من أجل رند كنت مستعدة أن أذهب معها إلى آخر العالم، لكن آخر العالم في سوريا هو مراكز توزيع المعونات للاجئين!

التقيت رند في العيادة العينــية في المستشفى الوطني. كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتضع نظارة طبـــية مهترئة، وثمة سلك حديدي يصل قطعتي النظارة المكسورة. لم تستوقفـــني رند لأنها نازحة من حلب، فقد اعتدت - رغما عني - على النازحين أحبائي السوريين. لكن ما أدهشني حقا أن هذه الطفلة لم تفقد حيوية روحها، لم يخبُ بريق عينيها، ولم يجف صوتها ويذبل. كانت برفقة امرأة غارقـــة في السواد أشبه بصنم، لا تتكلم وتبدو في عالم آخر، كـــما لو أن روحـــها مخطوفة.

سألت رند: أهي أمك؟ ابتسمت، وقالت: لا هذه خالتي. فسألت: أين أمك ؟ قالت: أمي في البيت. لا يجوز أن تخرج منه لأنها في العدة، فقد وضعت طفلة ووالدي وأخي ماتا في حلب بعد سقوط الصاروخ على بيتنا. هممت أن أسألها إن كانت قد شاهدت الصاروخ كيف يسقط ويقتل أباها وأخاها، لكني لم أجرؤ على السؤال. لم أكن بقادرة على تحمل جوابها مهما كان. كنت جبانة إذ صرت أخشى حقا أن يُغمى علي وأنا أرى معاناة أطفال سوريا تحديدا.

وبدا جواب رند بالطريقة الطبيعية التي تحكي فيها، فضيحة عصرنا اللاأخلاقي. لم تنس رند أن تسرح شعرها الأسود الطويل وأن تربطه بمطاطة زرقاء. لم تنس أن تضع بضعة مناديل ورقية في حقيبتها الصغيرة الخاوية، وأن تخرج منديلا لتمسح قطرات العرق عن جبينها، وهي تبتسم لي بعذوبة، وتقول: كم يختلف مناخ حلب عن مناخ اللاذقية، هنا الرطوبة عالية جدا. في حلب لا نتعرق هكذا!

فكرت أن رند مشتاقة للابتسام، مشتاقة لطفولتها التي لا تريد أن تعترف أن الصاروخ نسفها، كما قتل والدها وأخاها. ابتسامة رند المُشعة جعلتني أذوب حبا لكل أطفال سوريا. قلت لها: كم كان عمر والدك وأخيك؟ قالت أبي كان عمره 45 وأخي تسع سنوات لما قتلهما الصـــاروخ!. أردت أن أقـــول لهـــا: أحســـنت، إذ تحـــددين ســـبب الوفـــاة.

عرفت من المرأة الصنم التي ترافقها أنهم نزحوا من حلب واستأجروا بيتا في حي الرمل الفلسطيني، وأن أختها، أم رند، مصابة بصدمة عصبية بعد موت زوجها وإبنها، وبأنها بالكاد تعتني بالطفلة الرضيع. أما الخالة المرأة الذاهلة فقد توفي زوجها برصاص قناص، وابنها مفقود لا تعرف هل هو حي أم ميت، والأختان لا تعرفان اللاذقية أبدا وتفتشان عن مراكز لإعانة النازحين. اتصلت بإحدى المؤسسات التي تعني بالنازحين وكتبت للمرأة العنوان، ووعدت رند أنني سأغير لها النظارة، فشع وجهها بابتسامة، ووجدتني أردد: رند المُنتصرة! أليست الإبتسامة أكبر نصر؟

بعد أقل من ربع ساعة اتصلت بي خالة رند تبكي، وقالت: يبدو أنني تهت، أرجوك ساعدينا. قلت لها: انتظري أنا قادمة حالا. من أجل رند كنت مستعدة أن أذهب حتى آخر العالم، ووصلت إلى المركز الذي يقدم مساعدات للنازحين السوريين، كانت شمس من رصاص تصهر مئات النازحين وتُخمرهم بالعرق والرطوبة، ورند ركضت نحوي مبتسمة ورمت جسدها النحيل في حضني وهي تقول: شكرا لأنك أتيت. ثم مسحت بخار الماء عن نظارتها الطبية المُخلعة، وقبل أن أشق لنفسي طريقا وسط حشد النازحين انفجر شجار مدو لم أستطع أن أحدد بدقة أطرافه، لكن ما فهمته وسط سيل الشتائم أن نازحات عدة من الحفة لم يحظين بالمعونات، لأن الحفة منطقة آمنة! هكذا قالوا لهن! صوت إمرأة يمزق الهواء تصرخ: أي أمان هذا؟! يا أخي تدمر بيتي في الحفة، وأعيش مع أسرتي في كاراج للسيارات سمح لنا أحد المُحسنين أن نعيش فيه، فأي أمان هذا؟ اذهب إلى الحفة، هل ترى حياة؟ والله مثل صمت القبور!

وجدتني أهذي ربما بسبب الشمس الحارقة والرطوبة الخانقة وسط لوحة البؤس السوري المُكتمل، وأستعيد لقطات بديعة من فيلم «صمت القصور» للمخرجة التونسية أمينة فيلالي... وربما بسبب الحرارة التي تزيد عن 33 توسع الشجار واشتعل بين نازحة من حلب وأخرى من الحفة، وتبادلت المرأتان الشتائم الفاحشة وكل منهما تعتبر أنها أحق بالمعونات من الأخرى.

كانت رند تقف بكبرياء من دون أن تخسر سلاحها إبتسامتها لتذهلني: كيف تستطيع طفلة أن تحافظ على عفويتها وأناقة روحها وسط هذا الجحيم؟. طلبت من المسؤول أن يساعد رند وخالتها فطلب دفتر العائلة، وإن كان ثمة عقد إيجار للبيت الذي يقيمون فيه في اللاذقية، إن كانوا قد تمكنوا من إستئجار بيت ولم يسكنوا خيمة أو ينامو في ظل شجرة؟ لم أتوقع أن رند تخفي عقد إيجار البيت في حقيبتها الصغيرة البالية. قالت لي وهي تقدم الورقة بحرص شديد: خفت أن تضيع أمي الورقة لأنها حزينة جدا ومشغولة بأختي الرضيع. سألتها بفضول لم أستطع كبحه: من أين حصلتم على المال يا رند؟ أطرقت وقد غابت ابتسامتها، ثم تحسست عنقها بحركة لا شعورية، لعنت نفسي لأنني تسببت لرند بتفجر كل هذا الحزن الطفولي في عينيها الساحرتين، لكنها أخذت نفسا ونزعت نظارتها الطبية، وقالت: كنت أملك عقدا وحيدا، سلسلة رفيعة من الذهب تقول أمي إن والدي أهداني إياها حين وُلدت، وتحمل اسمي بالذهب. لقد بعنا السلسلة لنستأجر البيت، لكني أشعر أن السلسلة في يد أبي، كل يوم أراه في منامي يناديني وهو يضحك ويفتح يده لأرى السلسلة الذهبية ذاتها، ثم يُلبسني إياها.

شعرت الخالة بالإنتصار حين أعطوها بطاقة تُمكنها كل شهر من الحصول على مساعدات، وأعطوها علبة سمن صغيرة وزيت نباتي وعدة مٌعلبات. وبرغم الحر الذي كاد يُفقدني صوابي اصطحبت رند إلى محل بصريات. كان رجلا عظيما في دعمه للنازحين، وأمام واجهة أنيقة للنظارات الطبية طلبت من رند أن تختار نظارة. لم أفهم لم أصرت أن تستدير بحيث لا أتمكن من رؤية وجهها، وكلما حاولت التحديق بوجهها تناور كي لا أراه، لكنني اكتشفت ان بإمكاني مراقبتها في مرآه جانبية موضوعة فوق رف النظارات. كانت تبكي بصمت، وتتلقف دموعها بطرف منديل مُجعد.

شعرتُ أن دموعها تسقط في قلبي كماء من نار، ولم أجرؤ أن أخدش قدسية تلك اللحظة. ترى لأي سبب وسبب تبكين يا رند؟ لأي سبب وسبب تبكون يا أطفال سوريا الذين تشهدون المجازر وتتعثرون ببقايا جثث آبائكم وبقايا دفاتركم المدرسية وبقايا طفولتكم المُشوهة بوحشية الكبار؟

وجدتني أستمد الشجاعة والأمل من ابتسامة رند التي أذهلتني بها أول ما التقيتها، فقلت بصوت يصطنع الفرح: أظن أن الإطار الوردي الفاتح يليق بعينيك الجميلتين يا رند. ما رأيك؟ التفتت إلي فجأة وثمة دموع عالقة بأهدابها، شهقت وهي تقول: ياه هذا ما كان يقوله لي محمد تماما. سألتها: من محمد؟ ردت وقد استعادت إبتسامتها: محمد أخي الذي مات. أكملت عبارتها بقلبي: محمد ابن السنوات التسع الذي قتله صاروخ في بلد الصواريخ والرصاص، سوريا.

كم فرحت رند بالنظارة الجديدة، ولا أعرف لم طلبت منها أن تعطيني نظارتها العتيقة المُخلعة. ابتسمت وهي تقدمــــها لي: أتريدينها ذكرى مني؟ قلت لها: أبدا يـــا حبيبـــتي، لن تكـــون ذكـــرى لأننـــا سنلتـــقي دوما.

راقبتها تبتعد تمسك يد خالتها التي أصابها داء الخرس لهول المعاناة. وجدتني ذاهلة من عظمة هذا الشعب الذي لا يزال قادرا على الوقوف والمشي! رغم حمم النار الهابطة عليه من السماء والمُتفجرة من الأرض. أليست رند معجزة العصر؟ من يبالي بطفلة عظيمة مثل رند لا تزال بقدرة إلهية قادرة على الإبتسام. فكرتُ وأنا أعصر نظارة رند في يدي، والسلك الحديدي يكاد ينغرس في لحمي، بأننا دخلنا مرحلة التعود على المأساة، وبأن هذا التعود أخطر من المأساة ذاتها. وكم أشفقت على نفسي حين وجدت شيئا من عزاء في أنني اتفقت مع محمد الذي قصف الصاروخ جسده الصغير وأحاله أشلاء، أن اللون الزهري الفاتح يليق برند.

  • فريق ماسة
  • 2013-08-07
  • 14296
  • من الأرشيف

التعود على المأساة السورية

من أجل رند كنت مستعدة أن أذهب معها إلى آخر العالم، لكن آخر العالم في سوريا هو مراكز توزيع المعونات للاجئين! التقيت رند في العيادة العينــية في المستشفى الوطني. كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتضع نظارة طبـــية مهترئة، وثمة سلك حديدي يصل قطعتي النظارة المكسورة. لم تستوقفـــني رند لأنها نازحة من حلب، فقد اعتدت - رغما عني - على النازحين أحبائي السوريين. لكن ما أدهشني حقا أن هذه الطفلة لم تفقد حيوية روحها، لم يخبُ بريق عينيها، ولم يجف صوتها ويذبل. كانت برفقة امرأة غارقـــة في السواد أشبه بصنم، لا تتكلم وتبدو في عالم آخر، كـــما لو أن روحـــها مخطوفة. سألت رند: أهي أمك؟ ابتسمت، وقالت: لا هذه خالتي. فسألت: أين أمك ؟ قالت: أمي في البيت. لا يجوز أن تخرج منه لأنها في العدة، فقد وضعت طفلة ووالدي وأخي ماتا في حلب بعد سقوط الصاروخ على بيتنا. هممت أن أسألها إن كانت قد شاهدت الصاروخ كيف يسقط ويقتل أباها وأخاها، لكني لم أجرؤ على السؤال. لم أكن بقادرة على تحمل جوابها مهما كان. كنت جبانة إذ صرت أخشى حقا أن يُغمى علي وأنا أرى معاناة أطفال سوريا تحديدا. وبدا جواب رند بالطريقة الطبيعية التي تحكي فيها، فضيحة عصرنا اللاأخلاقي. لم تنس رند أن تسرح شعرها الأسود الطويل وأن تربطه بمطاطة زرقاء. لم تنس أن تضع بضعة مناديل ورقية في حقيبتها الصغيرة الخاوية، وأن تخرج منديلا لتمسح قطرات العرق عن جبينها، وهي تبتسم لي بعذوبة، وتقول: كم يختلف مناخ حلب عن مناخ اللاذقية، هنا الرطوبة عالية جدا. في حلب لا نتعرق هكذا! فكرت أن رند مشتاقة للابتسام، مشتاقة لطفولتها التي لا تريد أن تعترف أن الصاروخ نسفها، كما قتل والدها وأخاها. ابتسامة رند المُشعة جعلتني أذوب حبا لكل أطفال سوريا. قلت لها: كم كان عمر والدك وأخيك؟ قالت أبي كان عمره 45 وأخي تسع سنوات لما قتلهما الصـــاروخ!. أردت أن أقـــول لهـــا: أحســـنت، إذ تحـــددين ســـبب الوفـــاة. عرفت من المرأة الصنم التي ترافقها أنهم نزحوا من حلب واستأجروا بيتا في حي الرمل الفلسطيني، وأن أختها، أم رند، مصابة بصدمة عصبية بعد موت زوجها وإبنها، وبأنها بالكاد تعتني بالطفلة الرضيع. أما الخالة المرأة الذاهلة فقد توفي زوجها برصاص قناص، وابنها مفقود لا تعرف هل هو حي أم ميت، والأختان لا تعرفان اللاذقية أبدا وتفتشان عن مراكز لإعانة النازحين. اتصلت بإحدى المؤسسات التي تعني بالنازحين وكتبت للمرأة العنوان، ووعدت رند أنني سأغير لها النظارة، فشع وجهها بابتسامة، ووجدتني أردد: رند المُنتصرة! أليست الإبتسامة أكبر نصر؟ بعد أقل من ربع ساعة اتصلت بي خالة رند تبكي، وقالت: يبدو أنني تهت، أرجوك ساعدينا. قلت لها: انتظري أنا قادمة حالا. من أجل رند كنت مستعدة أن أذهب حتى آخر العالم، ووصلت إلى المركز الذي يقدم مساعدات للنازحين السوريين، كانت شمس من رصاص تصهر مئات النازحين وتُخمرهم بالعرق والرطوبة، ورند ركضت نحوي مبتسمة ورمت جسدها النحيل في حضني وهي تقول: شكرا لأنك أتيت. ثم مسحت بخار الماء عن نظارتها الطبية المُخلعة، وقبل أن أشق لنفسي طريقا وسط حشد النازحين انفجر شجار مدو لم أستطع أن أحدد بدقة أطرافه، لكن ما فهمته وسط سيل الشتائم أن نازحات عدة من الحفة لم يحظين بالمعونات، لأن الحفة منطقة آمنة! هكذا قالوا لهن! صوت إمرأة يمزق الهواء تصرخ: أي أمان هذا؟! يا أخي تدمر بيتي في الحفة، وأعيش مع أسرتي في كاراج للسيارات سمح لنا أحد المُحسنين أن نعيش فيه، فأي أمان هذا؟ اذهب إلى الحفة، هل ترى حياة؟ والله مثل صمت القبور! وجدتني أهذي ربما بسبب الشمس الحارقة والرطوبة الخانقة وسط لوحة البؤس السوري المُكتمل، وأستعيد لقطات بديعة من فيلم «صمت القصور» للمخرجة التونسية أمينة فيلالي... وربما بسبب الحرارة التي تزيد عن 33 توسع الشجار واشتعل بين نازحة من حلب وأخرى من الحفة، وتبادلت المرأتان الشتائم الفاحشة وكل منهما تعتبر أنها أحق بالمعونات من الأخرى. كانت رند تقف بكبرياء من دون أن تخسر سلاحها إبتسامتها لتذهلني: كيف تستطيع طفلة أن تحافظ على عفويتها وأناقة روحها وسط هذا الجحيم؟. طلبت من المسؤول أن يساعد رند وخالتها فطلب دفتر العائلة، وإن كان ثمة عقد إيجار للبيت الذي يقيمون فيه في اللاذقية، إن كانوا قد تمكنوا من إستئجار بيت ولم يسكنوا خيمة أو ينامو في ظل شجرة؟ لم أتوقع أن رند تخفي عقد إيجار البيت في حقيبتها الصغيرة البالية. قالت لي وهي تقدم الورقة بحرص شديد: خفت أن تضيع أمي الورقة لأنها حزينة جدا ومشغولة بأختي الرضيع. سألتها بفضول لم أستطع كبحه: من أين حصلتم على المال يا رند؟ أطرقت وقد غابت ابتسامتها، ثم تحسست عنقها بحركة لا شعورية، لعنت نفسي لأنني تسببت لرند بتفجر كل هذا الحزن الطفولي في عينيها الساحرتين، لكنها أخذت نفسا ونزعت نظارتها الطبية، وقالت: كنت أملك عقدا وحيدا، سلسلة رفيعة من الذهب تقول أمي إن والدي أهداني إياها حين وُلدت، وتحمل اسمي بالذهب. لقد بعنا السلسلة لنستأجر البيت، لكني أشعر أن السلسلة في يد أبي، كل يوم أراه في منامي يناديني وهو يضحك ويفتح يده لأرى السلسلة الذهبية ذاتها، ثم يُلبسني إياها. شعرت الخالة بالإنتصار حين أعطوها بطاقة تُمكنها كل شهر من الحصول على مساعدات، وأعطوها علبة سمن صغيرة وزيت نباتي وعدة مٌعلبات. وبرغم الحر الذي كاد يُفقدني صوابي اصطحبت رند إلى محل بصريات. كان رجلا عظيما في دعمه للنازحين، وأمام واجهة أنيقة للنظارات الطبية طلبت من رند أن تختار نظارة. لم أفهم لم أصرت أن تستدير بحيث لا أتمكن من رؤية وجهها، وكلما حاولت التحديق بوجهها تناور كي لا أراه، لكنني اكتشفت ان بإمكاني مراقبتها في مرآه جانبية موضوعة فوق رف النظارات. كانت تبكي بصمت، وتتلقف دموعها بطرف منديل مُجعد. شعرتُ أن دموعها تسقط في قلبي كماء من نار، ولم أجرؤ أن أخدش قدسية تلك اللحظة. ترى لأي سبب وسبب تبكين يا رند؟ لأي سبب وسبب تبكون يا أطفال سوريا الذين تشهدون المجازر وتتعثرون ببقايا جثث آبائكم وبقايا دفاتركم المدرسية وبقايا طفولتكم المُشوهة بوحشية الكبار؟ وجدتني أستمد الشجاعة والأمل من ابتسامة رند التي أذهلتني بها أول ما التقيتها، فقلت بصوت يصطنع الفرح: أظن أن الإطار الوردي الفاتح يليق بعينيك الجميلتين يا رند. ما رأيك؟ التفتت إلي فجأة وثمة دموع عالقة بأهدابها، شهقت وهي تقول: ياه هذا ما كان يقوله لي محمد تماما. سألتها: من محمد؟ ردت وقد استعادت إبتسامتها: محمد أخي الذي مات. أكملت عبارتها بقلبي: محمد ابن السنوات التسع الذي قتله صاروخ في بلد الصواريخ والرصاص، سوريا. كم فرحت رند بالنظارة الجديدة، ولا أعرف لم طلبت منها أن تعطيني نظارتها العتيقة المُخلعة. ابتسمت وهي تقدمــــها لي: أتريدينها ذكرى مني؟ قلت لها: أبدا يـــا حبيبـــتي، لن تكـــون ذكـــرى لأننـــا سنلتـــقي دوما. راقبتها تبتعد تمسك يد خالتها التي أصابها داء الخرس لهول المعاناة. وجدتني ذاهلة من عظمة هذا الشعب الذي لا يزال قادرا على الوقوف والمشي! رغم حمم النار الهابطة عليه من السماء والمُتفجرة من الأرض. أليست رند معجزة العصر؟ من يبالي بطفلة عظيمة مثل رند لا تزال بقدرة إلهية قادرة على الإبتسام. فكرتُ وأنا أعصر نظارة رند في يدي، والسلك الحديدي يكاد ينغرس في لحمي، بأننا دخلنا مرحلة التعود على المأساة، وبأن هذا التعود أخطر من المأساة ذاتها. وكم أشفقت على نفسي حين وجدت شيئا من عزاء في أنني اتفقت مع محمد الذي قصف الصاروخ جسده الصغير وأحاله أشلاء، أن اللون الزهري الفاتح يليق برند.

المصدر : الماسة السورية/هيفاء بيطار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة