قبل مدة، أظهر الرئيس السوري بشار الأسد اهتمامه الكبير بمستقبل الأحزاب في المنطقة. وكان يسأل شخصيات عربية زاروه عن تجاربهم في العمل العام والتواصل مع الشباب. وحرص مرات عدة على تكرار سؤال مركزي: هل لا تزال الأيديولوجيا عصباً رئيسياً لجذب الشباب في عصرنا هذا؟

قبل ذلك، وعندما خرج مؤيدون للأسد في تظاهرات حاشدة في دمشق ومدن سورية أخرى، كان الأسد يقول صراحة: هؤلاء ليسوا في حزب البعث، وبعضهم ربما يكون معارضاً لنا، لكنهم يخافون على سوريا. وعلينا العمل مع هؤلاء.

وفي لقاء مع وفد شبابي سوري، ركز الأسد على أهمية المبادرات التي تقوم بها هذه المجموعات التي لا تنتمي الى حزب أو تيار أو جماعة، بل تمارس عملاً وطنياً انطلاقاً من انتمائها الى الدولة. لم يكن الأسد يحرص فقط على التواصل مع هذه المجموعات، بل على مدّها بما تحتاج إليه من عون في معركتها التي «لا تقل أهمية عما يقوم به الجيش»، حسب ما نقل هؤلاء عن الأسد.

أمس، أذيع خبر كاد يمرّ عادياً لو أنه لا يتصل بالأسد مباشرة. خبر عن انتخاب قيادة جديدة لحزب البعث، معظم الأعضاء من قيادات شابة، برزوا في أدوار متنوعة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وكان لهم حضورهم في العامين الأخيرين. وربما الأهم من العناصر الجديدة هو عملية إطاحة الرموز التاريخيين.

لا أعرف ما إذا كان الأشخاص أو المجموعات المعنية بالمعارك الدائرة في سوريا، ومن الجانبين، قد توقفوا لبرهة لأجل الاستماع الى الخبر عن التغيير في قيادة البعث. ولا أعرف ما إذا كان تجار العملة المنتشرون في سوريا، أو زعماء المافيات الناشطة في أيام الحرب بأكثر مما كان عليه نشاطهم أيام السلم، قد جمدوا أعمالهم ريثما تصدر التشكيلة الجديدة لقيادة الحزب. وأكثر من ذلك، لا يبدو لي منطقياً، أن يكون عموم الجمهور السوري مهتماً حقيقة بهذا الخبر. لكن الأكيد، أن هناك حلقات ضيقة وأوسع بقليل من حول الجهاز النافذ في السلطات كافة، أراد التعرف على تفاصيل هذه الخطوة، باعتبار أنه سيكون مضطراً الى التعايش مع نتائجها، وخصوصاً أن الأنباء الواردة تشير الى تغييرات على مستوى إدارة الدولة ربطاً بهذا التغيير. وإن كان منطق الأمور لا يفرض حصول ذلك، باعتبار أن الدستور عُدِّل، وأن المادة الثامنة التي تجعل من حزب البعث الحزب القائد قد ألغيت.

لكن، ثمة كلام يجب أن يقال أيضاً في هذا المجال:

أولاً، أدى انهيار النظام في العراق عشية الغزو الأميركي الأخير وبعده، الى انهيار أكبر في حزب البعث الحاكم. والناشطون من الحزبيين، اتجهوا صوب آليات سياسية وحتى أيديولوجية في سياق استكمال مشوارهم السياسي. ولم تظهر التطورات الدامية خلال العقد الماضي خطأ الحكم الجديد في سياسة اجتثاث البعث، بل خطأ البعث نفسه في رفض إجراء أي مراجعة لأجل تحديد مسؤوليته عن التدهور العام الذي سبق الانهيار العام، سواء الداخلي أو الذي استكمل بالغزو الأميركي.

ثانياً، أظهرت النكبة العراقية أن نتائجها عميقة على كل التيار القومي العربي، ولكن سوريا احتفظت بهامش خاص بسبب قوة النظام الحاكم، لا بسبب قوة البعث. وقد دلت تطورات الأزمة السورية على أن البعثيين ليسوا مندمجين فعلياً في قلب المعركة القائمة الآن، بل إن المشاركة الأكثر فعالية هي لتيار تشكل بعلاقات خاصة مع الحكم، سواء من خلال نظام مصالح اقتصادية واجتماعية، أو من خلال الشعور العام لدى مجموعات كبيرة من السوريين بضرورة الوقوف بوجه المتمردين الذين يريدون تدمير سوريا، لا تدمير النظام القائم.

ثالثاً، لم يشهد حزب البعث أي تجديد فعلي على الصعيد الفكري، ولا على الصعيد السياسي، ولا على الصعيد التنظيمي خلال العقدين الأخيرين، وثمة اقتناع كبير بأن جاهزية الرئيس الأسد نفسه ومحفزاته للتغيير لم تكن كافية لإطلاق عملية تجديد واسعة في الحزب الحاكم، باعتبار أن أي تغيير جدي يتطلب ما يشبه الانقلاب، وهو أمر له عدّته. ولم يزعم الأسد يوماً أنه جاهز أو راغب بخطوة من هذا النوع.

رابعاً، إن المعركة القائمة في سوريا اليوم لا تستهدف حزب البعث بعينه، كأداة حكم، بل هي تستهدف أسساً سياسية وعسكرية وأمنية وأيديولوجية وضعها البعث، لكنها صارت جزءاً من الهوية الوطنية السورية، وهو ما دلت عليه الأحداث. كذلك، بدت مؤسسات الدولة أو المؤسسات العامة الخاضعة لقيادة الحزب ضعيفة ومترهلة جداً. وفي الأمكنة التي تطلبت عملية تغيير، لجأ النظام الى بناء إدارة موازية من دون التعرض للإدارة القائمة. وهذا يدل على عجز الحزب عن مواكبة التطورات وعملية التغيير، لكنه لا يدل في مكان آخر على قدرة النظام على إنتاج آليات أخرى، بل على عدم قدرة النظام على المبادرة الى خطوات جذرية تفرض على البعثيين، قبل أي أحد آخر، إثبات أنهم لا يزالون أهلاً لدور مركزي في إدارة المعركة وفي عملية بناء سوريا جديدة.

ما حصل في سوريا على صعيد حزب البعث، هو خطوة في الفراغ. ليس بإمكان أحد الاتكال عليه أو وضعه كمؤشر على شيء. اللهم إلا إذا كان الحكم أراد أن يبعث برسالة الى الجمهور القريب والبعيد، بأنه لم يحن بعد أوان التغيير الكبير، وأن لا صوت يعلو على صوت المعركة.

  • فريق ماسة
  • 2013-07-08
  • 8717
  • من الأرشيف

تغيير قيادة البعث: إنه الوقت الضائع

قبل مدة، أظهر الرئيس السوري بشار الأسد اهتمامه الكبير بمستقبل الأحزاب في المنطقة. وكان يسأل شخصيات عربية زاروه عن تجاربهم في العمل العام والتواصل مع الشباب. وحرص مرات عدة على تكرار سؤال مركزي: هل لا تزال الأيديولوجيا عصباً رئيسياً لجذب الشباب في عصرنا هذا؟ قبل ذلك، وعندما خرج مؤيدون للأسد في تظاهرات حاشدة في دمشق ومدن سورية أخرى، كان الأسد يقول صراحة: هؤلاء ليسوا في حزب البعث، وبعضهم ربما يكون معارضاً لنا، لكنهم يخافون على سوريا. وعلينا العمل مع هؤلاء. وفي لقاء مع وفد شبابي سوري، ركز الأسد على أهمية المبادرات التي تقوم بها هذه المجموعات التي لا تنتمي الى حزب أو تيار أو جماعة، بل تمارس عملاً وطنياً انطلاقاً من انتمائها الى الدولة. لم يكن الأسد يحرص فقط على التواصل مع هذه المجموعات، بل على مدّها بما تحتاج إليه من عون في معركتها التي «لا تقل أهمية عما يقوم به الجيش»، حسب ما نقل هؤلاء عن الأسد. أمس، أذيع خبر كاد يمرّ عادياً لو أنه لا يتصل بالأسد مباشرة. خبر عن انتخاب قيادة جديدة لحزب البعث، معظم الأعضاء من قيادات شابة، برزوا في أدوار متنوعة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وكان لهم حضورهم في العامين الأخيرين. وربما الأهم من العناصر الجديدة هو عملية إطاحة الرموز التاريخيين. لا أعرف ما إذا كان الأشخاص أو المجموعات المعنية بالمعارك الدائرة في سوريا، ومن الجانبين، قد توقفوا لبرهة لأجل الاستماع الى الخبر عن التغيير في قيادة البعث. ولا أعرف ما إذا كان تجار العملة المنتشرون في سوريا، أو زعماء المافيات الناشطة في أيام الحرب بأكثر مما كان عليه نشاطهم أيام السلم، قد جمدوا أعمالهم ريثما تصدر التشكيلة الجديدة لقيادة الحزب. وأكثر من ذلك، لا يبدو لي منطقياً، أن يكون عموم الجمهور السوري مهتماً حقيقة بهذا الخبر. لكن الأكيد، أن هناك حلقات ضيقة وأوسع بقليل من حول الجهاز النافذ في السلطات كافة، أراد التعرف على تفاصيل هذه الخطوة، باعتبار أنه سيكون مضطراً الى التعايش مع نتائجها، وخصوصاً أن الأنباء الواردة تشير الى تغييرات على مستوى إدارة الدولة ربطاً بهذا التغيير. وإن كان منطق الأمور لا يفرض حصول ذلك، باعتبار أن الدستور عُدِّل، وأن المادة الثامنة التي تجعل من حزب البعث الحزب القائد قد ألغيت. لكن، ثمة كلام يجب أن يقال أيضاً في هذا المجال: أولاً، أدى انهيار النظام في العراق عشية الغزو الأميركي الأخير وبعده، الى انهيار أكبر في حزب البعث الحاكم. والناشطون من الحزبيين، اتجهوا صوب آليات سياسية وحتى أيديولوجية في سياق استكمال مشوارهم السياسي. ولم تظهر التطورات الدامية خلال العقد الماضي خطأ الحكم الجديد في سياسة اجتثاث البعث، بل خطأ البعث نفسه في رفض إجراء أي مراجعة لأجل تحديد مسؤوليته عن التدهور العام الذي سبق الانهيار العام، سواء الداخلي أو الذي استكمل بالغزو الأميركي. ثانياً، أظهرت النكبة العراقية أن نتائجها عميقة على كل التيار القومي العربي، ولكن سوريا احتفظت بهامش خاص بسبب قوة النظام الحاكم، لا بسبب قوة البعث. وقد دلت تطورات الأزمة السورية على أن البعثيين ليسوا مندمجين فعلياً في قلب المعركة القائمة الآن، بل إن المشاركة الأكثر فعالية هي لتيار تشكل بعلاقات خاصة مع الحكم، سواء من خلال نظام مصالح اقتصادية واجتماعية، أو من خلال الشعور العام لدى مجموعات كبيرة من السوريين بضرورة الوقوف بوجه المتمردين الذين يريدون تدمير سوريا، لا تدمير النظام القائم. ثالثاً، لم يشهد حزب البعث أي تجديد فعلي على الصعيد الفكري، ولا على الصعيد السياسي، ولا على الصعيد التنظيمي خلال العقدين الأخيرين، وثمة اقتناع كبير بأن جاهزية الرئيس الأسد نفسه ومحفزاته للتغيير لم تكن كافية لإطلاق عملية تجديد واسعة في الحزب الحاكم، باعتبار أن أي تغيير جدي يتطلب ما يشبه الانقلاب، وهو أمر له عدّته. ولم يزعم الأسد يوماً أنه جاهز أو راغب بخطوة من هذا النوع. رابعاً، إن المعركة القائمة في سوريا اليوم لا تستهدف حزب البعث بعينه، كأداة حكم، بل هي تستهدف أسساً سياسية وعسكرية وأمنية وأيديولوجية وضعها البعث، لكنها صارت جزءاً من الهوية الوطنية السورية، وهو ما دلت عليه الأحداث. كذلك، بدت مؤسسات الدولة أو المؤسسات العامة الخاضعة لقيادة الحزب ضعيفة ومترهلة جداً. وفي الأمكنة التي تطلبت عملية تغيير، لجأ النظام الى بناء إدارة موازية من دون التعرض للإدارة القائمة. وهذا يدل على عجز الحزب عن مواكبة التطورات وعملية التغيير، لكنه لا يدل في مكان آخر على قدرة النظام على إنتاج آليات أخرى، بل على عدم قدرة النظام على المبادرة الى خطوات جذرية تفرض على البعثيين، قبل أي أحد آخر، إثبات أنهم لا يزالون أهلاً لدور مركزي في إدارة المعركة وفي عملية بناء سوريا جديدة. ما حصل في سوريا على صعيد حزب البعث، هو خطوة في الفراغ. ليس بإمكان أحد الاتكال عليه أو وضعه كمؤشر على شيء. اللهم إلا إذا كان الحكم أراد أن يبعث برسالة الى الجمهور القريب والبعيد، بأنه لم يحن بعد أوان التغيير الكبير، وأن لا صوت يعلو على صوت المعركة.

المصدر : الاخبار / ابراهيم الأمين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة