد الرافدين كدولة مؤثرة، وغيّبت الحرب على سوريا وفيها دمشق عن موقعها كمركز للقرار العربي، لا سيما في غياب القاهرة. .. فإلى عواصم دول الخليج أيها الطامعون أو الحالمون أو العاملون للوصول إلى سدة الحكم في لبنان.. والله ولي التوفيق!

المصدر : السفير/ طلال سلمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة