بعد التهديد بضربة عسكرية، أدخلت واشنطن الى لعبة النزاع المفتوح مع نظام الرئيس بشار الأسد فصلاً معاكساً: التخلي الموقت عنها في مقابل تخليه عن السلاح الكيميائي. انتقلت المناورة من معاقبة الاسد الى فتح باب نجاة النظام. الأهم أن أحلام معارضيه بإسقاطه ذهبت هدراً

أوحى تبادل الرميات المتقنة بين الأميركيين والسوريين في الساعات الاخيرة بانتقال الطرفين من لغة تقاذف التهديد بالفعل ورد الفعل والتلويح بإشعال المنطقة الى احتمال جلوسهما الى طاولة مفاوضات، تعوّض الضربة العسكرية بوضع اليد على السلاح الكيميائي في سوريا. على أن اقتراح وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمس تسليم الرئيس السوري بشار الاسد هذا السلاح في مهلة قصيرة تفادياً للضربة، أبرَزَ الاهداف الفعلية للتهديد بالضربة العسكرية، وقد أدرجتها جهات ديبلوماسية معنية في بضع ملاحظات منها:

1 ـــ لم يتوخّ التهديد بالضربة إسقاط نظام الاسد بعدما أكد الرئيس الاميركي باراك أوباما، أكثر من مرة، أنه ليس في سلم روزنامته. لم يُنظر الى إسقاط النظام ايضاً على أنه هدف استراتيجي لواشنطن ما دام الاميركيون كرروا مراراً الحالات التي تحدوهم الى التلويح باستخدام القوة العسكرية وهي: الارهاب، تعرض الامن الوطني الاميركي للخطر، تعرض الاقتصاد والمصالح الاميركية للخطر، تعرض أمن إسرائيل للخطر. في أي من الحالات الاربع تلك لم يمسِ النظام السوري خطراً مباشراً على إحداها.

قيل الكثير في نتائج مرجحة تنجم عن الضربة: معاقبة الرئيس السوري بقسوة، تعديل موازين القوى العسكرية في سوريا لدفع الطرفين الى طاولة مؤتمر جنيف ـــ 2، منع النظام من استخدام السلاح الكيميائي بتحذيره ثم بتخويفه بضربه بعدما استنفد كل أنواع أسلحة جيشه ضد معارضة تقترب يوماً تلو آخر من امتلاك أسلحة مشابهة لأسلحته باستثناء سلاح الجو، منع أي دولة أخرى عبر الاقتصاص من الاسد من استخدام السلاح الكيميائي.

2 ـــ لأشهر خلت رسم أوباما ما سماه خطاً أحمر حول استخدام السلاح الكيميائي في الحرب السورية، محذراً من ردّ فعله حياله، الى أن استخدم فعلاً في 21 آب في الغوطة الشرقية، فسارعت واشنطن الى اتهام الاسد قبل أن يذهب المفتشون الدوليون الى هناك للتحقق من حصوله وإمكان اكتشاف الجاني الفعلي، إلا أن الاميركيين جزموا سلفاً بمسؤولية الاسد: مجرد وقوع مجزرة ناجمة عن استخدام هذا السلاح يعني أنه هو الفاعل كونه يملكه، في معزل عن احتمال حصول المعارضة المسلحة عليه من أبواب مفتوحة على تركيا والسعودية وقطر، ناهيك برغبتها في توجيه ضربة عسكرية غربية قاصمة الى النظام تعتقد بأنها ستتيح لها تسلم السلطة بالقوة وطرد الاسد أو قتله. وهو ما عوّلت عليه في الأيام التالية لإعلان أوباما أنه سيوجه ضربة عسكرية الى نظام الاسد. قالت المعارضة المسلحة عندئذ إنها تتوقع سقوط الرئيس وتستعد لملء الفراغ بالاستيلاء على الحكم. ثم أعلن الرئيس الاميركي أنه لا يريد إسقاطه بل معاقبته.

لم يعنِ ذلك كله سوى البحث عن الاهداف الفعلية للرئيس الاميركي، الكامنة في الضربة المرجحة ليس الا. بذلك، سواء استخدم الاسد السلاح الكيميائي أو لم يفعل ـــ وهو في نظر الاميركيين استخدمه ـــ بدا ما ترمي اليه الضربة العسكرية: وجود السلاح الكيميائي في سوريا لا استخدامه فحسب.

3 ـــ تبعاً لما تشير اليه الجهات الديبلوماسية المعنية، تحجّجت واشنطن باستخدام السلاح الكيميائي كي تمنع ـــ لمرة أولى وأخيرة ـــ استخدامه لدى أي دولة تمتلكه، وهي تعيش هاجس أن تعمد كوريا الشمالية الى ضرب كوريا الجنوبية به. لكن ثمة ما تتحجّج به واشنطن ايضاً يتجاوز خوفها على أمنها ومصالحها الدولية، يرتبط بأمن الدولة العبرية مباشرة: عندما تمتلك سوريا مخازن سلاح كيميائي كبيرة، فذلك يعني أن في وسع «حزب الله» أن يمتلكها ايضاً من سوريا بالذات التي مدّته بترسانة أسلحة ضخمة وصواريخ متطورة لم يتردد في استخدامها ضد الجيش الاسرائيلي في حرب 2006، وفي التهديد باستخدامها في ما بعد، في أي وقت.

لم يقل أحد في الغرب إن «حزب الله» يمتلك هذا السلاح، ولا اتهم بامتلاكه. ولا قال الحزب أيضاً إنه في حوزته. ولا توقع أحد أن يقول شيئاً من هذا القبيل. ليس معنياً بدوره بالضربة العسكرية الاميركية، ولا يُعدّ أحد أهدافها. إلا أنه يشكل تهديداً فعلياً لإسرائيل التي تأخذ إنذارات أمينه العام السيد حسن نصرالله على محمل الجدّ وتصدّقها وتتهيّبها، وخصوصاً عندما لوّح باستخدام طائرات وفعل.

وإذ يبدو «حزب الله» خارج النزاع الاقليمي والدولي حول سوريا، وخارج الضربة المتوقعة، إلا أنه منخرط في صلب النزاع الداخلي فيها، الأمر الذي يُخشى معه احتمال وصول هذا السلاح الى ترسانته كي يهدّد إسرائيل به.

4 ـــ بالتأكيد تريد واشنطن انتزاع السلاح الكيميائي من الاسد. إلا أنها لا تريده في أي حال في يد أي أحد سواه، وخصوصاً المعارضة المسلحة، وتحديداً التيّارات السلفية المتطرفة التي تقاتل النظام وتعدّها واشنطن إرهابية. يبرّر ذلك امتناع الادارة الاميركية عن بذل أي جهد مباشر لإسقاط نظام الاسد من دون ضمان بديل منه يخلفه، وحذرها من تقويض الجيش السوري، وسعيها الى تسوية سياسية تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة من الاسد الى سواه من غير وقوع سوريا في الفوضى.

هكذا يصبح تقويم خطورة استمرار وجود السلاح الكيميائي في سوريا ضرورياً وحتمياً، سواء استخدم أو لُوّح باستخدامه، وسواء ظل بين يدي النظام ورئيسه أو انتقل الى المعارضة المسلحة والتيّارات السلفية. كلا الخيارين أسوأ التوقعات المنتظرة لإسرائيل وأمنها، التي لا تريد هذا السلاح في هذا المكان أو ذاك.

5 ـــ رغم أن النظام أعطى موافقة مبدئية على وضع سلاحه الكيميائي تحت رقابة دولية، وجيّر استجابته لموسكو، إلا أن الجلوس الى طاولة التفاوض لا ينتزع من أيدي الاميركيين عصا الضربة العسكرية بغية إرغامه على هذا الخيار. وكي يكون تسليمه إياه مطلقاً وغير مشروط، ولئلا يتذرع ـــ على الجاري عادته ـــ بحجة تقليدية تكاد تكون تاريخية في حياة نظام البعث، هي أن سلاحاً تمتلكه الدولة السورية هو جزء من سيادتها وعزّتها واستقلالها، وملك شعبها وقرارها الوطني، لا تقبل تالياً بالتدخل من خلاله في شؤونها، لكنه في واقع الامر أحد أقوى أوراق التفاوض لدى النظام يصعب تخليه السهل عنها.

منذ أولى أشهر الحرب السورية، على اثر تحرك الجامعة العربية، راح النظام يملي مطالبه عليها. مرة برفض استقبال المراقبين العرب، وأخرى باستقبالهم وتنقلاتهم بشروطه لئلا ينتقص دورهم من السيادة الوطنية. قال بالذريعة نفسها عندما طرحت فكرة مؤتمر جنيف ـــ 1 في حزيران 2012، فاعتبر الاصلاح وانتقال السلطة قراراً سيادياً، وكذلك الانتخابات الرئاسية والنيابية. وقد يعاود الذريعة إياها عند الخوض في تفاصيل ترسانته للسلاح الكيميائي، ما يجعل الضربة العسكرية بديلاً ضرورياً، وقد يصبح محتماً.

  • فريق ماسة
  • 2013-09-09
  • 12220
  • من الأرشيف

مقايضة واشنطن: السلاح الكيميائي أهم من إسقاط النظام

بعد التهديد بضربة عسكرية، أدخلت واشنطن الى لعبة النزاع المفتوح مع نظام الرئيس بشار الأسد فصلاً معاكساً: التخلي الموقت عنها في مقابل تخليه عن السلاح الكيميائي. انتقلت المناورة من معاقبة الاسد الى فتح باب نجاة النظام. الأهم أن أحلام معارضيه بإسقاطه ذهبت هدراً أوحى تبادل الرميات المتقنة بين الأميركيين والسوريين في الساعات الاخيرة بانتقال الطرفين من لغة تقاذف التهديد بالفعل ورد الفعل والتلويح بإشعال المنطقة الى احتمال جلوسهما الى طاولة مفاوضات، تعوّض الضربة العسكرية بوضع اليد على السلاح الكيميائي في سوريا. على أن اقتراح وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمس تسليم الرئيس السوري بشار الاسد هذا السلاح في مهلة قصيرة تفادياً للضربة، أبرَزَ الاهداف الفعلية للتهديد بالضربة العسكرية، وقد أدرجتها جهات ديبلوماسية معنية في بضع ملاحظات منها: 1 ـــ لم يتوخّ التهديد بالضربة إسقاط نظام الاسد بعدما أكد الرئيس الاميركي باراك أوباما، أكثر من مرة، أنه ليس في سلم روزنامته. لم يُنظر الى إسقاط النظام ايضاً على أنه هدف استراتيجي لواشنطن ما دام الاميركيون كرروا مراراً الحالات التي تحدوهم الى التلويح باستخدام القوة العسكرية وهي: الارهاب، تعرض الامن الوطني الاميركي للخطر، تعرض الاقتصاد والمصالح الاميركية للخطر، تعرض أمن إسرائيل للخطر. في أي من الحالات الاربع تلك لم يمسِ النظام السوري خطراً مباشراً على إحداها. قيل الكثير في نتائج مرجحة تنجم عن الضربة: معاقبة الرئيس السوري بقسوة، تعديل موازين القوى العسكرية في سوريا لدفع الطرفين الى طاولة مؤتمر جنيف ـــ 2، منع النظام من استخدام السلاح الكيميائي بتحذيره ثم بتخويفه بضربه بعدما استنفد كل أنواع أسلحة جيشه ضد معارضة تقترب يوماً تلو آخر من امتلاك أسلحة مشابهة لأسلحته باستثناء سلاح الجو، منع أي دولة أخرى عبر الاقتصاص من الاسد من استخدام السلاح الكيميائي. 2 ـــ لأشهر خلت رسم أوباما ما سماه خطاً أحمر حول استخدام السلاح الكيميائي في الحرب السورية، محذراً من ردّ فعله حياله، الى أن استخدم فعلاً في 21 آب في الغوطة الشرقية، فسارعت واشنطن الى اتهام الاسد قبل أن يذهب المفتشون الدوليون الى هناك للتحقق من حصوله وإمكان اكتشاف الجاني الفعلي، إلا أن الاميركيين جزموا سلفاً بمسؤولية الاسد: مجرد وقوع مجزرة ناجمة عن استخدام هذا السلاح يعني أنه هو الفاعل كونه يملكه، في معزل عن احتمال حصول المعارضة المسلحة عليه من أبواب مفتوحة على تركيا والسعودية وقطر، ناهيك برغبتها في توجيه ضربة عسكرية غربية قاصمة الى النظام تعتقد بأنها ستتيح لها تسلم السلطة بالقوة وطرد الاسد أو قتله. وهو ما عوّلت عليه في الأيام التالية لإعلان أوباما أنه سيوجه ضربة عسكرية الى نظام الاسد. قالت المعارضة المسلحة عندئذ إنها تتوقع سقوط الرئيس وتستعد لملء الفراغ بالاستيلاء على الحكم. ثم أعلن الرئيس الاميركي أنه لا يريد إسقاطه بل معاقبته. لم يعنِ ذلك كله سوى البحث عن الاهداف الفعلية للرئيس الاميركي، الكامنة في الضربة المرجحة ليس الا. بذلك، سواء استخدم الاسد السلاح الكيميائي أو لم يفعل ـــ وهو في نظر الاميركيين استخدمه ـــ بدا ما ترمي اليه الضربة العسكرية: وجود السلاح الكيميائي في سوريا لا استخدامه فحسب. 3 ـــ تبعاً لما تشير اليه الجهات الديبلوماسية المعنية، تحجّجت واشنطن باستخدام السلاح الكيميائي كي تمنع ـــ لمرة أولى وأخيرة ـــ استخدامه لدى أي دولة تمتلكه، وهي تعيش هاجس أن تعمد كوريا الشمالية الى ضرب كوريا الجنوبية به. لكن ثمة ما تتحجّج به واشنطن ايضاً يتجاوز خوفها على أمنها ومصالحها الدولية، يرتبط بأمن الدولة العبرية مباشرة: عندما تمتلك سوريا مخازن سلاح كيميائي كبيرة، فذلك يعني أن في وسع «حزب الله» أن يمتلكها ايضاً من سوريا بالذات التي مدّته بترسانة أسلحة ضخمة وصواريخ متطورة لم يتردد في استخدامها ضد الجيش الاسرائيلي في حرب 2006، وفي التهديد باستخدامها في ما بعد، في أي وقت. لم يقل أحد في الغرب إن «حزب الله» يمتلك هذا السلاح، ولا اتهم بامتلاكه. ولا قال الحزب أيضاً إنه في حوزته. ولا توقع أحد أن يقول شيئاً من هذا القبيل. ليس معنياً بدوره بالضربة العسكرية الاميركية، ولا يُعدّ أحد أهدافها. إلا أنه يشكل تهديداً فعلياً لإسرائيل التي تأخذ إنذارات أمينه العام السيد حسن نصرالله على محمل الجدّ وتصدّقها وتتهيّبها، وخصوصاً عندما لوّح باستخدام طائرات وفعل. وإذ يبدو «حزب الله» خارج النزاع الاقليمي والدولي حول سوريا، وخارج الضربة المتوقعة، إلا أنه منخرط في صلب النزاع الداخلي فيها، الأمر الذي يُخشى معه احتمال وصول هذا السلاح الى ترسانته كي يهدّد إسرائيل به. 4 ـــ بالتأكيد تريد واشنطن انتزاع السلاح الكيميائي من الاسد. إلا أنها لا تريده في أي حال في يد أي أحد سواه، وخصوصاً المعارضة المسلحة، وتحديداً التيّارات السلفية المتطرفة التي تقاتل النظام وتعدّها واشنطن إرهابية. يبرّر ذلك امتناع الادارة الاميركية عن بذل أي جهد مباشر لإسقاط نظام الاسد من دون ضمان بديل منه يخلفه، وحذرها من تقويض الجيش السوري، وسعيها الى تسوية سياسية تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة من الاسد الى سواه من غير وقوع سوريا في الفوضى. هكذا يصبح تقويم خطورة استمرار وجود السلاح الكيميائي في سوريا ضرورياً وحتمياً، سواء استخدم أو لُوّح باستخدامه، وسواء ظل بين يدي النظام ورئيسه أو انتقل الى المعارضة المسلحة والتيّارات السلفية. كلا الخيارين أسوأ التوقعات المنتظرة لإسرائيل وأمنها، التي لا تريد هذا السلاح في هذا المكان أو ذاك. 5 ـــ رغم أن النظام أعطى موافقة مبدئية على وضع سلاحه الكيميائي تحت رقابة دولية، وجيّر استجابته لموسكو، إلا أن الجلوس الى طاولة التفاوض لا ينتزع من أيدي الاميركيين عصا الضربة العسكرية بغية إرغامه على هذا الخيار. وكي يكون تسليمه إياه مطلقاً وغير مشروط، ولئلا يتذرع ـــ على الجاري عادته ـــ بحجة تقليدية تكاد تكون تاريخية في حياة نظام البعث، هي أن سلاحاً تمتلكه الدولة السورية هو جزء من سيادتها وعزّتها واستقلالها، وملك شعبها وقرارها الوطني، لا تقبل تالياً بالتدخل من خلاله في شؤونها، لكنه في واقع الامر أحد أقوى أوراق التفاوض لدى النظام يصعب تخليه السهل عنها. منذ أولى أشهر الحرب السورية، على اثر تحرك الجامعة العربية، راح النظام يملي مطالبه عليها. مرة برفض استقبال المراقبين العرب، وأخرى باستقبالهم وتنقلاتهم بشروطه لئلا ينتقص دورهم من السيادة الوطنية. قال بالذريعة نفسها عندما طرحت فكرة مؤتمر جنيف ـــ 1 في حزيران 2012، فاعتبر الاصلاح وانتقال السلطة قراراً سيادياً، وكذلك الانتخابات الرئاسية والنيابية. وقد يعاود الذريعة إياها عند الخوض في تفاصيل ترسانته للسلاح الكيميائي، ما يجعل الضربة العسكرية بديلاً ضرورياً، وقد يصبح محتماً.

المصدر : الأخبار/ نقولا ناصيف


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة