الى يوسف النقيب

في صيدا اليوم حكاية لم تعرفها المدينة وأهلها سابقاً. لم يحصل أن روى جد لحفيد، أو أستاذ لتلميذ، قصة انقسام مذهبي بين الشيعة والسنّة. لم تسجل وكالات الأخبار على اختلافها، وعلى قدرتها الفائقة على الاختلاق، حادثاً واحداً في المدينة على هذه الخلفية. وأذكر جيداً، في أيام عاشوراء، كيف كانت أمي تلجأ الى زاويتها، تدير آلة التسجيل وتسمع مجلس عزاء باكية وحدها، من دون ضجيج يربك أهل البيت، لا الجيران. وفي يوم العاشر، كانت تذهب وجارتين لنا الى حسينية على البحر، لتعود وتستمر الحياة من دون مفاجآت. وأذكر أن والدي كان يعود 4 أو 5 مرات في الأسبوع من البلد حاملاً الخضر والفواكه، وكان جارنا أبو سمير هو سائق التاكسي الذي لم يحتج يوماً الى طرح سؤال عن سبب تسمية والدي شقيقي الكبير باسم خالد، ولا لماذا يناديه رفاقه بـ«السيد». ويوم تزوجت شقيقاتي الأربع شباباً من صيدا وبيروت، لم نسمع من قريب في بلدتنا أو في عائلتنا التي لها أصول دينية عميقة، أي استفسار أو استهجان أو استغراب، لأن السيد زوّج بناته لشباب من أهل السنّة.

اليوم، يمكن أياً من شقيقاتي، أو أبنائهم العشرين، تسجيل ألف قصة وقصة عما يجري تداوله من أخبار وحكايات وشائعات وقصص من الخيال. وكلها تقود الى نتيجة واحدة: للمرة الاولى، نضطر الى الانتباه لكيفية التعامل مع السنّي ومع الشيعي.

اليوم في صيدا، وبعد موقعة عبرا، يتصدّر جماعة الحريري والجماعة الإسلامية مشهد التعليقات السياسية. يتحدثون من دون توقف عن سلاح حزب الله وعن شقق سرايا المقاومة وعن خاطفين وعن محققين أمنيين، وعن وعن وعن... عملياً، عن كل ما كان يقوله الشيخ أحمد الأسير. ولا بأس بأن يزيد هؤلاء بعض العبارات عن الدولة والعبور اليها وعن الجيش حامي الوطن، والى ما ذلك من عبارات تخرج عنوة من أفواه كاذبة.

طيب، هل صحيح أن في صيدا من يملك رواية قوية، صلبة الوقائع والقرائن والادلة، تشير الى «غزو شيعي» للمدينة؟ أو الى «سلبطة» باسم الشيعة على هذا المرفق أو ذاك؟ وهل صحيح أن في صيدا اليوم من يقدر على عرض حكاية، أو قصة، تشير الى أن المقاومة تستخدم المدينة لأجل إيذاء أبنائها؟ ألا يفكر مطلقو الشائعات في أن 15 سنة مرت بين تحرير المدينة والتحرير الكبير لم تشهد استخداماً للمدينة، ما جعل أهلها يدفعون ثمن شيء لا يريدونه؟ علماً بأن المدينة أدّت الدور المركزي في طرد الاحتلال من غالبية مناطق الجنوب. وهي قبلت تجاوز آثار تعامل بعض أبنائها وبعض أهل الجوار مع الاحتلال. ولولا جنون حليف الحريري سمير جعجع لما تهجّر المسيحيون منها. هل يعرف هؤلاء أن الحريري لا يريد ملاحقة المشتبه في تولّيهم خطف ابن المدينة محيي الدين حشيشو؟ وهل حصل فعلاً أن امتنع شيعي عن شراء صحن فول من محل لسنّي في المدينة، أو قاطع محل حلويات لأحد، بما في ذلك مريدو الشيخ الأسير؟

ثمة خرافة أرادها آل الحريري، والسبب، أنهم يريدون تحويل فشلهم في قيادة هذه المدينة الى جريمة تنسب إلى غيرهم من الخصوم. هم يريدون ببساطة أن يحوّلوا خطأهم في بناء دولة عادلة، وأن يبرروا تبعيتهم العمياء للخارج، بأن الخطأ ليس سوى ظلم ترتكبه المقاومة؟ هل صار قادة «المستقبل» شيوخاً يصدرون الفتاوى الدينية، فيقرر بعضهم أن كل سنّي من المدينة يقف الى جانب المقاومة إنما هو خائن، وعندما يخفض هذا العبقري رأسه يهمس في أذن مجاوره: خائن يعني شيعي؟

هل تستحق المدينة هذا الظلم، بأن يتولى مغرورون وصبية وانتهازيون مسؤوليتها، فيقررون ما يجب وما لا يجب؟ هل يجرؤ قياديّو المستقبل على رواية حقيقة ما حصل في شققهم القريبة من منزل بهية الحريري في مجدليون؟ أم أنها «عنزة ولو طارت»؟

هل حزب الله هو المسؤول عن عدم دفع الحريري الديون عليه، وبعضها ببضعة آلاف تخص أصحاب حرف صغيرة في صيدا، بينما أنفقت الألوف في حفل افتتاح نزل وسط بيروت، في الوقت نفسه الذي كانت فيه «المدن السورية تدك من قبل النظام المجرم وشبيحة نصرالله»؟

هل هو حزب الله الذي جعل قيادة الجماعة الاسلامية تعاني إرباكاً مدوياً سبّب انشقاقات أخرجت من التنظيم أشخاصاً محترمين، وذنبهم اليوم أنهم يقفون الى جانب المقاومة، وبفعلتهم هذه لم يعودوا، لا سنّة ولا من أبناء المدينة؟

هل صارت الجماعة التي لم تتوقف يوماً عن التحريض على الشيخ الأسير وتقول عنه أكثر بكثير من كل ما قاله الآخرون عنه، هل صارت اليوم هي الحضن وهي المنقذ وهي الحصن الحصين؟

أليس بين هؤلاء من يقدر اليوم على الخروج والقول إن من تولّى قيادة أهل المدينة أو أغلب أهلها، إنما هو غير مؤهل لهذا الدور، وإنه فشل، وإن المال لا يصنع رجالاً ولا يشتري حكمة وعقلاً؟ أم علينا الغرق في لعبة تحويل الخطأ الى ظلم يسبّبه الآخرون فقط، لأنهم يعرفون إدارة أمورهم، وينجحون حيث يفشل الآخرون؟

لا يمكن تحويل الخطأ الى ظلم يتطلب ثورة. وكل تأخر عن المراجعة، ولو الصامتة، سوف يدفع الى مزيد من ارتكاب الأخطاء المدمرة. ومع الأسف، مع الأسف الشديد، لن ينفع هذا التعنّت في تغيير الوقائع الصلبة التي تقوم من حولنا...

حرام، فصيدا لا تستحق هذه الحفنة من الانتهازيين!

 

غداً: وهل الآخرون أنبياء؟

  • فريق ماسة
  • 2013-07-01
  • 11028
  • من الأرشيف

عن صيدا وأحوال السنّة : بين الظلم والخطأ

الى يوسف النقيب في صيدا اليوم حكاية لم تعرفها المدينة وأهلها سابقاً. لم يحصل أن روى جد لحفيد، أو أستاذ لتلميذ، قصة انقسام مذهبي بين الشيعة والسنّة. لم تسجل وكالات الأخبار على اختلافها، وعلى قدرتها الفائقة على الاختلاق، حادثاً واحداً في المدينة على هذه الخلفية. وأذكر جيداً، في أيام عاشوراء، كيف كانت أمي تلجأ الى زاويتها، تدير آلة التسجيل وتسمع مجلس عزاء باكية وحدها، من دون ضجيج يربك أهل البيت، لا الجيران. وفي يوم العاشر، كانت تذهب وجارتين لنا الى حسينية على البحر، لتعود وتستمر الحياة من دون مفاجآت. وأذكر أن والدي كان يعود 4 أو 5 مرات في الأسبوع من البلد حاملاً الخضر والفواكه، وكان جارنا أبو سمير هو سائق التاكسي الذي لم يحتج يوماً الى طرح سؤال عن سبب تسمية والدي شقيقي الكبير باسم خالد، ولا لماذا يناديه رفاقه بـ«السيد». ويوم تزوجت شقيقاتي الأربع شباباً من صيدا وبيروت، لم نسمع من قريب في بلدتنا أو في عائلتنا التي لها أصول دينية عميقة، أي استفسار أو استهجان أو استغراب، لأن السيد زوّج بناته لشباب من أهل السنّة. اليوم، يمكن أياً من شقيقاتي، أو أبنائهم العشرين، تسجيل ألف قصة وقصة عما يجري تداوله من أخبار وحكايات وشائعات وقصص من الخيال. وكلها تقود الى نتيجة واحدة: للمرة الاولى، نضطر الى الانتباه لكيفية التعامل مع السنّي ومع الشيعي. اليوم في صيدا، وبعد موقعة عبرا، يتصدّر جماعة الحريري والجماعة الإسلامية مشهد التعليقات السياسية. يتحدثون من دون توقف عن سلاح حزب الله وعن شقق سرايا المقاومة وعن خاطفين وعن محققين أمنيين، وعن وعن وعن... عملياً، عن كل ما كان يقوله الشيخ أحمد الأسير. ولا بأس بأن يزيد هؤلاء بعض العبارات عن الدولة والعبور اليها وعن الجيش حامي الوطن، والى ما ذلك من عبارات تخرج عنوة من أفواه كاذبة. طيب، هل صحيح أن في صيدا من يملك رواية قوية، صلبة الوقائع والقرائن والادلة، تشير الى «غزو شيعي» للمدينة؟ أو الى «سلبطة» باسم الشيعة على هذا المرفق أو ذاك؟ وهل صحيح أن في صيدا اليوم من يقدر على عرض حكاية، أو قصة، تشير الى أن المقاومة تستخدم المدينة لأجل إيذاء أبنائها؟ ألا يفكر مطلقو الشائعات في أن 15 سنة مرت بين تحرير المدينة والتحرير الكبير لم تشهد استخداماً للمدينة، ما جعل أهلها يدفعون ثمن شيء لا يريدونه؟ علماً بأن المدينة أدّت الدور المركزي في طرد الاحتلال من غالبية مناطق الجنوب. وهي قبلت تجاوز آثار تعامل بعض أبنائها وبعض أهل الجوار مع الاحتلال. ولولا جنون حليف الحريري سمير جعجع لما تهجّر المسيحيون منها. هل يعرف هؤلاء أن الحريري لا يريد ملاحقة المشتبه في تولّيهم خطف ابن المدينة محيي الدين حشيشو؟ وهل حصل فعلاً أن امتنع شيعي عن شراء صحن فول من محل لسنّي في المدينة، أو قاطع محل حلويات لأحد، بما في ذلك مريدو الشيخ الأسير؟ ثمة خرافة أرادها آل الحريري، والسبب، أنهم يريدون تحويل فشلهم في قيادة هذه المدينة الى جريمة تنسب إلى غيرهم من الخصوم. هم يريدون ببساطة أن يحوّلوا خطأهم في بناء دولة عادلة، وأن يبرروا تبعيتهم العمياء للخارج، بأن الخطأ ليس سوى ظلم ترتكبه المقاومة؟ هل صار قادة «المستقبل» شيوخاً يصدرون الفتاوى الدينية، فيقرر بعضهم أن كل سنّي من المدينة يقف الى جانب المقاومة إنما هو خائن، وعندما يخفض هذا العبقري رأسه يهمس في أذن مجاوره: خائن يعني شيعي؟ هل تستحق المدينة هذا الظلم، بأن يتولى مغرورون وصبية وانتهازيون مسؤوليتها، فيقررون ما يجب وما لا يجب؟ هل يجرؤ قياديّو المستقبل على رواية حقيقة ما حصل في شققهم القريبة من منزل بهية الحريري في مجدليون؟ أم أنها «عنزة ولو طارت»؟ هل حزب الله هو المسؤول عن عدم دفع الحريري الديون عليه، وبعضها ببضعة آلاف تخص أصحاب حرف صغيرة في صيدا، بينما أنفقت الألوف في حفل افتتاح نزل وسط بيروت، في الوقت نفسه الذي كانت فيه «المدن السورية تدك من قبل النظام المجرم وشبيحة نصرالله»؟ هل هو حزب الله الذي جعل قيادة الجماعة الاسلامية تعاني إرباكاً مدوياً سبّب انشقاقات أخرجت من التنظيم أشخاصاً محترمين، وذنبهم اليوم أنهم يقفون الى جانب المقاومة، وبفعلتهم هذه لم يعودوا، لا سنّة ولا من أبناء المدينة؟ هل صارت الجماعة التي لم تتوقف يوماً عن التحريض على الشيخ الأسير وتقول عنه أكثر بكثير من كل ما قاله الآخرون عنه، هل صارت اليوم هي الحضن وهي المنقذ وهي الحصن الحصين؟ أليس بين هؤلاء من يقدر اليوم على الخروج والقول إن من تولّى قيادة أهل المدينة أو أغلب أهلها، إنما هو غير مؤهل لهذا الدور، وإنه فشل، وإن المال لا يصنع رجالاً ولا يشتري حكمة وعقلاً؟ أم علينا الغرق في لعبة تحويل الخطأ الى ظلم يسبّبه الآخرون فقط، لأنهم يعرفون إدارة أمورهم، وينجحون حيث يفشل الآخرون؟ لا يمكن تحويل الخطأ الى ظلم يتطلب ثورة. وكل تأخر عن المراجعة، ولو الصامتة، سوف يدفع الى مزيد من ارتكاب الأخطاء المدمرة. ومع الأسف، مع الأسف الشديد، لن ينفع هذا التعنّت في تغيير الوقائع الصلبة التي تقوم من حولنا... حرام، فصيدا لا تستحق هذه الحفنة من الانتهازيين!   غداً: وهل الآخرون أنبياء؟

المصدر : الاخبار / ابراهيم الأمين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة