بعد ثورتي مصر وتونس اعتبر الكثيرون أن تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية سوف تكون النموذج المحتذى، وأن مصر التي يحكمها حزب الحرية والعدالة وتونس التي يحكمها حزب النهضة سوف تسيران على خطى تركيا في تبني النيوليبرالية اقتصادياً والأصولية الإسلامية دينياً. اعتبر هؤلاء أن النموذج التركي ناجح، فقد مضى على تطويره وتثبيت أركانه ودعائمه حوالي ثلاثين عاماً، أي منذ عام 1980. وانتفخت أوداج بعض القادة الأتراك عندما سمعوا أن العرب سوف يعتمرون الطربوش التركي. وكتب داود أوغلو عن المدى الحيوي لتركيا في أرجاء الوطن العربي.

غاب عن ذهن هؤلاء جميعاً أن الثورة العربية عملية تحرر حقيقية؛ ومن الطبيعي أن ترفض جميع النماذج مسبقة الصنع. غاب عن ذهنهم أن السلطة يمكن اختطافها، أما عملية التحرر فهي غير قابلة للاختطاف، هي عملية تحولات كبرى إيديولوجية وسياسية واجتماعية في مجتمعات أصبحت ترفض كل سلطة ولا ترضى إلا بأن تكون إرادتها هي التي تفرض نفسها. ما زالت المنطقة العربية، والإسلامية عموماً، تغلي بالحركات الشعبية الثورية وتصارع قوى الثورة المضادة وقوى الأمبراطورية التي تديرها. هناك صراع مرير وشرس بين شعوب المنطقة وبين القوى المضادة. والأبواب مفتوحة على احتمالات عديدة يصعب التنبؤ بها.

ما فاجأ الجميع هو انتقال تجربة ميدان التحرير إلى ساحة تقسيم في استنبول. من المبكر الحديث عن نموذج عربي لتركيا، ومن الأفضل اعتبار الأمر ثورة ضد النيوليبرالية بردائها الإسلامي. تخوض الأمبراطورية والقوى المضادة للثورة عملية احتيال كبيرة لإعادة مسار النيوليبرالية (بالخصخصة والمشاريع الكبرى التي لا تفيد الطبقات الفقيرة) عن طريق الإسلام السياسي. سياسات نيوليبرالية بتعابير دينية. لم يعد الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون وحلفاؤهم السلفيون) امتداداً للإسلام التقليدي، بل صار تعبيراً حداثوياً (أو ما بعد حداثوي) لتأكيد سياسات اقتصادية رأسمالية نيوليبرالية بأكثر أشكالها توحشاً. يحتالون بالإسلام السياسي لخدمة الرأسمالية المحلية والدولية. يريدون أن يجعلوا من بلادنا جزءاً لإنتاج الرأسمال من دون أن يرتبط الإنتاج بالسوق المحلية ومن دون تشغيل أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة. في هذا النموذج الرأسمالي النيوليبرالي يصير الفقراء والعمال إضافة للرأسمال لا مشاركة لهم في عملية إنتاجية اجتماعية تستفيد منها جميع الطبقات. يخوضون صراع الطبقات بالدين والنقاش الديني الذي يصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية. تتخلى الدولة عن مهامها في إدارة شؤون المجتمع الاقتصادية والاجتماعية. تصير الدولة واحدة من منظمات المجتمع المدني للتسويق للرساميل الوافدة التي تسمى استثمارات، والتي تعطي تسهيلات تسهل لها الحرب عندما تلوح أزمات في الأفق بأسرع من لمح البصر تاركة وراءها الأزمات المالية والخراب الاقتصادي على أن تكون مهمة الدين على يد الإسلام السياسي تبرير الأمر الواقع وإغداق الوعود بنصيب الفقراء في الجنة.

هي مواجهة بين الجماهير وأشكال السلطة الجديدة التي دغمت الدين بالرأسمالية النيوليبرالية. هي مواجهة بين شرعية الميدان ونفاق الحكام الجدد. شرعية الميدان ترفض أن تسلب حقوق الناس وكرامتهم بواسطة صندوق الانتخابات والزعبرات الديموقراطية. شرعية الميدان تحمي السياسة من الديموقراطية. شرعية الميدان تحمي الجماهير من صلافة وجلافة الحكام الجدد. لا معنى للديموقراطية إذا اقتصرت على «أسرار» صندوق الانتخابات واحتيالات الأحزاب المهيمنة. السياسة هي إدارة شؤون المجتمع وخاصة الاقتصادية.

اعتمد الحكام الجدد في مصر وتونس وتركيا على الظن بأن الجماهير ساذجة، وأنها لا تميز بين الإيمان وطاعة الخالق وبين قادة يعتبرون الطاعة لهم والانصياع لأوامرهم واجباً شرعياً.

خاب ظنهم؛ واسودّت أوجههم؛ وظهر فسادهم؛ في مواجهة الجماهير الواعية. وذلك ما يبعث على التفاؤل.

  • فريق ماسة
  • 2013-06-13
  • 7962
  • من الأرشيف

فساد النموذج التركي

بعد ثورتي مصر وتونس اعتبر الكثيرون أن تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية سوف تكون النموذج المحتذى، وأن مصر التي يحكمها حزب الحرية والعدالة وتونس التي يحكمها حزب النهضة سوف تسيران على خطى تركيا في تبني النيوليبرالية اقتصادياً والأصولية الإسلامية دينياً. اعتبر هؤلاء أن النموذج التركي ناجح، فقد مضى على تطويره وتثبيت أركانه ودعائمه حوالي ثلاثين عاماً، أي منذ عام 1980. وانتفخت أوداج بعض القادة الأتراك عندما سمعوا أن العرب سوف يعتمرون الطربوش التركي. وكتب داود أوغلو عن المدى الحيوي لتركيا في أرجاء الوطن العربي. غاب عن ذهن هؤلاء جميعاً أن الثورة العربية عملية تحرر حقيقية؛ ومن الطبيعي أن ترفض جميع النماذج مسبقة الصنع. غاب عن ذهنهم أن السلطة يمكن اختطافها، أما عملية التحرر فهي غير قابلة للاختطاف، هي عملية تحولات كبرى إيديولوجية وسياسية واجتماعية في مجتمعات أصبحت ترفض كل سلطة ولا ترضى إلا بأن تكون إرادتها هي التي تفرض نفسها. ما زالت المنطقة العربية، والإسلامية عموماً، تغلي بالحركات الشعبية الثورية وتصارع قوى الثورة المضادة وقوى الأمبراطورية التي تديرها. هناك صراع مرير وشرس بين شعوب المنطقة وبين القوى المضادة. والأبواب مفتوحة على احتمالات عديدة يصعب التنبؤ بها. ما فاجأ الجميع هو انتقال تجربة ميدان التحرير إلى ساحة تقسيم في استنبول. من المبكر الحديث عن نموذج عربي لتركيا، ومن الأفضل اعتبار الأمر ثورة ضد النيوليبرالية بردائها الإسلامي. تخوض الأمبراطورية والقوى المضادة للثورة عملية احتيال كبيرة لإعادة مسار النيوليبرالية (بالخصخصة والمشاريع الكبرى التي لا تفيد الطبقات الفقيرة) عن طريق الإسلام السياسي. سياسات نيوليبرالية بتعابير دينية. لم يعد الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون وحلفاؤهم السلفيون) امتداداً للإسلام التقليدي، بل صار تعبيراً حداثوياً (أو ما بعد حداثوي) لتأكيد سياسات اقتصادية رأسمالية نيوليبرالية بأكثر أشكالها توحشاً. يحتالون بالإسلام السياسي لخدمة الرأسمالية المحلية والدولية. يريدون أن يجعلوا من بلادنا جزءاً لإنتاج الرأسمال من دون أن يرتبط الإنتاج بالسوق المحلية ومن دون تشغيل أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة. في هذا النموذج الرأسمالي النيوليبرالي يصير الفقراء والعمال إضافة للرأسمال لا مشاركة لهم في عملية إنتاجية اجتماعية تستفيد منها جميع الطبقات. يخوضون صراع الطبقات بالدين والنقاش الديني الذي يصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية. تتخلى الدولة عن مهامها في إدارة شؤون المجتمع الاقتصادية والاجتماعية. تصير الدولة واحدة من منظمات المجتمع المدني للتسويق للرساميل الوافدة التي تسمى استثمارات، والتي تعطي تسهيلات تسهل لها الحرب عندما تلوح أزمات في الأفق بأسرع من لمح البصر تاركة وراءها الأزمات المالية والخراب الاقتصادي على أن تكون مهمة الدين على يد الإسلام السياسي تبرير الأمر الواقع وإغداق الوعود بنصيب الفقراء في الجنة. هي مواجهة بين الجماهير وأشكال السلطة الجديدة التي دغمت الدين بالرأسمالية النيوليبرالية. هي مواجهة بين شرعية الميدان ونفاق الحكام الجدد. شرعية الميدان ترفض أن تسلب حقوق الناس وكرامتهم بواسطة صندوق الانتخابات والزعبرات الديموقراطية. شرعية الميدان تحمي السياسة من الديموقراطية. شرعية الميدان تحمي الجماهير من صلافة وجلافة الحكام الجدد. لا معنى للديموقراطية إذا اقتصرت على «أسرار» صندوق الانتخابات واحتيالات الأحزاب المهيمنة. السياسة هي إدارة شؤون المجتمع وخاصة الاقتصادية. اعتمد الحكام الجدد في مصر وتونس وتركيا على الظن بأن الجماهير ساذجة، وأنها لا تميز بين الإيمان وطاعة الخالق وبين قادة يعتبرون الطاعة لهم والانصياع لأوامرهم واجباً شرعياً. خاب ظنهم؛ واسودّت أوجههم؛ وظهر فسادهم؛ في مواجهة الجماهير الواعية. وذلك ما يبعث على التفاؤل.

المصدر : الماسة السورية/ الفضل شلق


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة