حين تفشل المعارضة السورية بصياغة إتفاق الحد الأدنى بين أفرقائها رغم الضغوط الدولية، يُدرك الشعب أن لا مستقبل لتلك المعارضة، خصوصاً أن وعودها تلاشت في السياسة والميدان. هذا ما يقوله معارضون سوريون صاروا يصوّبون على قيادة المعارضة بالجملة والمفرق: ماذا حققتم غير الدمار وعدم الإستقرار؟

حين يتأكد مناصرو المعارضة من ثبات النظام رغم حجم الحملة المتشعبة عليه داخلياً وإقليمياً ودولياً منذ أكثر من سنتين، يبدأون بمراجعة خياراتهم كما يحصل مع بعض الجاليات السورية، فيتقاطرون إلى منزل السفير أو القائم بالأعمال الذي لم يُقفل بابه أمامهم يوماً، ويهمسون أولاً في أذنه قبل رفع الصوت: لقد كنت على حق ونحن أخطأنا بحق الوطن.

حين يرى المواطن السوري والجندي في الجيش أن القوات المسلحة إستعادت زمام المبادرة الميدانية، وتقلّصت المواجهة إلى حدود قتال بين عسكريين ومتطرفين يتبعون "لجبهة النصرة"، يُدرك السوريون أن خيار الدولة أفعل.

حين تتلمس العواصم قدرة سورية على الصمود ونجاح رئيسها بشار الأسد في إدارة المعركة بشجاعة، تُسارع دول كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية لإعادة العلاقات السرية مع دمشق وصد الحملة البريطانية-الفرنسية لتسليح المعارضين، خصوصاً أن هاجس التطرف يكبر يوماً بعد يوم، ولن تكون بمنأى عنه تلك الدول الغربية.

مع تعدد السيناريوهات حول مسار مؤتمر جنيف 2، تكثر الإستنتاجات لكن جوهرها واحد يستند إلى بقاء الأسد في سدة القيادة والإحتكام إلى الشعب في إنتخابات 2014. تلك المعادلة تنطلق من قدرة النظام على الصمود والتقدم الميداني للجيش السوري.

تبدّلت الحسابات منذ الحديث عن إستعداد "الجيش الحر" لإجتياح العاصمة إلى مرحلة أصبح فيها الجيش السوري يهاجم أماكن تواجد المسلحين في أي بقعة. لا أمان للمعارضين في أي محافظة: في ريف العاصمة أصبح تواجد المسلحين في جيوب موزّعة تلاحقها قوات الجيش في الغوطة الشرقية، قبل أن يأتي دور القرى الحدودية مع لبنان من الزبداني إلى قاره ورنكوس وما بينهم وصولاً إلى محاذاة القصير، بينما يخطط النظام لضرب المجموعات في بساتين برزة و حرستا ودوما، أقله لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل سنة ونصف. وفي درعا وقراها يتحدث مطّلعون عن أن إستعادتها ستكون مباشرة بعد إنتهاء معارك القصير، أما حلب وريفها فهي موزّعة وفق مسارات بدأت مع التحضير لفك الحصار عن نُبّل والزهراء بعد عندان ثم إستعادة السيطرة على الطريق الدولية التي تصل حلب بالحدود التركية، هنا الحسابات تقضي بإستعادة السيطرة على أحياء حلب بعد قطع الإمدادات الآتية من الشمال، وبدا أن الأكراد يقاتلون أيضاً ضد المسلحين في شمال حلب. حتى الرقة ودير الزور شرقاً لم يترك فيها الجيش المسلحين بأمان، علماً أن للعشائر دوراً مستقبلياً في إعادتها إلى أحضان الدولة. قد يبدو السيناريو مبالغ فيه، لكن هذا ما تتحدث عنه الدولة السورية وتنفذه تدريجياً، وقد تم إختباره عملياً في القصير. علماً أن إستعادة زمام المبادرة في مناطق عدة شجّع المواطنين على التعامل مجدداً مع الدولة ضد المسلحين سراً وعلانية.

لا توحي تلك الوقائع بالضرورة بقرب الحل في سورية، فالمعركة طويلة ويُراد لها أن تبقى، تشتد وتخف في ظل المفاوضات المرتقبة إنطلاقاً من جنيف، لكن هذه الوقائع الميدانية هي سبب الإندفاعة الروسية تجاه دمشق في فرض ثوابت موسكو مقابل تراجع واشنطن، إلى حد تزويد سوريا بصواريخ اس 300.

يدرك الأسد أن الرهان لن يكون إلاّ على الميدان، ولذلك يُركّز السوريون على التطورات العسكرية "التي قلبت موازين القوى على الأرض". سيذهب النظام إلى جنيف قوياً، بينما يكون وضع المعارضين حرجاً. عدا عن خسائرهم الميدانية، هم محرجون من سيطرة المتطرفين على الساحة، ومحرجون من تشتت قوتهم السياسية وعدم الإتفاق على أية مسلمات. هم يدفعون ثمن تضارب المصالح الإقليمية والدولية المربوطين فيها أصلاً، لقد بات يعمل الوقت ضدهم بعد أن كان ضد النظام في بداية الأزمة.

الى ذلك، يُصرّ الإئتلاف المعارض على مطلب تنحي الأسد عن السلطة، لكن المعارضين يعرفون أن لا قدرة على فرض هذا المطلب إنطلاقاً من ثابتة واحدة: لن تستطيع جنيف فرض ما عجزت عنه المعارك العسكرية في سورية. لكن لماذا يُصر الإئتلاف على التنحي؟ مراقبون يجدون أن تراجع المعارضين عن مطلبهم قبل موعد المؤتمر سيؤثر سلباً على مناصريهم، لكن التخلي لاحقاَ أثناء التفاوض المفتوح سيحلّ بطريقة متدرّجة. علماً أن معارضين يتحدثون عن "تفاوض مرتقب تحت النار" سيصل إلى موعد إنتخابات الرئاسة عام 2014، ويراهنون على عدم قدرة الأسد على الفوز بالإنتخابات حينها، غير أن النظام على يقين تام أن أي إنتخابات ستُعطي الأسد الأكثرية الشعبية مجدداً.

ثمة متغيرات طرأت على المشهد العام، من تعدد حركات المعارضة وتشظي القوى الأساسية فيها، إلى حد وصف أحد المطّلعين حال المعارضة "بالشيخوخة المبكرة". تحضيرات بالجملة لإنشاء حركات وتيارات سورية جديدة في القاهرة، وفتح خطوط مع عواصم إقليمية ودولية. تنحي قطر عن الدور الأساسي في دعم المعارضة لمصلحة الرعاية السعودية بطلب أميركي وليس برضى الدوحة، علماً أن الرياض لديها حسابات مختلفة في التعاطي مع القوى الإسلامية وخصوصاً "الإخوان المسلمون"، ومن هنا تأتي عملية الحد من سيطرة "الإخوان" على الإئتلاف المعارض كما يجري في إسطنبول.

تفاصيل المشهد السوري هذه الأيام وما يدور في فلكه، توحي أن دمشق مقبلة على مرحلة جديدة قد تطول مسافتها الزمنية، لا مشكلة عند الدول إن سقط دم جديد أو أرهق المواطن السوري إقتصادياَ ونفسياً، لا أزمة للدول مع الوقت حول سورية، لا أزمة إن حلّ التفاوض اليوم أو بعد أشهر، إن أثمر فوراً أو تأجلت نتائجه، وإن كان البنك الدولي بدأ عملياً بوضع إشارات على المناطق التي تحتاج للإعمار لترجمة الإتفاق الدولي حول سورية، وهيأت الشركات العابرة للقارات خرائطها للتنقيب عن غاز طرطوس واللاذقية، وإستعدّت الدول الغربية للمقايضة مع موسكو وطهران في ملفات تصل إلى إستلام الروس المنطقة كما تبين خطواتهم في البحر المتوسط ومنع سقوط سورية، مقابل مغادرة الولايات المتحدة الأميركية تدريجياً، في ظل عدم إكتراث الغرب، أليس هذا ما قاله الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط؟
  • فريق ماسة
  • 2013-05-31
  • 11774
  • من الأرشيف

بعد القصير... درعا ثم حلب... حكاية الميدان والتفاوض...

حين تفشل المعارضة السورية بصياغة إتفاق الحد الأدنى بين أفرقائها رغم الضغوط الدولية، يُدرك الشعب أن لا مستقبل لتلك المعارضة، خصوصاً أن وعودها تلاشت في السياسة والميدان. هذا ما يقوله معارضون سوريون صاروا يصوّبون على قيادة المعارضة بالجملة والمفرق: ماذا حققتم غير الدمار وعدم الإستقرار؟ حين يتأكد مناصرو المعارضة من ثبات النظام رغم حجم الحملة المتشعبة عليه داخلياً وإقليمياً ودولياً منذ أكثر من سنتين، يبدأون بمراجعة خياراتهم كما يحصل مع بعض الجاليات السورية، فيتقاطرون إلى منزل السفير أو القائم بالأعمال الذي لم يُقفل بابه أمامهم يوماً، ويهمسون أولاً في أذنه قبل رفع الصوت: لقد كنت على حق ونحن أخطأنا بحق الوطن. حين يرى المواطن السوري والجندي في الجيش أن القوات المسلحة إستعادت زمام المبادرة الميدانية، وتقلّصت المواجهة إلى حدود قتال بين عسكريين ومتطرفين يتبعون "لجبهة النصرة"، يُدرك السوريون أن خيار الدولة أفعل. حين تتلمس العواصم قدرة سورية على الصمود ونجاح رئيسها بشار الأسد في إدارة المعركة بشجاعة، تُسارع دول كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية لإعادة العلاقات السرية مع دمشق وصد الحملة البريطانية-الفرنسية لتسليح المعارضين، خصوصاً أن هاجس التطرف يكبر يوماً بعد يوم، ولن تكون بمنأى عنه تلك الدول الغربية. مع تعدد السيناريوهات حول مسار مؤتمر جنيف 2، تكثر الإستنتاجات لكن جوهرها واحد يستند إلى بقاء الأسد في سدة القيادة والإحتكام إلى الشعب في إنتخابات 2014. تلك المعادلة تنطلق من قدرة النظام على الصمود والتقدم الميداني للجيش السوري. تبدّلت الحسابات منذ الحديث عن إستعداد "الجيش الحر" لإجتياح العاصمة إلى مرحلة أصبح فيها الجيش السوري يهاجم أماكن تواجد المسلحين في أي بقعة. لا أمان للمعارضين في أي محافظة: في ريف العاصمة أصبح تواجد المسلحين في جيوب موزّعة تلاحقها قوات الجيش في الغوطة الشرقية، قبل أن يأتي دور القرى الحدودية مع لبنان من الزبداني إلى قاره ورنكوس وما بينهم وصولاً إلى محاذاة القصير، بينما يخطط النظام لضرب المجموعات في بساتين برزة و حرستا ودوما، أقله لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل سنة ونصف. وفي درعا وقراها يتحدث مطّلعون عن أن إستعادتها ستكون مباشرة بعد إنتهاء معارك القصير، أما حلب وريفها فهي موزّعة وفق مسارات بدأت مع التحضير لفك الحصار عن نُبّل والزهراء بعد عندان ثم إستعادة السيطرة على الطريق الدولية التي تصل حلب بالحدود التركية، هنا الحسابات تقضي بإستعادة السيطرة على أحياء حلب بعد قطع الإمدادات الآتية من الشمال، وبدا أن الأكراد يقاتلون أيضاً ضد المسلحين في شمال حلب. حتى الرقة ودير الزور شرقاً لم يترك فيها الجيش المسلحين بأمان، علماً أن للعشائر دوراً مستقبلياً في إعادتها إلى أحضان الدولة. قد يبدو السيناريو مبالغ فيه، لكن هذا ما تتحدث عنه الدولة السورية وتنفذه تدريجياً، وقد تم إختباره عملياً في القصير. علماً أن إستعادة زمام المبادرة في مناطق عدة شجّع المواطنين على التعامل مجدداً مع الدولة ضد المسلحين سراً وعلانية. لا توحي تلك الوقائع بالضرورة بقرب الحل في سورية، فالمعركة طويلة ويُراد لها أن تبقى، تشتد وتخف في ظل المفاوضات المرتقبة إنطلاقاً من جنيف، لكن هذه الوقائع الميدانية هي سبب الإندفاعة الروسية تجاه دمشق في فرض ثوابت موسكو مقابل تراجع واشنطن، إلى حد تزويد سوريا بصواريخ اس 300. يدرك الأسد أن الرهان لن يكون إلاّ على الميدان، ولذلك يُركّز السوريون على التطورات العسكرية "التي قلبت موازين القوى على الأرض". سيذهب النظام إلى جنيف قوياً، بينما يكون وضع المعارضين حرجاً. عدا عن خسائرهم الميدانية، هم محرجون من سيطرة المتطرفين على الساحة، ومحرجون من تشتت قوتهم السياسية وعدم الإتفاق على أية مسلمات. هم يدفعون ثمن تضارب المصالح الإقليمية والدولية المربوطين فيها أصلاً، لقد بات يعمل الوقت ضدهم بعد أن كان ضد النظام في بداية الأزمة. الى ذلك، يُصرّ الإئتلاف المعارض على مطلب تنحي الأسد عن السلطة، لكن المعارضين يعرفون أن لا قدرة على فرض هذا المطلب إنطلاقاً من ثابتة واحدة: لن تستطيع جنيف فرض ما عجزت عنه المعارك العسكرية في سورية. لكن لماذا يُصر الإئتلاف على التنحي؟ مراقبون يجدون أن تراجع المعارضين عن مطلبهم قبل موعد المؤتمر سيؤثر سلباً على مناصريهم، لكن التخلي لاحقاَ أثناء التفاوض المفتوح سيحلّ بطريقة متدرّجة. علماً أن معارضين يتحدثون عن "تفاوض مرتقب تحت النار" سيصل إلى موعد إنتخابات الرئاسة عام 2014، ويراهنون على عدم قدرة الأسد على الفوز بالإنتخابات حينها، غير أن النظام على يقين تام أن أي إنتخابات ستُعطي الأسد الأكثرية الشعبية مجدداً. ثمة متغيرات طرأت على المشهد العام، من تعدد حركات المعارضة وتشظي القوى الأساسية فيها، إلى حد وصف أحد المطّلعين حال المعارضة "بالشيخوخة المبكرة". تحضيرات بالجملة لإنشاء حركات وتيارات سورية جديدة في القاهرة، وفتح خطوط مع عواصم إقليمية ودولية. تنحي قطر عن الدور الأساسي في دعم المعارضة لمصلحة الرعاية السعودية بطلب أميركي وليس برضى الدوحة، علماً أن الرياض لديها حسابات مختلفة في التعاطي مع القوى الإسلامية وخصوصاً "الإخوان المسلمون"، ومن هنا تأتي عملية الحد من سيطرة "الإخوان" على الإئتلاف المعارض كما يجري في إسطنبول. تفاصيل المشهد السوري هذه الأيام وما يدور في فلكه، توحي أن دمشق مقبلة على مرحلة جديدة قد تطول مسافتها الزمنية، لا مشكلة عند الدول إن سقط دم جديد أو أرهق المواطن السوري إقتصادياَ ونفسياً، لا أزمة للدول مع الوقت حول سورية، لا أزمة إن حلّ التفاوض اليوم أو بعد أشهر، إن أثمر فوراً أو تأجلت نتائجه، وإن كان البنك الدولي بدأ عملياً بوضع إشارات على المناطق التي تحتاج للإعمار لترجمة الإتفاق الدولي حول سورية، وهيأت الشركات العابرة للقارات خرائطها للتنقيب عن غاز طرطوس واللاذقية، وإستعدّت الدول الغربية للمقايضة مع موسكو وطهران في ملفات تصل إلى إستلام الروس المنطقة كما تبين خطواتهم في البحر المتوسط ومنع سقوط سورية، مقابل مغادرة الولايات المتحدة الأميركية تدريجياً، في ظل عدم إكتراث الغرب، أليس هذا ما قاله الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط؟

المصدر : النشرة/ عباس ضاهر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة