دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كأنما المصاب في أنقرة وليس في القاهرة. هذا ما يمكن الخروج منه من انطباع أولي حول ردود فعل «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا على عملية خلع الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي.
ولكم كان معبّراً مانشيت صحيفة «آيدينليق» اليسارية يوم سقوط مرسي، وفيه «خلع طيب مصر» في إشارة إلى أن مرسي كان بمثابة رجب طيب اردوغان مصر، وفي إشارة ثانية إلى المصير الذي سينتظر «محمد مرسي تركيا».
لقد ذهبت أدراج الرياح، وفي لحظات، جهود مضنية ومكثفة بذلها «حزب العدالة والتنمية» التركي، واستمرت على مدار الفترة التي أعقبت اندلاع «ثورة 25 يناير» من أجل إيصال جماعة الإخوان المسلمين الى السلطة في مصر وتمكينها من البقاء. ولم يخيّب «الإخوان» في مصر ظن أشقائهم في تركيا، فاتبعوا النهج نفسه والذهنية عينها من أجل الإمساك بتلابيب السلطة وتهميش الآخرين، بل لإقصائهم.
غير ان التاريخ والشعوب لم ترحم أحداً، لا اولئك الحاكمين في انقرة ولا الجالسين على عرش السلطة في مصر.
وكما تفاجأ «إخوان» الحزب الحاكم في تركيا بـ«انتفاضة تقسيم» الشعبية والمدنية فقد تفاجأوا أيضا بـ«ثورة 30 يونيو»، ولم يتوقعوا لحظة ان «دفق التاريخ» الذي طالما تحدث عنه وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو في توصيفه للربيع العربي قد تدفق أولا في «تقسيم» اسطنبول ومن ثم في «ميدان تحرير» القاهرة.
وكما لم ير قادة «حزب العدالة والتنمية» أسباب «انتفاضة تقسيم» فإنهم لم يروا في «ثورة 30 يونيو» سوى أنها انقلاب عسكري واغتصاب للشرعية ومحاولة ضرب الأساس الأخلاقي لـ«ثورة 30 يناير»، عبر تنصيب صندوق الانتخاب معيارا أوحد لمفهوم الديموقراطية، من دون أن يروا هدير الملايين في الميادين، والتي لم تختلف بشيء عن هدير الملايين في «25 يناير» بل أكثر.
لقد عكست ردود فعل قادة «حزب العدالة والتنمية» مدى الضرر الذي أصاب نهج الفرع التركي من تيار «جماعة الإخوان المسلمين». لقد أشادت تركيا ودعمت وصول «الإخوان» إلى السلطة في تونس، لكن رهانها الأصلي كان على وصولهم إلى السلطة في مصر، فمصر هي البلد العربي الأكبر والبلد المحاذي لفلسطين والبلد المحاذي لحركة حماس في غزة، والبلد المواجه لتركيا على المقلب الجنوبي من البحر المتوسط. ولم تكن مجرد لعبة صغيرة أن تعتبر تركيا أن وصول «الإخوان» في مصر إلى السلطة هو توسيع لمجال نفوذها في العالم العربي والشرق الأوسط.
ولم تنظر أنقرة إلى سلطة «الإخوان» في مصر سوى أنها احدى أدوات مشروعها الشرق أوسطي والعثماني الجديد، ضاربة بعرض الحائط تاريخ مصر وموروثها الثقافي والنضالي وأدوارها الوطنية والعروبية، التي لا يترك المنظّرون لـ«حزب العدالة والتنمية» التركي فرصة إلا ويحاولون الطعن بالنزعة العروبية لمصر عبد الناصر والتيارات القومية الأخرى.
لذلك ليس مبالغة القول إن سقوط حكم «الإخوان» في مصر هو نهاية للدور التركي في المنطقة بعناوينه التي رفعها على مدى السنوات القليلة الماضية.
لقد كان الدور التركي في المنطقة أشبه بطائر له جناحان لا يستطيع أن يطير إلا بهما معا. جناح تركي خالص يتصل بالاستقرار السياسي الداخلي والانجازات الاقتصادية، وجناح إقليمي ضم، قبل ما يسمى «الربيع العربي»، كلا من إيران والعراق وسورية ولبنان. ولقد كان الدور التركي في تلك المرحلة متوازنا ومعقولا، واتسم بصفة الشريك. ولم يعدم رغم ذلك محاولات تكتيكية لكسب النقاط من خلال اللعب المحدود، وتحريك بعض الغرائز المذهبية في الساحة الداخلية للعراق ولبنان وسوريا.
لكن مع بدء الربيع العربي تراءى لقادة «حزب العدالة والتنمية» ان الفرصة باتت سانحة لفك شراكة الدور الإقليمي والتفرد بالهيمنة، وفقا للمعايير العثمانية ـ السلجوقية، عبر استبدال الجناح الإقليمي بجناح آخر هو جناح «الإخوان المسلمين»، ولا سيما في مصر التي كانت بيضة القبان لتوغل التأثير التركي في المنطقة.
ولقد كان الأتراك يريدون أن يتخذوا من مصر منصة لإضعاف ادوار الآخرين، ليس فقط المحور السوري ـ الإيراني، بل أيضا الوهابية التي أعلنت حربا شعواء على «الإخوان» في مصر.
لقد كسّرت تركيا الجناح الإقليمي الأول من مشروعها، وها هي تخسر جناحها الإخواني في مصر، بل مصر كلها بعدما اتخذ قادة تركيا مواقف عنيفة وصاخبة ورعناء لا تنم عن أي ديبلوماسية وعمق استراتيجي، ضد النظام الجديد في مصر محرّضين على لسان الناطق باسم «العدالة والتنمية» حسين تشيليك ووزير الخارجية احمد داود اوغلو على التمرد ومقاومة «ثورة 30 يونيو»، وبحيث يمكن القول بعد اقتلاع مرسي وجماعته وبعد التوتر بين الملك الاردني عبد الله الثاني واردوغان، ان الدور التركي لم يعد له من مرتكزات على ارض منطقة الشرق الأوسط، ما خلا دعما قطريا ربما بات مشكوكا فيه بعد وصول الأمير تميم الى العرش، وخلا دعم حركة حماس التي قد لا تستطيع تحمل وزر الدور التركي وحدها، فتختار النجاة برأسها بأشكال مختلفة.
انتهى الدور التركي على ارض الواقع الإقليمي. لكن بعد «انتفاضة تقسيم» بات الجناح التركي الصافي من هذا الدور أيضا موضع تكسر. وهو ما يفضي إلى القول إن تركيا الآن باتت فعلا داخل حدودها الجغرافية متقوقعة على نفسها تضرب أخماس «عمقها الاستراتيجي» بأسداس فشلها الذريع على كل الأصعدة.
المصدر :
السفير/ محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة