خطفت كلمة الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء أمس الأول الأضواء، وأطلقت عاصفة من التكهنات بقرب عودة العلاقات الإيرانية ــ الأميركية. وفي حين كرر الرئيس الأميركي باراك أوباما لفظة إيران لأكثر من ست وعشرين مرة في كلمته، التي حاول إكسابها نكهة ولايته الأولى الأكثر لمعاناً من الثانية، فقد كانت كلمة روحاني أكثر إحكاماً وحاملة لنكهات وتوابل أكثر تنوعاً.

أرسل أوباما رسالتين إلى إيران، واحدة مباشرة والأخرى ضمنية. الأولى أن «أميركا لا تريد تغيير النظام الإيراني»، والثانية أن «على إيران تبديد الشكوك بخصوص برنامجها النووي»، أي أن واشنطن تعترف لإيران بحق تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، لكن مع ضمانات للتحقق وتبديد الشكوك، وهو مطلب إيراني ثابت.

في المقابل تعددت رسائل روحاني لأميركا ولم تقتصر على اثنتين فقط، وإن غلب عليها الطابع الضمني بين السطور، جرياً على تقاليد «التعارف» الإيرانية الشهيرة.

يمكن تقسيم كلمة روحاني إلى عشرة أجزاء رئيسية هي: الديباجة، العلاقات الدولية، الشمال والجنوب، القوى الإقليمية، فلسطين، سوريا، الملف النووي الإيراني، العلاقات مع أميركا، مبادرة إيران الدولية الجديدة ومن ثم الختام.

في الأجزاء العشرة نثر روحاني رسائله بشكل متدرج الكثافة، ومزج بين استعراض معارفه في العلاقات الدولية واعتزازه القومي ببلاده، وبين العملانية ووعيه بضرورة تغيير صورة إيران في العالم عموماً وأميركا تحديداً.

1 ــ الديباجة

ابتدأ روحاني كلمته على الطريقة الإيرانية التقليدية بالصلاة على النبي وآله، ثم نفذ مباشرة إلى بناء المسرح الرمزي أو منصة الإطلاق لرسائلة السياسية المتعددة، مصوراً العالم على شكل ثنائيات تتصارع معاً. «العالم مليء بالأمل والخوف من الحرب، خوف من الهويات الدينية، التطرف والفقر وتدمير الموارد الطبيعية. في مقابل الأمل، نعم للسلام ولا للحرب. نأمل في انتصار الحوار على النزاعات وإعلاء الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان».

يبدو روحاني هنا وللوهلة الأولى متأثراً بثنائيات الشرق القديم (الخير والشر ــ النور والظلام)، لكن هذه الثنائيات التي توزعت على فقرات كلمته المختلفة لها أبعاد سياسية واضحة وليست مجرد منمقات كلامية أو فلسفية. ومرد ذلك أن تعدد مستويات الخطاب في كلمة روحاني (أوباما والعالم والداخل الإيراني) يستلزم الإرتكاز على هذه الثنائيات لتوجيه رسائل إلى صناديق بريد مختلفة. «الإيرانيون اختاروا الأمل، أي الديموقراطية الإسلامية»، وكأنه يريد أن يقول ان انتخابي كان تجديداً لرغبة الإيرانيين في الأمل، وينبغي عليكم أن تقابلوا خطوته بخطوات من جانبكم.

2 ــ العلاقات الدولية

اعتبرها روحاني «فرصاً ومخاطر في آنٍ معاً». يلاحظ هنا اعتماد الثنائيات مرة أخرى، ليخلق أرضية مشتركة بين إيران والمجتمع الدولي، ويعود ليحذر في شكل نصف صريح من أن «خطأ الحسابات ستكون له آثار سلبية على كل الأطراف الأخرى». ثم ينفذ روحاني إلى استعراض تضلعه في العلاقات الدولية وتوجيه رسالة مهمة إلى واشنطن: «في هذا المنعطف الحساس انتهت المباريات الصفرية (فيها فائز بكل شيء وخاسر لكل شيء)، وهي طرق قديمة. كما أن العسكرة والعنف هما طريقان فاشلان». يريد روحاني أن يقول ان المصالح المشتركة أبقى من التهديد، وإن سيناريو رابح ــ رابح هو الأجدى من المباريات الصفرية. حتى الآن يهيئ روحاني الأجواء بسلاسة لفتح صفحة جديدة مع تقريع واشنطن على سياساتها السابقة.

3 ــ الشمال والجنوب

على العكس من خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات في نهاية التسعينيات لفك العزلة الدولية على إيران وقتذاك، يعتمد روحاني ثنائية الشمال والجنوب لإضفاء الطابع العالمي على خطابه. والسبب أن روحاني يريد أكثر من مجرد فك العزلة: شراكة على أساس الندية مع الولايات المتحدة.

انتقد روحاني الرؤية التي تقول «ان هناك مركزاً حضارياً تحيط به أطراف غير متحضرة، وأضاف أن هذه الرؤية لمركز القوة والقدرة في العالم، تتبلور على شكل علاقة مبناها إصدار الأوامر من المركز الذي هو الشمال ضد الأطراف وهي الجنوب. هنا يتسق روحاني مع تصورات جمهورية إيران الإسلامية لنفسها، باعتبارها جزءا من الجنوب/العالم الثالث في مواجهة الشمال.

وانتقد روحاني النظر إلى «القيم الغربية باعتبارها قيماً عالمية أو نحن الأعلى وانتم الأدنى، فذلك نموذج إدراكي غير مقبول. كما أن وضع الشمال كمحور العمل والجنوب في الهامش سيؤدي إلى حوار أحادي الاتجاه في العلاقات الدولية».

هنا يرفع روحاني لواء العالم الثالث في مواجهة الغرب، مخاطباً بذلك الكتلة الأكبر من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية.

4 ــ القوى الإقليمية

نصت كلمة روحاني على انتقاد «السياقات السردية المتطرفة واعتماد العنف الاستراتيجي الذي يحرم القوى الاقليمية من مساحاتها الطبيعية للعمل، وسياسات الاحتواء وتغيير النظام من الخارج هي أمور خطرة».

يقول روحاني ضمناً إن إيران قوة إقليمية وإن حرمانها من منطقة نفوذ إقليمي أمر غير مقبول إيرانياً. ثم يقول: «الخوف المرضي من الإسلام والشيعة وإيران هو خطاب يهدد السلم الدولي، لأنه يضع تهديدات غير موجودة على أرض الواقع، ومن يعزفون على نغمة تهديد إيران هم من يهددون المنطقة والعالم. جمهورية إيران الإسلامية كقوة إقليمية ستتصرف بطريقة مسؤولة في ما يتصل بالأمن الإقليمي والدولي، وهي مستعدة للتعاون في هذه المجالات ثنائيا ومتعددة الأطراف. إيران تسعى لحل المشاكل بدلا من خلقها على قاعدة الأمل والاحترام المتبادل».

الكلام هنا انتقل إلى المكاشفة حول رؤية روحاني لإيران باعتبارها قوة إقليمية، وهو هدف إيران النهائي من تقاربها مع واشنطن: الاعتراف بوضعيتها الإقليمية. ولا يفوت هنا أن التدرج في متوالية الإسلام والشيعة وإيران، هو تسلسل منطقي، إلا إن وضعه في سياق الحديث عن القوى الإقليمية يعني أن إيران هي زعيمة الشيعة والمسلمين في العالم، وهو تصور شائع بين المفكرين الإيرانيين أسس له مؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل الخميني.

5 ــ فلسطين

لا يفرط روحاني بورقة القضية الفلسطينية، لكنه يحولها إلى قضية إنسانية بالأساس حين يقول: «يتعرض شعب فلسطين لقمع عنيف وعنف ممنهج ومحروم من حق العودة. ما يجري لشعب فلسطين البريء ممارسات ممنهجة أسوأ من الفصل العنصري». الهدف هنا مزدوج، أولاً حشر إسرائيل المعادية لإيران في الزاوية، واستغلال المنبر الدولي للهجوم عليها، وثانياً تخفيف جرعة النقد بتحويل القضية إلى قضية إنسانية، حتى لا يترك للإسرائيليين فرصة اتهامه باللاسامية وتخريب زيارته.

6 ــ سوريا

يقول روحاني «الهدف المشترك للمجتمع الدولي يجب أن يكون وقف الدماء فورا»، أي جلوس كل الأطراف الى الطاولة من دون شروط مسبقة: بمعنى وجود النظام السوري مع بداية العملية السياسية، ثم قال: «نرحب بانضمام سوريا إلى معاهدة حظر السلاح الكيميائي»، في إشارة إلى توافق إيران مع الاتفاق الروسي ــ الأميركي. وأردف في جملة مليئة بالمعاني: «نحن ندافع عن صندوق الانتخابات في سوريا والبحرين».

وضع البحرين في سياق سوريا يعني تذكير الأطراف الإقليمية بقدرات إيران مثلما يعطي إشارة إيجابية إلى المعارضة البحرينية، وفي النهاية أن إيران مع الانتخابات وغير متمسكة ببقاء الأسد في نهاية مفاوضات الحل السلمي. هنا يحاول روحاني أن يصيب عدة عصافير بحجر واحد.

7 ــ العقوبات الاقتصادية والملف النووي

انتقد روحاني العقوبات التي تئن إيران تحت وطأتها بعنف، لكنه توخى الحديث عنها سابقاً، كي لا يظهر متلهفاً الى رفعها، ما يضعها في شروط تفاوضية أضعف: «العقوبات تتسم بالعنف وأياً كان نوعها فهي انتهاك لحقوق الإنسان.. وهي تنتهك فوق كل ذلك الحق في الحياة... التأثيرات لا تقع فقط على الضحايا وانما ايضا على البلاد التي تفرضها»، أي شركاتكم تخسر من فرض العقوبات علينا. ويعود روحاني لينثر الثنائيات من جديد، ليخفف من أهمية العقوبات الاقتصادية، كأنها ليست الدافع الأول للانفتاح الإيراني على أميركا، وليذكر من جديد بسردية الثنائيات التي بنى عليها كلمته في أذهان المستمعين.

شدد روحاني على الخط الأحمر الإيراني التفاوضي: «قبول حق إيران المشروع (في تخصيب اليورانيوم على أراضيها للأغراض السلمية) هو أساس الحل». ثم أعلن روحاني «بغض النظر عن مواقف الآخرين، نتمسك بالطابع السلمي للبرنامج النووي أخلاقياً ووطنياً، ورغبتنا في تبديد كل الشكوك حوله. إيران مستعدة فوراً كي تشرع في محادثات لبناء الثقة المتبادلة، ولا يمكن لأحد منع إيران حقها في حيازة برنامج نووي سلمي».

هنا يعين روحاني الخط الفاصل: نعم لمفاوضات لتبديد الشكوك.. لا للتنازل عن التخصيب.

8 ــ أميركا

قبيل النهاية نفذ روحاني إلى هدفه، بعد مقدمات محبوكة وثنائيات تفسيرية مؤثرة، ليقول بوضوح ان «إيران لا تسعى لرفع منسوب التوتر مع الولايات المتحدة. استمعت بانصات إلى كلمة الرئيس أوباما اليوم واتساقا مع الإرادة السياسية لقيادة أميركا وعلى أساس أنهم لا يسعون لتحقيق طموحات مجموعات الضغط الراغبة في شن الحرب. يمكن الوصول إلى إدارة الاختلافات على أساس الاحترام المتبادل والقانون الدولي. سمعنا مراراً وتكراراً أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة، وأنا أقول إن السلام ممكن».

9 ــ مبادرة دولية

لم يفوّت روحاني فرصة إطلالته الدولية الأولى، إذ أطلق مبادرة دولية ضد العنف والتطرف مستخدماً ثنائيته مرة أخرى: «جمهورية إيران الإسلامية تدعوكم كي تأخذوا خطوة إلى الأمام والانضمام إلى مشروع العالم ضد العنف والتطرف، لفتح أفق جديد ينتصر فيه التسامح على العنف، والتقدم على الدماء، العدالة على التمييز، والحرية على الاستبداد». وبقي أن يقول ربما انتصار الدم على السيف.

10 ــ الختام

يختتم روحاني كلمته مثلما استهلها بالخوف والرجاء: «عالمنا اليوم هو عالم مليء بالخوف والرجاء. الخوف من الحرب والعلاقات العدائية والتصادم القومي والمذهبي المقيت. الخوف من استعمال العنف والتطرف وتجاهل الأخلاق. وفي مقابل كل ذلك فهناك الأمل. نعم للسلام لا للحرب، والأمل بترجيح الحوار على الجدال». ولم يفته الاقتباس من شاعر إيران الكبير الفردوسي: «يجب أن نسعى من أجل الخير وعندها يمكننا أن نستقبل الربيع ونودع الشتاء. وبغض النظر عن الصعوبات فاني متفائل بالمستقبل». وبالطبع كان الختام آية قرآنية. بدأ روحاني بالتحية الإيرانية التقليدية وإليها عاد في النهاية. عاد، بعدما حلق بالمستمعين في ثنائيات الخوف والرجاء، مغيّراً صورة إيران في أذهان المستمعين.

شتان الفارق بين طريقة الإلقاء التي يجيدها أوباما على الطراز الأميركي المعتمدة على تنوع حركات الجسد وتغير نبرة الصوت، والطريقة الإيرانية التي تحلق بالمستمع في أجواء الثنائيات قبل أن تحط به على الأرض في النهاية بعد مداورة ومناورة في رحلة ذهنية وبلاغية حافلة بالإيحاءات والرموز، استغرقت خمسا وثلاثين دقيقة بالتمام والكمال.

 

 

(رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية ـ القاهرة)

  • فريق ماسة
  • 2013-09-25
  • 4446
  • من الأرشيف

الهجوم الديبلوماسي الإيراني: فلتنتهِ «المباريات الصفرية»!

خطفت كلمة الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء أمس الأول الأضواء، وأطلقت عاصفة من التكهنات بقرب عودة العلاقات الإيرانية ــ الأميركية. وفي حين كرر الرئيس الأميركي باراك أوباما لفظة إيران لأكثر من ست وعشرين مرة في كلمته، التي حاول إكسابها نكهة ولايته الأولى الأكثر لمعاناً من الثانية، فقد كانت كلمة روحاني أكثر إحكاماً وحاملة لنكهات وتوابل أكثر تنوعاً. أرسل أوباما رسالتين إلى إيران، واحدة مباشرة والأخرى ضمنية. الأولى أن «أميركا لا تريد تغيير النظام الإيراني»، والثانية أن «على إيران تبديد الشكوك بخصوص برنامجها النووي»، أي أن واشنطن تعترف لإيران بحق تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، لكن مع ضمانات للتحقق وتبديد الشكوك، وهو مطلب إيراني ثابت. في المقابل تعددت رسائل روحاني لأميركا ولم تقتصر على اثنتين فقط، وإن غلب عليها الطابع الضمني بين السطور، جرياً على تقاليد «التعارف» الإيرانية الشهيرة. يمكن تقسيم كلمة روحاني إلى عشرة أجزاء رئيسية هي: الديباجة، العلاقات الدولية، الشمال والجنوب، القوى الإقليمية، فلسطين، سوريا، الملف النووي الإيراني، العلاقات مع أميركا، مبادرة إيران الدولية الجديدة ومن ثم الختام. في الأجزاء العشرة نثر روحاني رسائله بشكل متدرج الكثافة، ومزج بين استعراض معارفه في العلاقات الدولية واعتزازه القومي ببلاده، وبين العملانية ووعيه بضرورة تغيير صورة إيران في العالم عموماً وأميركا تحديداً. 1 ــ الديباجة ابتدأ روحاني كلمته على الطريقة الإيرانية التقليدية بالصلاة على النبي وآله، ثم نفذ مباشرة إلى بناء المسرح الرمزي أو منصة الإطلاق لرسائلة السياسية المتعددة، مصوراً العالم على شكل ثنائيات تتصارع معاً. «العالم مليء بالأمل والخوف من الحرب، خوف من الهويات الدينية، التطرف والفقر وتدمير الموارد الطبيعية. في مقابل الأمل، نعم للسلام ولا للحرب. نأمل في انتصار الحوار على النزاعات وإعلاء الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان». يبدو روحاني هنا وللوهلة الأولى متأثراً بثنائيات الشرق القديم (الخير والشر ــ النور والظلام)، لكن هذه الثنائيات التي توزعت على فقرات كلمته المختلفة لها أبعاد سياسية واضحة وليست مجرد منمقات كلامية أو فلسفية. ومرد ذلك أن تعدد مستويات الخطاب في كلمة روحاني (أوباما والعالم والداخل الإيراني) يستلزم الإرتكاز على هذه الثنائيات لتوجيه رسائل إلى صناديق بريد مختلفة. «الإيرانيون اختاروا الأمل، أي الديموقراطية الإسلامية»، وكأنه يريد أن يقول ان انتخابي كان تجديداً لرغبة الإيرانيين في الأمل، وينبغي عليكم أن تقابلوا خطوته بخطوات من جانبكم. 2 ــ العلاقات الدولية اعتبرها روحاني «فرصاً ومخاطر في آنٍ معاً». يلاحظ هنا اعتماد الثنائيات مرة أخرى، ليخلق أرضية مشتركة بين إيران والمجتمع الدولي، ويعود ليحذر في شكل نصف صريح من أن «خطأ الحسابات ستكون له آثار سلبية على كل الأطراف الأخرى». ثم ينفذ روحاني إلى استعراض تضلعه في العلاقات الدولية وتوجيه رسالة مهمة إلى واشنطن: «في هذا المنعطف الحساس انتهت المباريات الصفرية (فيها فائز بكل شيء وخاسر لكل شيء)، وهي طرق قديمة. كما أن العسكرة والعنف هما طريقان فاشلان». يريد روحاني أن يقول ان المصالح المشتركة أبقى من التهديد، وإن سيناريو رابح ــ رابح هو الأجدى من المباريات الصفرية. حتى الآن يهيئ روحاني الأجواء بسلاسة لفتح صفحة جديدة مع تقريع واشنطن على سياساتها السابقة. 3 ــ الشمال والجنوب على العكس من خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات في نهاية التسعينيات لفك العزلة الدولية على إيران وقتذاك، يعتمد روحاني ثنائية الشمال والجنوب لإضفاء الطابع العالمي على خطابه. والسبب أن روحاني يريد أكثر من مجرد فك العزلة: شراكة على أساس الندية مع الولايات المتحدة. انتقد روحاني الرؤية التي تقول «ان هناك مركزاً حضارياً تحيط به أطراف غير متحضرة، وأضاف أن هذه الرؤية لمركز القوة والقدرة في العالم، تتبلور على شكل علاقة مبناها إصدار الأوامر من المركز الذي هو الشمال ضد الأطراف وهي الجنوب. هنا يتسق روحاني مع تصورات جمهورية إيران الإسلامية لنفسها، باعتبارها جزءا من الجنوب/العالم الثالث في مواجهة الشمال. وانتقد روحاني النظر إلى «القيم الغربية باعتبارها قيماً عالمية أو نحن الأعلى وانتم الأدنى، فذلك نموذج إدراكي غير مقبول. كما أن وضع الشمال كمحور العمل والجنوب في الهامش سيؤدي إلى حوار أحادي الاتجاه في العلاقات الدولية». هنا يرفع روحاني لواء العالم الثالث في مواجهة الغرب، مخاطباً بذلك الكتلة الأكبر من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. 4 ــ القوى الإقليمية نصت كلمة روحاني على انتقاد «السياقات السردية المتطرفة واعتماد العنف الاستراتيجي الذي يحرم القوى الاقليمية من مساحاتها الطبيعية للعمل، وسياسات الاحتواء وتغيير النظام من الخارج هي أمور خطرة». يقول روحاني ضمناً إن إيران قوة إقليمية وإن حرمانها من منطقة نفوذ إقليمي أمر غير مقبول إيرانياً. ثم يقول: «الخوف المرضي من الإسلام والشيعة وإيران هو خطاب يهدد السلم الدولي، لأنه يضع تهديدات غير موجودة على أرض الواقع، ومن يعزفون على نغمة تهديد إيران هم من يهددون المنطقة والعالم. جمهورية إيران الإسلامية كقوة إقليمية ستتصرف بطريقة مسؤولة في ما يتصل بالأمن الإقليمي والدولي، وهي مستعدة للتعاون في هذه المجالات ثنائيا ومتعددة الأطراف. إيران تسعى لحل المشاكل بدلا من خلقها على قاعدة الأمل والاحترام المتبادل». الكلام هنا انتقل إلى المكاشفة حول رؤية روحاني لإيران باعتبارها قوة إقليمية، وهو هدف إيران النهائي من تقاربها مع واشنطن: الاعتراف بوضعيتها الإقليمية. ولا يفوت هنا أن التدرج في متوالية الإسلام والشيعة وإيران، هو تسلسل منطقي، إلا إن وضعه في سياق الحديث عن القوى الإقليمية يعني أن إيران هي زعيمة الشيعة والمسلمين في العالم، وهو تصور شائع بين المفكرين الإيرانيين أسس له مؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل الخميني. 5 ــ فلسطين لا يفرط روحاني بورقة القضية الفلسطينية، لكنه يحولها إلى قضية إنسانية بالأساس حين يقول: «يتعرض شعب فلسطين لقمع عنيف وعنف ممنهج ومحروم من حق العودة. ما يجري لشعب فلسطين البريء ممارسات ممنهجة أسوأ من الفصل العنصري». الهدف هنا مزدوج، أولاً حشر إسرائيل المعادية لإيران في الزاوية، واستغلال المنبر الدولي للهجوم عليها، وثانياً تخفيف جرعة النقد بتحويل القضية إلى قضية إنسانية، حتى لا يترك للإسرائيليين فرصة اتهامه باللاسامية وتخريب زيارته. 6 ــ سوريا يقول روحاني «الهدف المشترك للمجتمع الدولي يجب أن يكون وقف الدماء فورا»، أي جلوس كل الأطراف الى الطاولة من دون شروط مسبقة: بمعنى وجود النظام السوري مع بداية العملية السياسية، ثم قال: «نرحب بانضمام سوريا إلى معاهدة حظر السلاح الكيميائي»، في إشارة إلى توافق إيران مع الاتفاق الروسي ــ الأميركي. وأردف في جملة مليئة بالمعاني: «نحن ندافع عن صندوق الانتخابات في سوريا والبحرين». وضع البحرين في سياق سوريا يعني تذكير الأطراف الإقليمية بقدرات إيران مثلما يعطي إشارة إيجابية إلى المعارضة البحرينية، وفي النهاية أن إيران مع الانتخابات وغير متمسكة ببقاء الأسد في نهاية مفاوضات الحل السلمي. هنا يحاول روحاني أن يصيب عدة عصافير بحجر واحد. 7 ــ العقوبات الاقتصادية والملف النووي انتقد روحاني العقوبات التي تئن إيران تحت وطأتها بعنف، لكنه توخى الحديث عنها سابقاً، كي لا يظهر متلهفاً الى رفعها، ما يضعها في شروط تفاوضية أضعف: «العقوبات تتسم بالعنف وأياً كان نوعها فهي انتهاك لحقوق الإنسان.. وهي تنتهك فوق كل ذلك الحق في الحياة... التأثيرات لا تقع فقط على الضحايا وانما ايضا على البلاد التي تفرضها»، أي شركاتكم تخسر من فرض العقوبات علينا. ويعود روحاني لينثر الثنائيات من جديد، ليخفف من أهمية العقوبات الاقتصادية، كأنها ليست الدافع الأول للانفتاح الإيراني على أميركا، وليذكر من جديد بسردية الثنائيات التي بنى عليها كلمته في أذهان المستمعين. شدد روحاني على الخط الأحمر الإيراني التفاوضي: «قبول حق إيران المشروع (في تخصيب اليورانيوم على أراضيها للأغراض السلمية) هو أساس الحل». ثم أعلن روحاني «بغض النظر عن مواقف الآخرين، نتمسك بالطابع السلمي للبرنامج النووي أخلاقياً ووطنياً، ورغبتنا في تبديد كل الشكوك حوله. إيران مستعدة فوراً كي تشرع في محادثات لبناء الثقة المتبادلة، ولا يمكن لأحد منع إيران حقها في حيازة برنامج نووي سلمي». هنا يعين روحاني الخط الفاصل: نعم لمفاوضات لتبديد الشكوك.. لا للتنازل عن التخصيب. 8 ــ أميركا قبيل النهاية نفذ روحاني إلى هدفه، بعد مقدمات محبوكة وثنائيات تفسيرية مؤثرة، ليقول بوضوح ان «إيران لا تسعى لرفع منسوب التوتر مع الولايات المتحدة. استمعت بانصات إلى كلمة الرئيس أوباما اليوم واتساقا مع الإرادة السياسية لقيادة أميركا وعلى أساس أنهم لا يسعون لتحقيق طموحات مجموعات الضغط الراغبة في شن الحرب. يمكن الوصول إلى إدارة الاختلافات على أساس الاحترام المتبادل والقانون الدولي. سمعنا مراراً وتكراراً أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة، وأنا أقول إن السلام ممكن». 9 ــ مبادرة دولية لم يفوّت روحاني فرصة إطلالته الدولية الأولى، إذ أطلق مبادرة دولية ضد العنف والتطرف مستخدماً ثنائيته مرة أخرى: «جمهورية إيران الإسلامية تدعوكم كي تأخذوا خطوة إلى الأمام والانضمام إلى مشروع العالم ضد العنف والتطرف، لفتح أفق جديد ينتصر فيه التسامح على العنف، والتقدم على الدماء، العدالة على التمييز، والحرية على الاستبداد». وبقي أن يقول ربما انتصار الدم على السيف. 10 ــ الختام يختتم روحاني كلمته مثلما استهلها بالخوف والرجاء: «عالمنا اليوم هو عالم مليء بالخوف والرجاء. الخوف من الحرب والعلاقات العدائية والتصادم القومي والمذهبي المقيت. الخوف من استعمال العنف والتطرف وتجاهل الأخلاق. وفي مقابل كل ذلك فهناك الأمل. نعم للسلام لا للحرب، والأمل بترجيح الحوار على الجدال». ولم يفته الاقتباس من شاعر إيران الكبير الفردوسي: «يجب أن نسعى من أجل الخير وعندها يمكننا أن نستقبل الربيع ونودع الشتاء. وبغض النظر عن الصعوبات فاني متفائل بالمستقبل». وبالطبع كان الختام آية قرآنية. بدأ روحاني بالتحية الإيرانية التقليدية وإليها عاد في النهاية. عاد، بعدما حلق بالمستمعين في ثنائيات الخوف والرجاء، مغيّراً صورة إيران في أذهان المستمعين. شتان الفارق بين طريقة الإلقاء التي يجيدها أوباما على الطراز الأميركي المعتمدة على تنوع حركات الجسد وتغير نبرة الصوت، والطريقة الإيرانية التي تحلق بالمستمع في أجواء الثنائيات قبل أن تحط به على الأرض في النهاية بعد مداورة ومناورة في رحلة ذهنية وبلاغية حافلة بالإيحاءات والرموز، استغرقت خمسا وثلاثين دقيقة بالتمام والكمال.     (رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية ـ القاهرة)

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة