دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
قبل فترة قصيرة اتهم وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل روسيا بـ«دعم الإبادة الجماعية» في سورية. قبله قالت السعودية مرارا إن موسكو ستخسر مصالحها في الشرق الأوسط إن استمرت بدعمها للرئيس بشار الأسد.
استمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعم الأسد، فاضطر الأمير بندر بن سلطان، الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي رئيس الاستخبارات العامة، إلى سلوك طريق الكرملين.
واضح إذا أن الذي تغير هو السعودية وليس موسكو. الصورة التي وزعها الكرملين تبين رئيسا مبتسما وهو يستقبل الأمير المبتسم أيضا، والقادم إلى «عاصمة الإلحاد الشيوعي» كما كانت تسميها الرياض. لم يرتد الأمير بندر بزته الأنيقة، ولا ارتدى الجينز والقميص المفتوحة كما فعل سابقا قبيل الحرب على العراق حين جالس صديقه الحميم جورج بوش الابن في البيت الأبيض… الذي دمر العراق. هنا ثمة رهبة اكبر للزيارة. صعب أن يلين القيصر الروسي بالإغراءات أو الضغوط .
ليس الأمير بندر رجلا عاديا في السعودية اليوم، وقد لا يكون أبدا عاديا في مستقبلها. من يقرأ كتاب «السعودية من الداخل» لمؤلفه البريطاني روبرت لايسي يدرك تماما كيف أن الأمير، الذي أمضى 22 عاما في العمل الديبلوماسي في أميركا، يتقن تماما دخول الغرف المغلقة، ويتفنن في حياكة الاستراتيجيات الداخلية والخارجية، ويعرف مسار التحولات الدولية الكبرى ومن أين تؤكل الكتف.
إن الأمير كبعض قادة السعودية الحاليين، تماما، يضعون نصب أعينهم هدف ضرب «حزب الله» وإضعاف إيران، وينعتون الطرفين بأقسى النعوت. وإذا كان ضرب نظام الرئيس بشار الأسد ينفع في ذلك فهم لن يتوانوا عن القيام بأي شيء لانجاز هذا الهدف.
ماذا تغير إذا حتى تتغير السعودية، وترسل الأمير بندر إلى الدولة «الداعمة للإبادة الجماعية في سورية»؟
فتش عن إيران.
ثمة قلق فعلي عند بعض دول الخليج من احتمال حصول تقارب بين طهران وواشنطن. ورغم الضغوط التي يمارسها الكونغرس على الرئيس باراك أوباما لتمديد العقوبات، ولقد تم تمديدها، إلا أن ثمة غزلا قائما بين الجانبين. طهران قررت دعوة الأميركيين إلى حضور حفل تنصيب الرئيس الشيخ حسن روحاني. احتمال لقاء روحاني مع أوباما على هامش الدورة المقبلة للأمم المتحدة ممكن. استئناف «5+1» ينتظر فقط تشكيل الحكومة الجديدة وفق ما قال وزير الخارجية. والخطاب المنفتح لروحاني يلاقي أصداء ايجابية في واشنطن، برغم ضغوط إسرائيل واللوبي المؤيد لها.
ثم فتش عن حقيقة المواقف الأميركية والأوروبية. تقول المعلومات إن أوباما أبلغ الروس رسميا أن لا تسليح عالي المستوى للمعارضة حاليا، وانه يريد إعطاء الحل السياسي فرصة حقيقية. الموقف تبلغه أيضا بعض قادة «الائتلاف السوري» المعارض من مسؤولين أميركيين، أعقبه موقفان فرنسي وبريطاني في الاتجاه ذاته. شعرت السعودية أنها أصبحت تقريبا الوحيدة الذاهبة نحو العسكرة والتسليح، خصوصا بعد أن أوحى التغيير في قطر باحتمال تغيير المناخ القطري حيال الأزمة السورية. لا مجال إذا إلا لاحتمالين: فإما التفاهم مع إيران أو مع روسيا. اختار الأمير بندر الطريق الأقل إحراجا … ربما مؤقتا.
ثم فتش عن سبب التخبط الدولي حيال «جماعة الإخوان المسلمين». تقود السعودية الآن الحملة الخليجية ضد «إخوان» مصر. قتلت بقيادتها هذه عمليا كل الإستراتيجية القطرية التي قامت على أكتاف «الإخوان» بعد ما سمي بـ «الربيع العربي». كان طبيعيا إذا أن تشجع السعودية أطرافا ديموقراطية وليبرالية وشيوعية وعشائرية لتقاسم النفوذ مع «الإخوان» والحد من سيطرتهم داخل «الائتلاف السوري» المعارض. ما عادت الرياض، ذات الحكم المبني على الشريعة وذات التأثير الوهابي، تعارض استقبال احد «الملحدين» السابقين المعارض ميشال كيلو الذي مهد لهذه العلاقة قبل أشهر طويلة بحربه الشعواء على «الإخوان» ثم على اليسار ثم على فكرة الدولة المدنية. ، حتى بلغ الأمر بالبعض حد السؤال: «هل ميشال كيلو لا يزال معارضا؟».
ثم فتش عن علاقة السعودية بتركيا. من الصعب التفكير بعلاقة سليمة بين الجانبين، بعد أن بلغت أوج تناقضها في مصر. رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان يعتبر ما حصل في مصر انقلابا، بينما السعودية كانت تدعم الانقلاب واحد كبار ممولي ما بعده. أليست هي من اقنع السلفيين بدعم الجيش وقائده؟
ثم فتش عن الوضع العسكري في سورية. من يشاهد الخريطة السورية اليوم يرى أن البلاد منقسمة إلى 3 أقسام، واحد يمتد على طول الطريق الساحلي ويشمل حمص وحماه وادلب وطرطوس واللاذقية وصولا إلى البقاع اللبناني وهو بيد السلطة، يضاف إليه دمشق والجزء الأكبر من ريفها، بينما معظم المناطق المحاذية لتركيا والعراق والأردن هي إما بأيدي المسلحين أو الأكراد.
باستثناء خان العسل التي شكلت ضربة موجعة للجيش السوري، فان باقي المناطق تشهد تقدما ملحوظا. تقول المعلومات إن السلطة السورية مستمرة في معركتها وأنها تتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تحولات عسكرية كبيرة، لكي تصل الأمور في مطلع العام المقبل إلى احتمال السيطرة على كل المدن الكبيرة والمناطق الإستراتيجية، بما في ذلك حلب.
ثم فتش عما يحصل في مصر. هل طبيعي مثلا أن تكون وزيرة الخارجية الأوروبية كاثرين أشتون هي المولجة بالحل والوساطة؟ لماذا تراجع الأميركيون في معقلهم التاريخي المصري وتركوا الأوروبيين يغوصون في وحول مصر؟ هل لإحراق الدور الأوروبي، أو لان أوباما ضائع في الوضع المصري ويريد التريث.
ثم فتش أخيرا عما تقوم به أميركا حيال التسوية الفلسطينية ــ الإسرائيلية. يريد أوباما تحقيق أي انجاز. تم تدمير الأنفاق بين مصر وغزة. ازداد حصار حماس. صدر قرار وضع «حزب الله» على اللائحة الأوروبية للإرهاب. لو نجح أوباما في دفع الفلسطينيين والإسرائيليين إلى مجرد الشروع بالتفاوض، فهذا بحد ذاته مهم الآن لاوباما، وهذا بحد ذاته تعبير عن العجز الأميركي عن تحقيق أي اختراق آخر في سوريا أو مصر، أو ربما تعبير عن يأس كبير.
في هذا السياق حملت زيارة الأسد أمس إلى داريا رسائل كثيرة. هذه منطقة واسعة شهدت أشرس المعارك. الزيارة إليها تعني أن الجيش الذي اعتمد في خلال الأسابيع القليلة الماضية عملية «قضم» بطيء للريف الدمشقي قد أنجز الجزء الأكبر بعيدا عن الإعلام. المعلومات تقول انه يقوم بالشيء ذاته في مناطق أخرى، وان مفاجآت منتظرة قبل نهاية الصيف.
من الطبيعي أمام هذه التحولات أن تبحث السعودية عن مخارج. كان المخرج العسكري وربما لا يزال إلى حد ما أولوية. زار الأمير بندر عددا من الدول الغربية. سعى لحثها أو لإغرائها بغية تسليح المعارضة. حاول طمأنة محادثيه الغربيين أن ثمة إعادة هيكلة لـ«الجيش الحر» وقيادة المعارضة تمنع وصول السلاح إلى المتطرفين. التقارير الغربية تقول عكس ذلك. لم يحصل على كل ما ابتغاه لجهة رفع مستوى التسليح. لم توافق فرنسا مثلا على تسليم صواريخ «ميسترال». لا تزال السعودية تأمل بأن تغير المعادلة العسكرية. يقول لها الغربيون، من أميركيين وأوروبيين، إنها لو نجحت فهم سيرحبون لكنهم لن يتحملوا نتيجة الفشل. لم تسقط الخطط العسكرية إذا، لكن لا بد من بحث الاحتمالات الأخرى.
بين هذه الاحتمالات أن تحاول السعودية إقناع موسكو بصفقة. يبدو أن بوتين لا يزال أكثر صلابة من الآمال السعودية. قال صراحة إن لا حل إذا استمر تدفق السلاح. عرج على الدعم السعودي للشيشان. حذر من خطر الإرهاب الذي بات ينتشر في كل مكان. شرح أن موسكو لن تقبل بأي تدخل عسكري خارجي. أوضح أن الأميركي أصبح أكثر قربا للنظرة الروسية للحل، ولكن الطريق لا يزال طويلا.
لا بد للسعودية إذا من الضغط على المعارضة لتسهيل انعقاد «جنيف 2».
أن يستقبل بوتين بنفسه بندر بن سلطان، فالأمر مهم. سعت موسكو لإفهام الزائر السعودي بان أبوابها مفتوحة للصفقات والتسويات، ولكن ليس بأي ثمن. لا مجال لرحيل الأسد إلا إذا أراد شعبه هذا. يعني أن التفاوض ثم الحكومة المؤقتة ثم الانتخابات، وبعدها يتقرر أي شيء.
ليس في المعلومات ما يشير إلى تليين في الموقف الروسي. دمشق مطمئنة. وكل ما قيل هو أن الأمير بندر حاول معرفة حقيقة التفكير الروسي ليس حيال سورية وإنما بشأن إيران و«حزب الله» وكل ما تعتبره السعودية، قبل أميركا، شيطانها الأكبر، ولا شك أن مصر وأوضاعها وفلسطين ومآلها تحضر عادة في هكذا لقاءات.
في اللقاء مصلحة للطرفين الروسي والسعودي. فالأمير بندر يستطيع أن يلوح بالورقة الروسية للأميركيين، وبوتين يستطيع القول إن كل الأوراق قد تصبح بين يديه.
الخطورة في الأمر هي أن مثل هذه الزيارات المهمة تحصل عادة قبل تطورات كبيرة. لم يخف رئيس «الائتلاف السوري» احمد الجربا، وغيره من مسؤولي المعارضة والمسلحين، أن لا «جنيف 2» قبل تعديل موازين القوى. قال ذلك من قلب الدوحة بعد يومين من تأكيده أنهم ذاهبون إلى جنيف من دون شروط. الاستعدادات لشن معارك أخرى كخان العسل قائمة. أما السلطة السورية، بقيادة الأسد، فهي في قرارة نفسها تدرك أن أي ذهاب إلى جنيف قبل تحقيق اختراق كبير في الشمال السوري أو في دير الزور وغيرها لا معنى له الآن… سيستمر القتال طويلا إذا بعد.
المصدر :
السفير/ سامي كليب
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة