لا يفترض أن تكون خطوة الأكراد في سورية في إعلان ما يشبه الحكم الذاتي مفاجئة لأحد، ذلك أنهم أعلنوا في الصيف الماضي نيتهم القيام ذلك في وقت لاحق. وبالتالي، فإنّ ما يمكن أن يثير التساؤلات فقط هو مسألة التوقيت، فيما برزت، أمس، إشارة من الرئيس التركي عبد الله غول إلى المسألة، حيث قال: «لا نرغب في حدوث أمر واقع ولا نريد أن يُبغى أحد»، مضيفاً أن «سورية تمر في فوضى كبيرة ونحن نولي أهمية لتأسيس نظام جديد فيها».

أولاً، إن إعلان «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سورية الإدارة الذاتية في منطقة شمال شرقي البلاد، والتي يطلقون عليها اسم «روجافا»، هو قبل كل شيء تلبية لتطلع كياني سبقهم إليه أكراد العراق، ويطالب به أكراد تركيا. وهو تطلع طبيعي يمكّنهم من ترجمة هويتهم الكردية ثقافياً ولغوياً وسياسياً بمعزل عن أية حسابات سياسية سورية أو إقليمية.

ثانياً، يعتبر توقيت إعلان الحكم الذاتي خطوة استباقية طبيعية قبيل انعقاد مؤتمر «جنيف 2». فالفئات الكردية التي يمثلها «حزب الاتحاد الديموقراطي» بزعامة صالح مسلم، والذي يتبع بالكامل خط «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان، والتي تمثل غالبية أكراد سورية، لم يتم التعاطي معها من جانب المعارضة السورية بالجدية المطلوبة، بل قوبلت بتهميش كبير، فلم تتمثل في «المجلس الوطني السوري» ولا في «الائتلاف» المعارض الذي تشكل لاحقاً.

ويعود السبب في ذلك إلى الضغوط التركية التي ترى في حزب صالح مسلم عدواً لتركيا ما دام يوالي اوجلان. وكانت أنقرة، وفي استفزاز واضح، تستورد شخصيات كردية لا تمثل سوى نفسها لتنصبها أحيانا في رئاسة «المجلس الوطني السوري»، كمثال عبد الباسط سيدا.

ولا يريد الأكراد اليوم أن يخرجوا خالي الوفاض من أي تسوية محتملة في سورية، فكان إعلان الحكم الذاتي رسالة قوية للمجتمع الدولي بأن الوضع الكردي في شمال سورية لن يعود إلى ما كان عليه قبل بدء الأزمة السورية من جهة، والى أن لا أحد يعكس التمثيل الكردي في سورية أكثر من «حزب الاتحاد الديموقراطي» من جهة أخرى. وطبعاً، لا يقفل الإعلان الباب أمام مشاركة الفئات الكردية الأخرى في سورية، لكن على قاعدة تحصيل الحقوق الكردية.

ثالثاً، لا ينفصل الإعلان الكردي السوري في توقيته عن الصراع الكردي - الكردي نفسه في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن التطورات الكردية في سورية لم تلق ارتياحاً لدى رئيس إقليم كردستان في العراق مسعود البرزاني، الذي يرى أن الأمور أفلتت من يديه على أرض «روجافا» لمصلحة خصمه التقليدي عبد الله اوجلان.

ومع أن الأكراد باتوا يتشاركون وحدة الهموم والدم، غير أن الصراع على الزعامة عاد من جديد منذ بدء الأزمة السورية وظهور فرصة لاوجلان ليترجم تطلعاته في أن يقود منطقة كردية صافية خارج تأثير أي قوة كردية أخرى، مثل البرزاني أو الرئيس العراقي جلال طالباني أو خارج الوجود المباشر للدولة التركية كما الحال في جنوب شرقي تركيا. لذلك فإن إعلان الحكم الذاتي هو إعلان عن ظهور منطقة كردية جديدة صافية النفوذ لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهو تطور له تداعياته الحتمية.

رابعاً، يظهر أنّ من بين هذه التداعيات دخول الصراع بين تركيا و«حزب العمال الكردستاني» مرحلة جديدة من الحسابات المعقدة. إذ أن تمتع الأكراد في سوريا بحكم ذاتي، ولو من جانب واحد، هو إنذار لما يمكن أو يجب أن يكون الوضع عليه في تركيا، خصوصا في ظل انسداد المفاوضات بين أنقرة واوجلان لإيجاد حل للمشكلة الكردية في سوريا.

وهو ما سوف تعمل أنقرة إلى اعتباره تطوراً خطيراً يمس بالأمن القومي التركي وبالتالي مواجهته، في ظل رفض رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان منح الأكراد أية مطالب واستمرار السياسة الإنكارية للهوية الكردية.

وقد عبر الرئيس التركي عبد الله غول عن ذلك من خلال القول في منطقة ارزنجان في شرقي تركيا، أمس، «إننا لا نرغب في حدوث أمر واقع ولا نريد أن يُبغى أحد». وقال إن «سورية تمر في فوضى كبيرة ونولي أهمية لتأسيس نظام جديد فيها وأن يكون نظام يثير سعادة الشعب».

وتابع «لا يمكن المساعدة على تقسيم سورية. كل الذين في سورية هم أقرباؤنا، وعلى حدودنا قرى يمر في قلبها خط الحدود. كل العرب والتركمان في سورية هم أقرباؤنا. ولا نريد أن يُمحى أحد ولا نرغب في نشوء أمر واقع هناك».

لكن مواجهة تركيا لإعلان الحكم الذاتي الكردي في سورية لن تكون فقط على الأرض، بل أيضاً من خلال استغلال التنافس بين البرزاني واوجلان، وذلك من خلال دعوة البرزاني إلى ديار بكر واللقاء معه، في رسالة لا يخطئها أعمى في أن البرزاني هو زعيم أكراد المنطقة في العراق وسوريا وتركيا أيضاً.

وهي لعبة كان البرزاني مستعداً للدخول فيها مجازفاً بما ستتركه من أثر سلبي واستفزازي على أكراد تركيا. إذ أن هؤلاء لا يبدون معارضة لزعامة البرزاني في العراق ومساعدته لأكراد تركيا، لكن أن يدخل في لعبة تعمّق الانقسام الكردي ويستفيد منه «العدو» التركي، خصوصاً اردوغان عشية الانتخابات البلدية، فهو ما أثار سخط زعماء أكراد تركيا حتى المعتدلين جداً منهم مثل النائب أحمد تورك الذي انتقد البرزاني على موافقته على اللقاء مع اردوغان في ديار بكر بالذات.

وجاء توقيت إعلان الحكم الذاتي في سورية رسالة إلى اردوغان - البرزاني، والتي تشير الى ان زعامة الأكراد الفعلية وعلى الأرض في سورية، كما في تركيا هي لأوجلان وليس للبرزاني ولا لأحد غيره.

خامساً، برغم أن انفجار الصراع بين «حزب الاتحاد الديموقراطي» السوري وفصائل المعارضة من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و«جبهة النصرة» و«الجيش السوري الحر» يمكن أن يصب موضوعياً لمصلحة النظام السوري، لكن الخطوة الكردية تتصل بحسابات كردية خالصة وتهدف في النهاية إلى وضع الجميع بمن فيهم النظام السوري أمام حقيقة أن الأكراد يريدون حقوقهم في سورية بمعزل عما ستكون عليه الصورة المقبلة، وأنهم لن يقبلوا العودة إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل انفجار الأحداث في سورية.

  • فريق ماسة
  • 2013-11-15
  • 13339
  • من الأرشيف

إعلان الحكم الذاتي لأكراد سورية: حسابات «الكردستاني» و«جنيف 2»

لا يفترض أن تكون خطوة الأكراد في سورية في إعلان ما يشبه الحكم الذاتي مفاجئة لأحد، ذلك أنهم أعلنوا في الصيف الماضي نيتهم القيام ذلك في وقت لاحق. وبالتالي، فإنّ ما يمكن أن يثير التساؤلات فقط هو مسألة التوقيت، فيما برزت، أمس، إشارة من الرئيس التركي عبد الله غول إلى المسألة، حيث قال: «لا نرغب في حدوث أمر واقع ولا نريد أن يُبغى أحد»، مضيفاً أن «سورية تمر في فوضى كبيرة ونحن نولي أهمية لتأسيس نظام جديد فيها». أولاً، إن إعلان «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سورية الإدارة الذاتية في منطقة شمال شرقي البلاد، والتي يطلقون عليها اسم «روجافا»، هو قبل كل شيء تلبية لتطلع كياني سبقهم إليه أكراد العراق، ويطالب به أكراد تركيا. وهو تطلع طبيعي يمكّنهم من ترجمة هويتهم الكردية ثقافياً ولغوياً وسياسياً بمعزل عن أية حسابات سياسية سورية أو إقليمية. ثانياً، يعتبر توقيت إعلان الحكم الذاتي خطوة استباقية طبيعية قبيل انعقاد مؤتمر «جنيف 2». فالفئات الكردية التي يمثلها «حزب الاتحاد الديموقراطي» بزعامة صالح مسلم، والذي يتبع بالكامل خط «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان، والتي تمثل غالبية أكراد سورية، لم يتم التعاطي معها من جانب المعارضة السورية بالجدية المطلوبة، بل قوبلت بتهميش كبير، فلم تتمثل في «المجلس الوطني السوري» ولا في «الائتلاف» المعارض الذي تشكل لاحقاً. ويعود السبب في ذلك إلى الضغوط التركية التي ترى في حزب صالح مسلم عدواً لتركيا ما دام يوالي اوجلان. وكانت أنقرة، وفي استفزاز واضح، تستورد شخصيات كردية لا تمثل سوى نفسها لتنصبها أحيانا في رئاسة «المجلس الوطني السوري»، كمثال عبد الباسط سيدا. ولا يريد الأكراد اليوم أن يخرجوا خالي الوفاض من أي تسوية محتملة في سورية، فكان إعلان الحكم الذاتي رسالة قوية للمجتمع الدولي بأن الوضع الكردي في شمال سورية لن يعود إلى ما كان عليه قبل بدء الأزمة السورية من جهة، والى أن لا أحد يعكس التمثيل الكردي في سورية أكثر من «حزب الاتحاد الديموقراطي» من جهة أخرى. وطبعاً، لا يقفل الإعلان الباب أمام مشاركة الفئات الكردية الأخرى في سورية، لكن على قاعدة تحصيل الحقوق الكردية. ثالثاً، لا ينفصل الإعلان الكردي السوري في توقيته عن الصراع الكردي - الكردي نفسه في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن التطورات الكردية في سورية لم تلق ارتياحاً لدى رئيس إقليم كردستان في العراق مسعود البرزاني، الذي يرى أن الأمور أفلتت من يديه على أرض «روجافا» لمصلحة خصمه التقليدي عبد الله اوجلان. ومع أن الأكراد باتوا يتشاركون وحدة الهموم والدم، غير أن الصراع على الزعامة عاد من جديد منذ بدء الأزمة السورية وظهور فرصة لاوجلان ليترجم تطلعاته في أن يقود منطقة كردية صافية خارج تأثير أي قوة كردية أخرى، مثل البرزاني أو الرئيس العراقي جلال طالباني أو خارج الوجود المباشر للدولة التركية كما الحال في جنوب شرقي تركيا. لذلك فإن إعلان الحكم الذاتي هو إعلان عن ظهور منطقة كردية جديدة صافية النفوذ لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهو تطور له تداعياته الحتمية. رابعاً، يظهر أنّ من بين هذه التداعيات دخول الصراع بين تركيا و«حزب العمال الكردستاني» مرحلة جديدة من الحسابات المعقدة. إذ أن تمتع الأكراد في سوريا بحكم ذاتي، ولو من جانب واحد، هو إنذار لما يمكن أو يجب أن يكون الوضع عليه في تركيا، خصوصا في ظل انسداد المفاوضات بين أنقرة واوجلان لإيجاد حل للمشكلة الكردية في سوريا. وهو ما سوف تعمل أنقرة إلى اعتباره تطوراً خطيراً يمس بالأمن القومي التركي وبالتالي مواجهته، في ظل رفض رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان منح الأكراد أية مطالب واستمرار السياسة الإنكارية للهوية الكردية. وقد عبر الرئيس التركي عبد الله غول عن ذلك من خلال القول في منطقة ارزنجان في شرقي تركيا، أمس، «إننا لا نرغب في حدوث أمر واقع ولا نريد أن يُبغى أحد». وقال إن «سورية تمر في فوضى كبيرة ونولي أهمية لتأسيس نظام جديد فيها وأن يكون نظام يثير سعادة الشعب». وتابع «لا يمكن المساعدة على تقسيم سورية. كل الذين في سورية هم أقرباؤنا، وعلى حدودنا قرى يمر في قلبها خط الحدود. كل العرب والتركمان في سورية هم أقرباؤنا. ولا نريد أن يُمحى أحد ولا نرغب في نشوء أمر واقع هناك». لكن مواجهة تركيا لإعلان الحكم الذاتي الكردي في سورية لن تكون فقط على الأرض، بل أيضاً من خلال استغلال التنافس بين البرزاني واوجلان، وذلك من خلال دعوة البرزاني إلى ديار بكر واللقاء معه، في رسالة لا يخطئها أعمى في أن البرزاني هو زعيم أكراد المنطقة في العراق وسوريا وتركيا أيضاً. وهي لعبة كان البرزاني مستعداً للدخول فيها مجازفاً بما ستتركه من أثر سلبي واستفزازي على أكراد تركيا. إذ أن هؤلاء لا يبدون معارضة لزعامة البرزاني في العراق ومساعدته لأكراد تركيا، لكن أن يدخل في لعبة تعمّق الانقسام الكردي ويستفيد منه «العدو» التركي، خصوصاً اردوغان عشية الانتخابات البلدية، فهو ما أثار سخط زعماء أكراد تركيا حتى المعتدلين جداً منهم مثل النائب أحمد تورك الذي انتقد البرزاني على موافقته على اللقاء مع اردوغان في ديار بكر بالذات. وجاء توقيت إعلان الحكم الذاتي في سورية رسالة إلى اردوغان - البرزاني، والتي تشير الى ان زعامة الأكراد الفعلية وعلى الأرض في سورية، كما في تركيا هي لأوجلان وليس للبرزاني ولا لأحد غيره. خامساً، برغم أن انفجار الصراع بين «حزب الاتحاد الديموقراطي» السوري وفصائل المعارضة من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و«جبهة النصرة» و«الجيش السوري الحر» يمكن أن يصب موضوعياً لمصلحة النظام السوري، لكن الخطوة الكردية تتصل بحسابات كردية خالصة وتهدف في النهاية إلى وضع الجميع بمن فيهم النظام السوري أمام حقيقة أن الأكراد يريدون حقوقهم في سورية بمعزل عما ستكون عليه الصورة المقبلة، وأنهم لن يقبلوا العودة إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل انفجار الأحداث في سورية.

المصدر : الماسة السورية/ محمد نور الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة