دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
وقع العدوان الأميركي على سورية، إفتراضياً، وكانت أولى نتائجه خيبة أميركية – رجعية عربية من نتائجه المأمولة. ولم يعد أمام الإمبريالية الأميركية سوى خيارين للنقاش: التسوية الشاملة أو الحرب الشاملة
إذا كانت الحرب هي ممارسة للسياسة بوسائل أخرى ـــ وهي، كذلك، بالفعل ـــ فالضربة الصاروخية، في سلسلة العدوان الأميركي الطويل على سورية، وقعتْ، بكلّ أبعادها، ولكن…
افتراضيَّاً. والحرب الافتراضيّة، هي، سياسياً واستراتيجياً، حربٌ كاملة، من حيث أنها تكشف المواقف والمواقع، وتُظهِّر التحوّلات فيهما، وتوضّح موازين القوى الفعلية، وتُقرِّب مشهد التوقّعات من الواقع، وتطرح الاستنتاجات الأقرب إلى اتجاهاته. وهذا هو السبب في أن واشنطن أرخت أصابعها عن الزناد، وتراجعت.
ليس الأمر أن الرئيس باراك أوباما ضعيف، إنما الضعف في الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، وليس الأمر أنه متردد ـــ ما أتاح الصيغة الافتراضية للمواجهة الحاصلة ـــ إنما هو تردُّد امبراطورية لا تريد الإقرار بأن العالم تغيّر، وأنه لم يعد بإمكانها أن تتجاهل نقاط ضعفها، ونقاط التفوّق لدى القوى الدولية والإقليمية الصاعدة، ولكنها تصطدم بحقائق واستحقاقات الجديد في السياسة العالمية؛ روسيا (والصين) وإيران وحزب الله، ومن قبل ومن بعد: معجزة الصمود التي اسمها سورية.
تفتقر الولايات المتحدة، للقدرات اللازمة لشنّ حرب شاملة طويلة؛ فهي تعاني أزمة اقتصادية مركّبة ومعقّدة لا يحلّها مجرد التمويل الخليجي للعمليات الحربية، وتعاني من «عقدة العراق» التي جددت «عقدة فيتنام»، ووضعت الرأي العام الأميركي في حالة انكفاء داخلي (تذكّروا أن حرب العراق تكلفت صدقية واشنطن وتشقق صورتها وهزيمتها، عسكرياً وسياسياً، وعدة ترليونات من الدولارات وخسائر اقتصادية استراتيجية وآلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعطوبين الذين تحوّلوا عبئا على الميزانية والمجتمع)، وتعاني الولايات المتحدة من، بل تلهث في، السباق الاقتصادي والتقني والعلمي مع الصين، وتواجه ـــ وهي الغارقة في الديون والأزمة المالية ــــ تحدي مجموعة «بريكس» التي تفتح فضاء اقتصاديا وماليا مستقلا، مؤهلا للإطاحة بالسوق الامبريالية وبهيمنة الدولار، ثم يفرض الصعود الروسي عليها، عودة اضطرارية للحرب الباردة، بكل تكاليفها المالية والسياسية والاستراتيجية، بينما هي مضطرة لإدارة صراعات كبرى من آسيا ـــ ذات الأولوية ـــ إلى جيرانها المتمردين في أميركا اللاتينية، إلى معركة إعادة رسم خريطة السيطرة العالمية على الطاقة والأسواق الخ. وكل ذلك، دفع بالإمبرياليين الأميركيين إلى الاستعانة بالحلفاء المحليين، وبالإرهابيين لخوض معركتهم في سورية والمشرق. هنا، يبدو مضحكا كل ذلك السجال حول مخاوف تسليح الجماعات التكفيرية الإرهابية؛ فليس لدى الولايات المتحدة من بديل سوى هذه الجماعات للقتال ضد أعدائها في سوريا والعراق ولبنان، وتاليا إيران وروسيا. إنها ملزوزة، موضوعياً، للتحالف مع القوى الإرهابية، من جهة، وهو ما يفضحها ويربكها، من جهة أخرى.
لم يستغن البيت الأبيض عن جيشه من الإسلاميين التكفيريين الإرهابيين. بالعكس، فهو، حين نقل البندقية من الكتف القَطري التركي الإخواني إلى الكتف السعودي، كان يدرك، جيدا جدا، خياره باعتماد الإرهاب التكفيري، حصريا، كحليف رئيسي. والإرهاب صناعة سعودية بامتياز، بل ليس لدى السعودية، بالإضافة إلى المال السياسي، سوى الإرهابيين لتنفيذ سياساتها.
تتوهم ما تسمى المعارضة السورية ـــ كما تتوهم الدوحة والرياض وأنقرة ـــ بقدرة «القوة العظمى الوحيدة»، كما تراها، وتحصد الخيبة وراء الأخرى، لكن ما تحاوله الولايات المتحدة، بعد فشل المقاربة الإخوانية ـــ التكفيرية في تحقيق نتائج حاسمة في الميدان، هو القيام بتحسين شروط التسوية لصالحها، ولو بصيغة لا غالب ولا مغلوب؛ هكذا فكّرت بخيار عسكري هجين، يحافظ على الحضور الامبراطوري من دون الانجرار إلى حرب شاملة مع سوريا وإيران وحزب الله، ومن دون الاصطدام بالرّوس في ملفات أساسية في السياسة الدولية. ولذلك، تم الإعلان، مرة بعد مرة، عن «ضربة محدودة ومحددة»، وجرى التفاوض مع أطراف المحور المضاد، لإدارة تلك الضربة، بما يضمن تلافي الحرب. وهي محض سذاجة أبداها الامبريالي، باراك أوباما، ولم تمش، أميركياً، على الرأي العام الرافض للحروب، ولا على اليمين المصرّ، رغم كل شيء، على أن تكون الضربة حربا شاملة لإسقاط الأسد، في تصور يتوهم تجديد مرحلة المحافظين الجدد. وكما في الولايات المتحدة، كذلك في الغرب كله، وُضع الحل نصف العسكري، الغامض الأهداف، في سلّة المهملات.
واتضحت، كذلك، النتائج السياسية للضربة الافتراضية بلا رتوش؛ انكشفت أطراف ما يسمى بالمعارضة السورية وحلفائها، صراحة، بوصفها طابورا خامسا متحمسا للخيانة ــــ وسرعان ما أصبح أضحوكة في «اليوم التالي» الموعود ـــ واكتسب النظام السوري المزيد من الشرعية والهيبة والتأييد، سورياً وعربياً، وبدأت الهيمنة الخليجية الرجعية والليبرالية معا، على السياسة والمزاج الجماهيري في العالم العربي، بالتفكك. وعلى رغم سيل التشكيك المفبرك بحليفَي سوريا والمقاومة، روسيا وإيران، ترسخت الثقة العربية بهما، بينما تعرضت الصدقية الأميركية للهوان.
بالمحصلة، هُزمتْ، حتى الآن، خيارات واشنطن لإدارة الملف السوري من خلال القوى الإقليمية والعمليات الأمنية والتسليح والإرهاب والضربة المحدودة الخ، ولم يعد أمام الإمبريالية الأميركية سوى خيارين للنقاش في كونغرسها ومؤسساتها؛ التسوية الشاملة أو الحرب الشاملة.
يتمثل الخيار الأول، خيار التسوية الشاملة، بالاعتراف بموازين القوى الدولية والشرق أوسطية الجديدة، والذهاب إلى تسوية في سوريا، بالشروط الروسية، سوف تجر تسويات إقليمية عديدة، من النووي الإيراني إلى القضية الفلسطينية وغاز السواحل السورية اللبنانية والجولان، وتنتهي بالقبول الواقعي، والصراعي، بقطبية محور دولي جديد يضم الصين وروسيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان، ويحيّد الأردن، ويزلزل تركيا، ويدفع بالعملية السياسية المصرية نحو آفاق الدولة الوطنية التنموية، ويعيد بناء النظام العربي على أساس تهميش السعودية والخليج (الربيع الخليجي الآتي؟) ولا يتناقض هذا الخيار (جنيف 2 بالأجندة الروسية) مع اعلانات قوية متوقعة عن دعم المعارضة وتوحيدها وتسليحها الخ، إلا أن ذلك لا يساوي شيئا في سيرورة التسوية / التسويات ومضمونها ونطاقها.
نتوقف، هنا، عند الرأي الساذج الذي يرى أن للولايات المتحدة مصلحة في ديمومة الحرب في سوريا لاستنزافها واستنزاف أطرافها. كلا. للولايات المتحدة مصلحة في هزيمة سريعة وحاسمة لنظام الرئيس بشار الأسد، لزعزعة وضرب محور المقاومة، وتركيب صيغة خليجية رجعية إسرائيلية، لإدارة الشرق الأوسط، بالوكالة، في مواجهة الصعود الروسي. كذلك، فإن الاستنزاف ذاك، مهما طال، له خاتمة اتضحت معالمها بانتصارات الجيش العربي السوري على جحافل الإرهابيين؛ فالواقع الميداني يثبت، يوما بعد يوم، أن الفكرة القائلة بعدم امكانية الحسم العسكري في سوريا، هي فكرة باطلة.
الخيار الثاني، خيار الحرب الشاملة، يستلزم تكوين تحالف الراغبين، وتكوين عناصر القوة الكافية لخوض الحرب، في الجو والبحر والبر؛ أي غزو سوريا. ودون ذلك عوائق أوضحناها أعلاه، لكن الامبراطوريات، كما يرينا التاريخ، تُجَنّ، وترفض، في لحظة أفولها، التسويات الممكنة، لتذهب نحو خاتمتها المحتومة. وإذا توصّلت الامبراطورية الأميركية الآفلة إلى لحظة الجنون تلك، فمعنى ذلك أنها مضطرة إلى تحالف عسكري صريح يشمل إسرائيل وتركيا والسعودية ودول الخليج والأردن، وتحشيد كل القوى لخوض الحرب، في مقابل تحشيد مضاد من قبل إيران وسوريا وحزب الله. وهي قوى تمتلك قدرات دفاعية استراتيجية، بالإضافة إلى الدعم المتعدد الأبعاد الذي ستكون روسيا ملزوزة إلى ـــ إن لم نقل راغبة في ـــ تقديمه.
على المستوى السياسي، فإن اضطرار الأميركيين إلى إسرائيل كطرف قيادي في الحرب، سوف يكشف كامل المشهد الصراعي في المنطقة، مما يفتح الباب أمام حسم التوجه الاستقلالي في العراق، واندلاع موجات ثورية في مصر والأردن وأنحاء العالم العربي، والضغط على كل التيارات والحركات للاصطفاف في أحد خندقَي الحرب التي سينجم عنها الكثير من الدمار، ويسقط فيها الكثير من الشهداء والجرحى، لكنها ستكون قابلة التاريخ الجديد لبلادنا.
للتسوية الشاملة أو للحرب الشاملة، خلّ السلاح صاحي، بنادق ومظاهرات وتحشيدا وأقلاما ووعيا حادا كالنصل؛ فليس بيننا، اليوم، إلا مقاوم أو خائن.
المصدر :
الأخبار / ناهض حتر
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة