تظهر في اللوحة الحالية لتطورات القضية السورية مسارات متعارضة:

في المسار الأول، يتواصل الجهد الروسي ــ الأميركي لعقد مؤتمر المصالحة في جنيف 2. هذا الجهد سوف ينجح في المدى المنظور، إنما ستكون آثاره الميدانية محدودة؛ فالقوى المعارضة المشاركة تمثل، في نهاية التحليل، جهتين: (1) المعارضة الوطنية الديموقراطية السلمية. وهذه ليس لها قوة على الأرض أو نفوذ بين الميليشيات المسلحة إلا في امكانية التأثير المعنوي على تنسيقيات محلية، معدودة العدد ومحدودة القوة، و(2) المعارضة الخارجية المتمثلة في «الائتلاف».

وهي، في الواقع، أضحت أقلّ حضورا، داخل سوريا، من نظيرتها الوطنية؛ فهي لا تملك قواعد بين النخب والقوى الشعبية الفاعلة ولا تحظى بأي تأثير معنوي، من جهة، وهي، من جهة أخرى، فقدت التأثير على ميليشيات «الحر» التي تتآكل على كل حال، لحساب العودة إلى صفوف النظام أو لحساب الانضواء تحت جناحي «القاعدة» الأساسيين في سوريا، «النصرة» و«داعش».

«القاعدة» ليست مدعوة إلى جنيف 2، ولا تريد هي، بالطبع، المشاركة مع «الكفّار»، وتزمع المضي قدما في مشروعها لبناء إماراتها الإسلامية. وهي تحظى بالدعم المتعدد الأشكال، من عدة مصادر أهمها السعودية. القوة الميدانية الأخرى، المتمثلة بالأكراد، أخذت ما تريد من جنيف 2، مسبقا وعلى الأرض، بإقامة إدارة مدنية في المناطق المحسوبة كردية. هذه الإدارة، المعبرة عن نوع من الحكم الذاتي، تملك عناصر «الشرعية» والجدية والاستمرارية، وترتكز على قبول ضمني بالحكم الذاتي للأكراد من قبل دمشق، على عكس الحكومة الكاريكاتيرية التي أعلنها ائتلاف الدوحة ــ اسطنبول.

هكذا، سيكون جنيف 2، على الأكثر، محطة تحدد إطارا سياسيا للحل، وأكبر نجاح قد يحققه حكومة وحدة وطنية موسعة، تشمل ممثلي النظام وممثلي المعارضة الوطنية وشخصيات اجتماعية أخرى، وتقرّ معركة الجيش العربي السوري ضد الجماعات الإرهابية، وكذلك، كما يقترح فاتح جاموس ــ قدري جميل، ضد كل مَن يرفع السلاح في وجه الحل السياسي. هل تذهب هيئة التنسيق، هذا المذهب؟ أم ستبقى في حالة التردد بين الاحتمالين الواقعيين: المصالحة مع النظام أو إدامة الحبل السُّري مع المسلحين؟

في المسار الثاني، يواصل الجيش العربي السوري عملياته على مستوى هجوم معاكس واسع النطاق والكفاءة. وهو يحقق، في الآونة الأخيرة، نجاحات على الأرض في مواجهة جماعات مسلحة محلية أو أجنبية مفككة، ومتقاتلة فيما بينها، وملطخة بالإرهابية، وتخسر، بانتظام، المزيد من حواضنها الاجتماعية التي أصبحت أكثر ميلا إلى ترتيب تسويات محلية مع النظام، سواء أكان ذلك ناجما عن اليأس من إسقاطه أم كان ذلك ناجما عن الإرهاق أم عن الشعور بالتورّط في الخضوع لقوى ظلامية استبدادية إجرامية لم يعد ممكنا التعايش معها.

لدى النظام السوري قناعة راسخة بأنه قادر على الحسم العسكري في البلاد. ولعل هذه القناعة هي التي تحدد محور خطه السياسي الرئيسي. وهو يتعامل مع جنيف 2 كعملية دبلوماسية في إطار علاقات دمشق الدولية، أولا، وكذلك، كمقدمة لاستيعاب قوى المعارضة الوطنية المدنية في حكومة الحرب والبناء، ثانيا. ولعل هذه النظرة هي الأكثر واقعية وتطابقا مع حقائق الصراع التي تتطلب حشد القوى وراء الجيش العربي السوري في معركته مع التمرد المسلح والإرهاب. وفي الواقع، فإن القول بعدم امكانية الحسم العسكري تشكل، من حيث المبدأ، طعنة في الظهر لضباط وجنود الجيش في الميدان؛ فحين تخبر هؤلاء بأن الحسم غير ممكن، فكأنك تدعوهم لليأس والاستسلام.

في المسار الثالث، تواصل السعودية مساعيها الحثيثة، الحاقدة والجنونية، لمواصلة الحرب على سوريا. هل يمكنها ذلك؟

من حيث المبدأ، الإجابة هي نعم. فالمشروع الحربي السعودي القائم على تأسيس جيش شبه نظامي معتدل ومدرب ومجهّز وخاضع لقيادة سياسية موحدة ليحل محل «الحر» والإخوان المسلمين والميليشيات الأخرى، ويستوعب السلفيين الجهاديين الممكن اجتذابهم من أجنحة «القاعدة»، يحظى بالدعم من قوتين مؤثرتين هما المحافظون الجدد في الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فهل هناك امكانية لنجاح هذا المشروع؟

ـــ تدريب ثلاثين ألف سوري في الباكستان كجيش نظامي هو عملية معقدة وتتطلب وقتا لا يقل، للحصول على نتيجة فعالة، عن سنة في أقلّ التقديرات. وهذا وقت طويل بالنظر إلى سرعة المتغيرات في سوريا، سواء لجهة التفاهمات الحاصلة ومفاعيلها أو لجهة تسارع العمليات الناجحة للجيش السوري أو لجهة تنامي قوة إرهابيي «القاعدة».

ـــ يبدو هذا المشروع متأخرا جدا بالنسبة لإمكانية حشد عدد كاف من العسكريين السوريين المنشقين؛ فهؤلاء، كغيرهم من المتمردين السوريين، وصلوا إلى حالة من اليأس أو اكتشاف الخديعة. وقد بدأوا، بالفعل، رحلة العودة إلى صفوف الجيش السوري، وبعضهم يقاتل في صفوفه الآن. والكثيرون منهم، خصوصا من الفارّين إلى الأردن، يسعون لترتيب أوضاعهم مع السفارة السورية بعمان، والعودة إلى بلادهم. وإذا كان هؤلاء يتعرضون إلى ضغوط معاكسة، فمن الواضح أن هذه الضغوط لن تجعل منهم عناصر فعالة في تنظيم «الجيش» الذي يأمله السعوديون.

ـــ يملك المشروع السعودي لغزو سوريا بجيش نظامي منفذين هما تركيا والأردن. ولا يزال هذان البلدان يتعاونان في تمرير أشكال من الدعم للمسلحين في سوريا. ولكن ذلك يحدث، منذ الاعلان عن التسوية الروسية الأميركية، بشأن الكيماوي، بالحد الأدنى، وبصورة مرتبكة ومتقطعة. تتجه تركيا إلى إعادة التموضع في سياق التفاهمات الدولية في المنطقة. وهذا سيدفعها، في النهاية، إلى الالتزام بإغلاق حدودها أمام السعوديين.

ـــ الورقة التي يراهن عليها بندر بن سلطان هي الأردن، حيث توجد ثلاث ميزات للسعودية: (1) النفوذ الناجم عن الدعم المالي والعلاقات الاقتصادية وكتلة الأردنيين العاملين في مملكة آل سعود، (2) تراجع قوة الاخوان المسلمين، (3) قدرة الجهات الأمنية الأردنية على إدارة مضبوطة للعمليات.

عمّان، الأكثر ضعفا في مواجهة النفوذ السعودي، غير متحمسة إطلاقا لمزيد من الانخراط في الخطط السعودية نحو سوريا. وهي ترنو إلى انخراط معاكس في التسويات الحاصلة، خصوصا أن النفوذ الأميركي بدأ يصبّ باتجاه الافتراق الأردني عن السياسات السعودية.

ليست المساعدات وحدها هي التي تجعل عمان تكابد الأمرين للخلاص من التأثير الانتحاري السعودي. تكشف أوساط قريبة من موقع القرار، سر التخوف الأردني، حال الافتراق عن الرياض، من انتقام سعودي يطال عشرات الآلاف من العاملين في السعودية وأسرهم، وتخريب العلاقات الأردنية الخليجية، ومنح الإذن لقيام مجموعات إرهابية بالعمل داخل البلاد. وبالمقابل، فإن الأردن الذي فقد قوة مصر كمظلة سياسية، ولا يزال عاجزا عن إقامة علاقات متوازنة مع المحور الإيراني العراقي السوري، يجد نفسه مكشوفا أمام الإسرائيليين.

الجديد، في السياسة الأردنية، يتكون ببطء، وإنما في الاتجاه المضاد للمشروع السعودي؛ (1) فعلى المستوى الشعبي لم تعد هناك، بعد انكفاء الإخوان المسلمين، قوى مؤثرة قد تدعم تورطا أردنيا في سوريا. الآن، يوجد ما يشبه الاجماع الأردني على دعم فرص الحل السياسي في البلد الجار، وسط تعاظم نفوذ القوى المؤيدة لسوريا، (2) وعلى المستوى السياسي، تشهد تركيبة الدولة، صراعات علنية بين مراكز القوى (ظهّرتها، بصورة رمزية ولكن دالة، المجابهة، في كبرى الصحف شبه الرسمية الأردنية، يومية «الرأي»، بين الجسم الصحافي الذي يخضع لتأثير الاستخبارات من جهة، ومجلس الإدارة والحكومة، من جهة أخرى). وقد تشكّل مناخ عام يهدف، بوضوح، إلى اسقاط حكومة عبدالله النسور. ولكلٍ أهدافه، إنما من بينها امكانية تشكيل حكومة قادرة على التلاقي مع التفاهمات الدولية في سوريا والمنطقة، (3) وعلى المستوى الاستراتيجي، فإن التحدي الذي تشكّله مخاطر ما يحدث على المسار الفلسطيني الإسرائيلي على المصالح الوطنية الأردنية، لن يسمح بانخراط رسمي أردني في التحالف السعودي ــ الإسرائيلي، (4) كما لا توجد أرضية سياسية محلية للتعاطي مع المشروع السعودي الذي أصبح يتخطى عمليات تهريب سرية للمقاتلين والسلاح، إلى فتح الحدود لنشاط عسكري واسع النطاق، (4) وعلى المستوى الأمني، من العسير أن تقبل المؤسسة العسكرية والأمنية بمنطقة أمنية على الأراضي الأردنية، تسمح بحركة حرة للمسلحين الذين، سواء أكانوا يعملون تحت شعار النصرة أم تحت شعار جيش شبه نظامي، لن يكونوا، في النهاية، سوى عناصر إرهابية.

لدى المسؤولين السوريين اطمئنان عميق إلى أن الحسم الميداني آت بلا ريب. «كان هذا هو قرارنا الاستراتيجي دائما. ولم تكن المعطيات السياسية أو الميدانية، منذ بداية الأزمة، تساعد على الحسم، مثلما هي اليوم؛ فالجيش العربي السوري أكثر تماسكا وكفاءة ومراسا، وعملياته تحظى الآن بدعم غير مسبوق من قبل المجتمع السوري الذي يأمل العودة إلى أحضان الدولة والاستقرار والانتاج والحياة الطبيعية في ظل تقاليده الحضارية، والجماعات المسلحة تنهار معنويا وسياسيا، بينما لا يستطيع المجتمع الدولي، حتى القوى المعادية منه، أن تغفل شرعية القتال ضد الإرهاب».

من بيروت، يأتي صوت الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله متناغما مع الاطمئنان السوري: سوريا ستخذل المراهنين على الحرب السعودية.

غير أن الحسم السوري يسابق الزمن: ينبغي انجاز الرئيسي منه قبل الانتخابات الرئاسية في النصف الثاني من 2014. هل ذلك ممكن؟ لا يمكن الجزم بانتهاء كافة العمليات، لكن الجيش العربي السوري سيوفر امكانية جدية لإجراء انتخابات ذات صدقية الأغلبية العظمة من المراكز ومناطق الكثافة السكانية.

واقعيا، لن يكون أمام السعوديين سوى الانغماس، أكثر فأكثر، في دعم الحصان الوحيد القابل للجري في الميدان السوري، أي القوى التكفيرية الإرهابية، وعلى رأسها، الميليشيات المختلفة الأسماء التي تنتمي جميعا إلى شبكة «القاعدة». وبين المشروع السعودي الخيالي لبناء جيش سوري شبه نظامي ومعتدل لخوض الصراع ضد النظام السوري، واستحقاقات المواجهة الميدانية، تنخرط السعودية الآن في دعم رد وحشي على نجاحات الجيش العربي السوري العسكرية، من خلال قصف الأحياء الدمشقية، لبثّ حالة من الذعر والارتباك في العاصمة التي تتوقع الانتهاء من معارك ريف دمشق، لتحصينها أمنيا. ومن الملاحظ أن مسلحي بندر بن سلطان، يستهدفون الأحياء ذات الغالبية المسيحية، لتحقيق ثلاثة أهداف: استعادة الهيمنة على المقاتلين من خلال التحشيد الطائفي، وتحييد سنّة دمشق عن التصعيد ضد المدينة، واستكمال المشروع السعودي ــ الصهيوني التقليدي لتهجير المسيحيين المشرقيين باعتبارهم إحدى القواعد الاجتماعية السياسية للنظام القومي العلماني في سوريا.

تطرح اللوحة السابقة على المعارضة الوطنية السورية، مهمات ذات أولوية تتجاوز كل التفاصيل الفرعية حول الإصلاحات السياسية، وهي: تحييد الخلافات السياسية وإعلان الدعم الصريح للجيش العربي السوري والقوى المقاتلة الرديفة له في المعركة ضد الجماعات المسلحة والإرهابية ومشروع الغزو السعودي، فضح الإرهاب السعودي، وممارسة كل أشكال الضغط المعنوي في تركيا والأردن، للمساهمة في جهود إغلاق الأبواب أمام الجنون السعودي.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-11-17
  • 8944
  • من الأرشيف

الحرب السعودية مستمرّة، والرد السوري: "سنحسمها"

تظهر في اللوحة الحالية لتطورات القضية السورية مسارات متعارضة: في المسار الأول، يتواصل الجهد الروسي ــ الأميركي لعقد مؤتمر المصالحة في جنيف 2. هذا الجهد سوف ينجح في المدى المنظور، إنما ستكون آثاره الميدانية محدودة؛ فالقوى المعارضة المشاركة تمثل، في نهاية التحليل، جهتين: (1) المعارضة الوطنية الديموقراطية السلمية. وهذه ليس لها قوة على الأرض أو نفوذ بين الميليشيات المسلحة إلا في امكانية التأثير المعنوي على تنسيقيات محلية، معدودة العدد ومحدودة القوة، و(2) المعارضة الخارجية المتمثلة في «الائتلاف». وهي، في الواقع، أضحت أقلّ حضورا، داخل سوريا، من نظيرتها الوطنية؛ فهي لا تملك قواعد بين النخب والقوى الشعبية الفاعلة ولا تحظى بأي تأثير معنوي، من جهة، وهي، من جهة أخرى، فقدت التأثير على ميليشيات «الحر» التي تتآكل على كل حال، لحساب العودة إلى صفوف النظام أو لحساب الانضواء تحت جناحي «القاعدة» الأساسيين في سوريا، «النصرة» و«داعش». «القاعدة» ليست مدعوة إلى جنيف 2، ولا تريد هي، بالطبع، المشاركة مع «الكفّار»، وتزمع المضي قدما في مشروعها لبناء إماراتها الإسلامية. وهي تحظى بالدعم المتعدد الأشكال، من عدة مصادر أهمها السعودية. القوة الميدانية الأخرى، المتمثلة بالأكراد، أخذت ما تريد من جنيف 2، مسبقا وعلى الأرض، بإقامة إدارة مدنية في المناطق المحسوبة كردية. هذه الإدارة، المعبرة عن نوع من الحكم الذاتي، تملك عناصر «الشرعية» والجدية والاستمرارية، وترتكز على قبول ضمني بالحكم الذاتي للأكراد من قبل دمشق، على عكس الحكومة الكاريكاتيرية التي أعلنها ائتلاف الدوحة ــ اسطنبول. هكذا، سيكون جنيف 2، على الأكثر، محطة تحدد إطارا سياسيا للحل، وأكبر نجاح قد يحققه حكومة وحدة وطنية موسعة، تشمل ممثلي النظام وممثلي المعارضة الوطنية وشخصيات اجتماعية أخرى، وتقرّ معركة الجيش العربي السوري ضد الجماعات الإرهابية، وكذلك، كما يقترح فاتح جاموس ــ قدري جميل، ضد كل مَن يرفع السلاح في وجه الحل السياسي. هل تذهب هيئة التنسيق، هذا المذهب؟ أم ستبقى في حالة التردد بين الاحتمالين الواقعيين: المصالحة مع النظام أو إدامة الحبل السُّري مع المسلحين؟ في المسار الثاني، يواصل الجيش العربي السوري عملياته على مستوى هجوم معاكس واسع النطاق والكفاءة. وهو يحقق، في الآونة الأخيرة، نجاحات على الأرض في مواجهة جماعات مسلحة محلية أو أجنبية مفككة، ومتقاتلة فيما بينها، وملطخة بالإرهابية، وتخسر، بانتظام، المزيد من حواضنها الاجتماعية التي أصبحت أكثر ميلا إلى ترتيب تسويات محلية مع النظام، سواء أكان ذلك ناجما عن اليأس من إسقاطه أم كان ذلك ناجما عن الإرهاق أم عن الشعور بالتورّط في الخضوع لقوى ظلامية استبدادية إجرامية لم يعد ممكنا التعايش معها. لدى النظام السوري قناعة راسخة بأنه قادر على الحسم العسكري في البلاد. ولعل هذه القناعة هي التي تحدد محور خطه السياسي الرئيسي. وهو يتعامل مع جنيف 2 كعملية دبلوماسية في إطار علاقات دمشق الدولية، أولا، وكذلك، كمقدمة لاستيعاب قوى المعارضة الوطنية المدنية في حكومة الحرب والبناء، ثانيا. ولعل هذه النظرة هي الأكثر واقعية وتطابقا مع حقائق الصراع التي تتطلب حشد القوى وراء الجيش العربي السوري في معركته مع التمرد المسلح والإرهاب. وفي الواقع، فإن القول بعدم امكانية الحسم العسكري تشكل، من حيث المبدأ، طعنة في الظهر لضباط وجنود الجيش في الميدان؛ فحين تخبر هؤلاء بأن الحسم غير ممكن، فكأنك تدعوهم لليأس والاستسلام. في المسار الثالث، تواصل السعودية مساعيها الحثيثة، الحاقدة والجنونية، لمواصلة الحرب على سوريا. هل يمكنها ذلك؟ من حيث المبدأ، الإجابة هي نعم. فالمشروع الحربي السعودي القائم على تأسيس جيش شبه نظامي معتدل ومدرب ومجهّز وخاضع لقيادة سياسية موحدة ليحل محل «الحر» والإخوان المسلمين والميليشيات الأخرى، ويستوعب السلفيين الجهاديين الممكن اجتذابهم من أجنحة «القاعدة»، يحظى بالدعم من قوتين مؤثرتين هما المحافظون الجدد في الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فهل هناك امكانية لنجاح هذا المشروع؟ ـــ تدريب ثلاثين ألف سوري في الباكستان كجيش نظامي هو عملية معقدة وتتطلب وقتا لا يقل، للحصول على نتيجة فعالة، عن سنة في أقلّ التقديرات. وهذا وقت طويل بالنظر إلى سرعة المتغيرات في سوريا، سواء لجهة التفاهمات الحاصلة ومفاعيلها أو لجهة تسارع العمليات الناجحة للجيش السوري أو لجهة تنامي قوة إرهابيي «القاعدة». ـــ يبدو هذا المشروع متأخرا جدا بالنسبة لإمكانية حشد عدد كاف من العسكريين السوريين المنشقين؛ فهؤلاء، كغيرهم من المتمردين السوريين، وصلوا إلى حالة من اليأس أو اكتشاف الخديعة. وقد بدأوا، بالفعل، رحلة العودة إلى صفوف الجيش السوري، وبعضهم يقاتل في صفوفه الآن. والكثيرون منهم، خصوصا من الفارّين إلى الأردن، يسعون لترتيب أوضاعهم مع السفارة السورية بعمان، والعودة إلى بلادهم. وإذا كان هؤلاء يتعرضون إلى ضغوط معاكسة، فمن الواضح أن هذه الضغوط لن تجعل منهم عناصر فعالة في تنظيم «الجيش» الذي يأمله السعوديون. ـــ يملك المشروع السعودي لغزو سوريا بجيش نظامي منفذين هما تركيا والأردن. ولا يزال هذان البلدان يتعاونان في تمرير أشكال من الدعم للمسلحين في سوريا. ولكن ذلك يحدث، منذ الاعلان عن التسوية الروسية الأميركية، بشأن الكيماوي، بالحد الأدنى، وبصورة مرتبكة ومتقطعة. تتجه تركيا إلى إعادة التموضع في سياق التفاهمات الدولية في المنطقة. وهذا سيدفعها، في النهاية، إلى الالتزام بإغلاق حدودها أمام السعوديين. ـــ الورقة التي يراهن عليها بندر بن سلطان هي الأردن، حيث توجد ثلاث ميزات للسعودية: (1) النفوذ الناجم عن الدعم المالي والعلاقات الاقتصادية وكتلة الأردنيين العاملين في مملكة آل سعود، (2) تراجع قوة الاخوان المسلمين، (3) قدرة الجهات الأمنية الأردنية على إدارة مضبوطة للعمليات. عمّان، الأكثر ضعفا في مواجهة النفوذ السعودي، غير متحمسة إطلاقا لمزيد من الانخراط في الخطط السعودية نحو سوريا. وهي ترنو إلى انخراط معاكس في التسويات الحاصلة، خصوصا أن النفوذ الأميركي بدأ يصبّ باتجاه الافتراق الأردني عن السياسات السعودية. ليست المساعدات وحدها هي التي تجعل عمان تكابد الأمرين للخلاص من التأثير الانتحاري السعودي. تكشف أوساط قريبة من موقع القرار، سر التخوف الأردني، حال الافتراق عن الرياض، من انتقام سعودي يطال عشرات الآلاف من العاملين في السعودية وأسرهم، وتخريب العلاقات الأردنية الخليجية، ومنح الإذن لقيام مجموعات إرهابية بالعمل داخل البلاد. وبالمقابل، فإن الأردن الذي فقد قوة مصر كمظلة سياسية، ولا يزال عاجزا عن إقامة علاقات متوازنة مع المحور الإيراني العراقي السوري، يجد نفسه مكشوفا أمام الإسرائيليين. الجديد، في السياسة الأردنية، يتكون ببطء، وإنما في الاتجاه المضاد للمشروع السعودي؛ (1) فعلى المستوى الشعبي لم تعد هناك، بعد انكفاء الإخوان المسلمين، قوى مؤثرة قد تدعم تورطا أردنيا في سوريا. الآن، يوجد ما يشبه الاجماع الأردني على دعم فرص الحل السياسي في البلد الجار، وسط تعاظم نفوذ القوى المؤيدة لسوريا، (2) وعلى المستوى السياسي، تشهد تركيبة الدولة، صراعات علنية بين مراكز القوى (ظهّرتها، بصورة رمزية ولكن دالة، المجابهة، في كبرى الصحف شبه الرسمية الأردنية، يومية «الرأي»، بين الجسم الصحافي الذي يخضع لتأثير الاستخبارات من جهة، ومجلس الإدارة والحكومة، من جهة أخرى). وقد تشكّل مناخ عام يهدف، بوضوح، إلى اسقاط حكومة عبدالله النسور. ولكلٍ أهدافه، إنما من بينها امكانية تشكيل حكومة قادرة على التلاقي مع التفاهمات الدولية في سوريا والمنطقة، (3) وعلى المستوى الاستراتيجي، فإن التحدي الذي تشكّله مخاطر ما يحدث على المسار الفلسطيني الإسرائيلي على المصالح الوطنية الأردنية، لن يسمح بانخراط رسمي أردني في التحالف السعودي ــ الإسرائيلي، (4) كما لا توجد أرضية سياسية محلية للتعاطي مع المشروع السعودي الذي أصبح يتخطى عمليات تهريب سرية للمقاتلين والسلاح، إلى فتح الحدود لنشاط عسكري واسع النطاق، (4) وعلى المستوى الأمني، من العسير أن تقبل المؤسسة العسكرية والأمنية بمنطقة أمنية على الأراضي الأردنية، تسمح بحركة حرة للمسلحين الذين، سواء أكانوا يعملون تحت شعار النصرة أم تحت شعار جيش شبه نظامي، لن يكونوا، في النهاية، سوى عناصر إرهابية. لدى المسؤولين السوريين اطمئنان عميق إلى أن الحسم الميداني آت بلا ريب. «كان هذا هو قرارنا الاستراتيجي دائما. ولم تكن المعطيات السياسية أو الميدانية، منذ بداية الأزمة، تساعد على الحسم، مثلما هي اليوم؛ فالجيش العربي السوري أكثر تماسكا وكفاءة ومراسا، وعملياته تحظى الآن بدعم غير مسبوق من قبل المجتمع السوري الذي يأمل العودة إلى أحضان الدولة والاستقرار والانتاج والحياة الطبيعية في ظل تقاليده الحضارية، والجماعات المسلحة تنهار معنويا وسياسيا، بينما لا يستطيع المجتمع الدولي، حتى القوى المعادية منه، أن تغفل شرعية القتال ضد الإرهاب». من بيروت، يأتي صوت الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله متناغما مع الاطمئنان السوري: سوريا ستخذل المراهنين على الحرب السعودية. غير أن الحسم السوري يسابق الزمن: ينبغي انجاز الرئيسي منه قبل الانتخابات الرئاسية في النصف الثاني من 2014. هل ذلك ممكن؟ لا يمكن الجزم بانتهاء كافة العمليات، لكن الجيش العربي السوري سيوفر امكانية جدية لإجراء انتخابات ذات صدقية الأغلبية العظمة من المراكز ومناطق الكثافة السكانية. واقعيا، لن يكون أمام السعوديين سوى الانغماس، أكثر فأكثر، في دعم الحصان الوحيد القابل للجري في الميدان السوري، أي القوى التكفيرية الإرهابية، وعلى رأسها، الميليشيات المختلفة الأسماء التي تنتمي جميعا إلى شبكة «القاعدة». وبين المشروع السعودي الخيالي لبناء جيش سوري شبه نظامي ومعتدل لخوض الصراع ضد النظام السوري، واستحقاقات المواجهة الميدانية، تنخرط السعودية الآن في دعم رد وحشي على نجاحات الجيش العربي السوري العسكرية، من خلال قصف الأحياء الدمشقية، لبثّ حالة من الذعر والارتباك في العاصمة التي تتوقع الانتهاء من معارك ريف دمشق، لتحصينها أمنيا. ومن الملاحظ أن مسلحي بندر بن سلطان، يستهدفون الأحياء ذات الغالبية المسيحية، لتحقيق ثلاثة أهداف: استعادة الهيمنة على المقاتلين من خلال التحشيد الطائفي، وتحييد سنّة دمشق عن التصعيد ضد المدينة، واستكمال المشروع السعودي ــ الصهيوني التقليدي لتهجير المسيحيين المشرقيين باعتبارهم إحدى القواعد الاجتماعية السياسية للنظام القومي العلماني في سوريا. تطرح اللوحة السابقة على المعارضة الوطنية السورية، مهمات ذات أولوية تتجاوز كل التفاصيل الفرعية حول الإصلاحات السياسية، وهي: تحييد الخلافات السياسية وإعلان الدعم الصريح للجيش العربي السوري والقوى المقاتلة الرديفة له في المعركة ضد الجماعات المسلحة والإرهابية ومشروع الغزو السعودي، فضح الإرهاب السعودي، وممارسة كل أشكال الضغط المعنوي في تركيا والأردن، للمساهمة في جهود إغلاق الأبواب أمام الجنون السعودي.  

المصدر : ناهض حتر -


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة