هنا لا مجال لاستخدام لغة العقل أو المنطق، فالحدث يفرض لغته، إذ يجب ابتداع مفردات تليق بهول المجزرة. يجب أن نبتدع كلمات مُفخمة ومثقلة بالإجرام اللابشري لوصف تلك المجزرة في الغوطة الشرقية.

يا لكرم حملة السلاح السوريين، فهم لم يرحبوا بالمراقبين الدوليين بأن يذبحوا لهم خرافا، فالحفاوة وكرم الضيافة السوري يفوق التصور، إذ إنهم رحبوا بالمراقبين الذين عبروا محيطات لأن قلبهم على الشعب السوري، يريدون أن يتحققوا إن تم استعمال السلاح الكيميائي أم لا!

يا سلام على الحس الإنساني الرفيع المستوى، فكان الترحيب بهم بأضاح بشرية، بمئات من أجساد الأطفال المرصوفة قرب بعضها وكأنها في أحلى نوم، وقد علق بأهدابهم بقايا ذعر وذهول، لكنهم سعداء كونهم سيتركون الجحيم معا، كما لو أنهم ذاهبون إلى المدرسة أو إلى الحديقة، ومئات من جثث طازجة وطرية لمدنيين قُتلوا كأضاح تقدم على مذبح المجتمع الدولي وعلى عيون العالم الزجاجية.

كيف يمكن للغة أن ترقى لوصف مجزرة! وإذا كان هناك لغة للحب ولغة للتجارة ولغة للعلم، فالضرورة الإسعافية تقتضي أن نبتدع لغة للمجازر. وبما أن سوريا مهد الأبجدية وآثار أوغاريت تستقطب العالم كأول أبجدية، فها هي سوريا اليوم تعيد إنتاج أبجديتها، أبجدية القتل والمجازر.

لماذا جاء المراقبون إلى سوريا؟ هل ليفتشوا عن استعمال السلاح الكيميائي؟ أم ليغمزوا الأطراف المٌجرمة التي تستعمله كي تأخذ مجدها في استعماله. كل سوري صار ينتظر إجراما فوق العادة في سوريا.

إحدى الأمهات في حلب التي لم تترك بيتها رغم الأهوال ورغم أنها وأولادها يرون كلابا تنهش جثثا في الشوارع، قالت لي أن كل أمنياتها صارت: أن تموت هي وأولادها حال نزول صاروخ في بيتهم، لأن الموت أرحم من العيش بإعاقات رهيبة. كيف يمكن لأم أن تحكي ببساطة عن موت أولادها! كأحسن خيار مٌتاح في بلد سبق رواندا وأنغولا وكل مجازر العالم في الحاضر والتاريخ في الإجرام.

ماذا بعد الكيميائي يا سادة العالم؟ ما السيناريو المكتوب للشعب السوري؟ هل من قرر في كواليس السياسة القذرة استخدام القنبلة النووية مثلا، كما حصل في هيروشيما وناغازاكي؟ وما الذي يمنع؟ هل من ضمير يمنع ؟ هل من معنى لكلمة ضمير؟ أم انها مثل شيك من دون رصيد تُستعمل فقط لتزيين المجازر. ربما المعنى الحقيقي لكلمة ضمير لدى سادة العالم السفاحين هي إضمار نية مُبيتة وهي نية إبادة الشعب السوري وسحقه حتى هرس نقي عظامه، وتسميد تربة وطنه بدماء وعظام وأحلام السوريين.

أحد النازحين قال لي وهو يقف أمام بسطة صغيرة يبيع ذرة مفروطة: أشعر انني نصف حيوان، نصف إنسان. أذهلني هذا الوصف المعبر ببلاغة وصدق عن حالة كل سوري. أي وطن هذا يشعر المواطن فيه أنه نصف حيوان ونصف إنسان!

لطالما أحببت حالات الانبهار، الانبهار من الجمال ومن الصدف ومن غير المتوقع، أما أن أصل إلى مرحلة الانبهار من الإجرام فهذا ما لم أتوقعه.

أنا وكل أحبائي المنكوبين السوريين نعيش حالة انبهار وذهول من هول الإجرام الذي يبدو كأنه ليس بشريا ولا منطقيا. يبدو كلعنة لا يقدر حتى الشيطان في أعظم لحظات تجلي الشر فيه أن يلحقها بالناس. فأي شيطان هذا الذي استوطن سوريا! هل هو شيطان مُحسن ومُعدل كي يكون أذاه وشره فتاكا لدرجة يصعق الجميع ويبهرهم ابهار الشر المُطلق؟ هل سيتكمن أي سوري بعد هذه المجازر المروعة أن يستعمل تعبير: ماذا بعد! هل هناك بعد! أم أن هنا الموت، هنا القتل والذبح والكيميائي والعنقودي وهنا الجحيم!

مجزرة قرية البيضا تهدي سلامها لمجزرة ريف اللاذقية، ومجزرة أطفال الحولة تهدي سلامها لمجزرة الغوطة الشرقية، ومجزرة حماه تهدي سلامها لمجزرة حلب، والكل يغني مع زياد الرحباني: سلم لي عليه! موتى يسلمون على موتى، أحياء لا يعرفون وهم يغبون الهواء في شهيق عميق انهم سيطلقون أرواحهم في زفير قصير ويلحقون بالموتى الطازجين وهم يسلمون على موتى مثلهم قُدِّموا أضاحي للترحيب بالمراقبين الدوليين.

حالة من الجنون تبدو خارج نطاق ما هو بشري! هستيريا، أشبه بإعصار، لا أحد يريد لها أن تتوقف، كلام وتحليلات سياسية لا تحرض في نفوس السوريين سوى على الغثيان، والكل يكذب على الكل، والكل يقتل الكل، والكل شريك في الدم السوري، والكل يختبئ وراء المراقبين الدوليين.

ألم نشهد تفاقم المجازر كلما زار سوريا وفد من المراقبين. لم أعد أسمع ما يقوله السوريون، لم أعد أفهم أحاديثهم فأنا لا أسمع سوى أنين أصواتهم التي رقت وإمحت كأرواحهم من هول الترويع والقهر والذعر. صاروا يشعرون كما عبر بائع الذرة الأمي بأنهم نصف حيوان ونصف إنسان.

لكن لا يسعني إلا أن أتساءل: إذا كان كل يوم من وجود المراقبين سيهدونهم أكثر من ألف أضحية من الشعب السوري فكم يوما سيبقون؟ وكم أضحية سيحتاجون لإنجاز مهمتهم الإنسانية التي تتلخص في استعمال السلاح الكيميائي؟

ليبدأوا مرحلة ما بعد الكيميائي.

  • فريق ماسة
  • 2013-08-23
  • 8745
  • من الأرشيف

يا هلا.. يا هلا بالمراقبين!

هنا لا مجال لاستخدام لغة العقل أو المنطق، فالحدث يفرض لغته، إذ يجب ابتداع مفردات تليق بهول المجزرة. يجب أن نبتدع كلمات مُفخمة ومثقلة بالإجرام اللابشري لوصف تلك المجزرة في الغوطة الشرقية. يا لكرم حملة السلاح السوريين، فهم لم يرحبوا بالمراقبين الدوليين بأن يذبحوا لهم خرافا، فالحفاوة وكرم الضيافة السوري يفوق التصور، إذ إنهم رحبوا بالمراقبين الذين عبروا محيطات لأن قلبهم على الشعب السوري، يريدون أن يتحققوا إن تم استعمال السلاح الكيميائي أم لا! يا سلام على الحس الإنساني الرفيع المستوى، فكان الترحيب بهم بأضاح بشرية، بمئات من أجساد الأطفال المرصوفة قرب بعضها وكأنها في أحلى نوم، وقد علق بأهدابهم بقايا ذعر وذهول، لكنهم سعداء كونهم سيتركون الجحيم معا، كما لو أنهم ذاهبون إلى المدرسة أو إلى الحديقة، ومئات من جثث طازجة وطرية لمدنيين قُتلوا كأضاح تقدم على مذبح المجتمع الدولي وعلى عيون العالم الزجاجية. كيف يمكن للغة أن ترقى لوصف مجزرة! وإذا كان هناك لغة للحب ولغة للتجارة ولغة للعلم، فالضرورة الإسعافية تقتضي أن نبتدع لغة للمجازر. وبما أن سوريا مهد الأبجدية وآثار أوغاريت تستقطب العالم كأول أبجدية، فها هي سوريا اليوم تعيد إنتاج أبجديتها، أبجدية القتل والمجازر. لماذا جاء المراقبون إلى سوريا؟ هل ليفتشوا عن استعمال السلاح الكيميائي؟ أم ليغمزوا الأطراف المٌجرمة التي تستعمله كي تأخذ مجدها في استعماله. كل سوري صار ينتظر إجراما فوق العادة في سوريا. إحدى الأمهات في حلب التي لم تترك بيتها رغم الأهوال ورغم أنها وأولادها يرون كلابا تنهش جثثا في الشوارع، قالت لي أن كل أمنياتها صارت: أن تموت هي وأولادها حال نزول صاروخ في بيتهم، لأن الموت أرحم من العيش بإعاقات رهيبة. كيف يمكن لأم أن تحكي ببساطة عن موت أولادها! كأحسن خيار مٌتاح في بلد سبق رواندا وأنغولا وكل مجازر العالم في الحاضر والتاريخ في الإجرام. ماذا بعد الكيميائي يا سادة العالم؟ ما السيناريو المكتوب للشعب السوري؟ هل من قرر في كواليس السياسة القذرة استخدام القنبلة النووية مثلا، كما حصل في هيروشيما وناغازاكي؟ وما الذي يمنع؟ هل من ضمير يمنع ؟ هل من معنى لكلمة ضمير؟ أم انها مثل شيك من دون رصيد تُستعمل فقط لتزيين المجازر. ربما المعنى الحقيقي لكلمة ضمير لدى سادة العالم السفاحين هي إضمار نية مُبيتة وهي نية إبادة الشعب السوري وسحقه حتى هرس نقي عظامه، وتسميد تربة وطنه بدماء وعظام وأحلام السوريين. أحد النازحين قال لي وهو يقف أمام بسطة صغيرة يبيع ذرة مفروطة: أشعر انني نصف حيوان، نصف إنسان. أذهلني هذا الوصف المعبر ببلاغة وصدق عن حالة كل سوري. أي وطن هذا يشعر المواطن فيه أنه نصف حيوان ونصف إنسان! لطالما أحببت حالات الانبهار، الانبهار من الجمال ومن الصدف ومن غير المتوقع، أما أن أصل إلى مرحلة الانبهار من الإجرام فهذا ما لم أتوقعه. أنا وكل أحبائي المنكوبين السوريين نعيش حالة انبهار وذهول من هول الإجرام الذي يبدو كأنه ليس بشريا ولا منطقيا. يبدو كلعنة لا يقدر حتى الشيطان في أعظم لحظات تجلي الشر فيه أن يلحقها بالناس. فأي شيطان هذا الذي استوطن سوريا! هل هو شيطان مُحسن ومُعدل كي يكون أذاه وشره فتاكا لدرجة يصعق الجميع ويبهرهم ابهار الشر المُطلق؟ هل سيتكمن أي سوري بعد هذه المجازر المروعة أن يستعمل تعبير: ماذا بعد! هل هناك بعد! أم أن هنا الموت، هنا القتل والذبح والكيميائي والعنقودي وهنا الجحيم! مجزرة قرية البيضا تهدي سلامها لمجزرة ريف اللاذقية، ومجزرة أطفال الحولة تهدي سلامها لمجزرة الغوطة الشرقية، ومجزرة حماه تهدي سلامها لمجزرة حلب، والكل يغني مع زياد الرحباني: سلم لي عليه! موتى يسلمون على موتى، أحياء لا يعرفون وهم يغبون الهواء في شهيق عميق انهم سيطلقون أرواحهم في زفير قصير ويلحقون بالموتى الطازجين وهم يسلمون على موتى مثلهم قُدِّموا أضاحي للترحيب بالمراقبين الدوليين. حالة من الجنون تبدو خارج نطاق ما هو بشري! هستيريا، أشبه بإعصار، لا أحد يريد لها أن تتوقف، كلام وتحليلات سياسية لا تحرض في نفوس السوريين سوى على الغثيان، والكل يكذب على الكل، والكل يقتل الكل، والكل شريك في الدم السوري، والكل يختبئ وراء المراقبين الدوليين. ألم نشهد تفاقم المجازر كلما زار سوريا وفد من المراقبين. لم أعد أسمع ما يقوله السوريون، لم أعد أفهم أحاديثهم فأنا لا أسمع سوى أنين أصواتهم التي رقت وإمحت كأرواحهم من هول الترويع والقهر والذعر. صاروا يشعرون كما عبر بائع الذرة الأمي بأنهم نصف حيوان ونصف إنسان. لكن لا يسعني إلا أن أتساءل: إذا كان كل يوم من وجود المراقبين سيهدونهم أكثر من ألف أضحية من الشعب السوري فكم يوما سيبقون؟ وكم أضحية سيحتاجون لإنجاز مهمتهم الإنسانية التي تتلخص في استعمال السلاح الكيميائي؟ ليبدأوا مرحلة ما بعد الكيميائي.

المصدر : هيفاء بيطار/ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة