إيهود باراك كثير الإعجاب بشخصية نابليون بونابارت. واقتبس عنه عبارة مفضلة تقول: «هناك استخدامات عديدة للخنجر، ليس بينها الجلوس عليه». يبدو أن في اسرائيل من لا يوافق الإمبراطور الفرنسي على الشق الثاني من مقولته.

على الغلاف | يتندر الإسرائيليون بين الحين والآخر على صحة تقديرات أجهزتهم الاستخبارية بشأن احتمالات اندلاع الحرب. تقول إحدى الدعابات إنه «في كل مرة تؤكد الاستخبارات أن الحرب ليست على الأبواب يسارع متخرّجو حرب يوم الغفران (أكتوبر 73) إلى البحث عن الملاجئ».

الدلالة التي تنطوي عليها العبارة ترتبط بخطيئة التقدير الذي اعتمدته الاستخبارات العسكرية في حينه، وأصرت فيه على استبعاد أن يشن العرب حرباً على إسرائيل برغم تكاثر المؤشرات التي أفادت برجحان هذا الاحتمال. خطيئة دفعت الدولة العبرية ثمنها أكثر من ألفي قتيل وخمسة آلاف جريح، وشعوراً تملّك قادتها بالخطر الوجودي (كما كشفت عن ذلك وثائق الحرب إياها) قبل أن تعدّل الولايات المتحدة وجهة الأمور عبر تدخلها بجسر جوي أمد جيش الاحتلال بصنوف الأسلحة التي مكنته من الصمود والمواجهة وصولاً إلى المبادرة المضادة في ما عرف بثغرة الديفرسوار، فيما بعد، عملت المؤسسة الإسرائيلية على استخلاص العبر، فأجرت تعديلات بنيوية تتعلق بآليات صناعة التقديرات الاستخبارية ذات الصلة بنوايا الأعداء وسلوكياتهم المحتملة في ظروف محددة.

لم يمض وقتٌ طويل حتى خاضت إسرائيل تجربتها العسكرية التالية في جنوب لبنان عام 1982، مدفوعة بمشروع سياسي لإقامة نظام حليف في بعبدا. مشروع كانت العلاقات القديمة المستجدة مع قوى لبنانية نافذة قد أرست أسسه وأعطته الأمل بالتحقق. وما هي إلا أسابيع حتى بدأت طموحات تل أبيب ترتطم بواقع مفاجئ غايَرَ التقديرات الإسرائيلية، التي تطلعت إلى انتصار عسكري وسياسي قريب وغير مكلف. وما لبث «الجيش الذي لا يقهر»، المزهو بإنجازه المتمثل في إخراج المنظمات الفلسطينية من الجنوب، ولاحقاً من كل لبنان، أن وجد نفسه في مواجهة مقاومة لبنانية لم تتوقع تقديراتُ أجهزته الاستخبارية نشوءها، فضلاً عن أن تتنبأ بأنها ستكون من نوع لم يألفه في تاريخ صراعه مع العرب.

كذا تحول مشروع استراتيجي «واعد» إلى تخبط عبثي دام 18 عاما داخل مستنقع لم يُنجِ منه إلا بتآكل المكابرة الإسرائيلية مع الوقت والإقرار المتأخر بأن الخيار الوحيد الناجع في مواجهة المقاومة هو: الانسحاب غير المشروط. وبين عامي 1982 و2000، سجل أرشيف الاحتلال والمقاومة صولات وجولات، أهمها معركتا «الحساب والعقاب» عام 1993 و«عناقيد الغضب» عام 1996، كانت نتيجتها الدائمة خيبة إسرائيلية متراكمة من انعدام القدرة على فهم عقل المقاومة، وتقدير سلوكها وأفعالها الابتدائية والردّية. خيبةٌ أجاد رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، إيهود باراك، التعبير عنها حين أقر في أعقاب إحدى الجولات بأنه «على الرغم من أننا نمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم، إلا أننا نحتاج إلى رأس كثير الدوران كي نعرف كيف نال منا حزب الله».

كل هذا، ولم يصل الحديث بعد إلى حرب تموز 2006 وإخفاقاتها الاستخبارية (والعملانية) الفضائحية، بدءاً من سوء تقدير الموقف الإحتوائي للحزب في الساعات الأولى، وتفسيره على أنه عارض ضعف وانهيار (مما أغرى القيادتين السياسية والعسكرية بالإيغال في الحرب) مروراً بالوقوع في خديعة «الوزن النوعي»، التي ظلت الاستخبارات الإسرائيلية وقتاً طويلاً تتعامل معها على أنها «درة تاج» الإنجازات في الحرب، وصولاً إلى عدم القدرة على فهم الأسلوب الذي أعدته المقاومة لإدارة الحرب والضياع، تالياً، في ملعبها.

ويأتي دور الساحة السورية في صيرورتها المتكونة منذ بداية الأزمة الراهنة، وهي الساحة التي لطالما تغنت الاستخبارات الإسرائيلية بأنها مكشوفة أمامها مثل كف اليد. يذكر الجميع إيهود باراك وهو يتكلم بثقة عن تقديره بأن نظام الرئيس الأسد سيسقط خلال أسابيع. ثم ما لبثت الأسابيع أن تحولت إلى أشهر. وبعد ذلك، تبنّت تل أبيب مقولة «كذب الوقاتون»، فبقي التقدير العام يتبنى فرضية السقوط الحتمي للنظام من دون تحديد وقت محدد لذلك، مع الإشارة إلى أنّ ذلك لن يحدث بالضرورة خلال العام الحالي أو، ربما حتى، الذي يليه.

هنا اتخذت إسرائيل قرارها باقتحام المشهد السوري من بوابة الأسلحة «الكاسرة للتوازن» التي قالت إن دمشق تمثل معبراً لها في الطريق بين إيران وحزب الله. ومهما تكن خلفية القرار الإسرائيلي وأهدافه، فإن بإمكان المرء أن يجزم بأن قاعدة الاعتبارات التي استند إليها القرار انحصرت في حسابات الجدوى والكلفة، كما بالإمكان الترجيح بأن الحسابات في جانب الكلفة تركزت في مسألة واحدة هي تقدير احتمالات الرد السوري بالمعنى العسكري المباشر للكلمة.

إلا أن إسرائيل كانت على موعد آخر مع خطأ جديد في تقديراتها حين جاء رد سوريا ـــ ايران ـــ حزب الله مصوغاً بأسلوب من نوع مغاير لما توقعته أو فكرت فيه أو حتى تخيلته. وفي ضوئه، بدت إسرائيل كمن ربحت تكتيكياً، لكنها خسرت استراتيجياً. ليس فقط أنها ووجهت بالتزام علني من قبل القيادة السورية ــ تجاوز كل المحاذير السياسية ـــ بإصرار على مد المقاومة بأسلحة لم تحصل عليها من قبل، وإنما ـــ أيضا والأهم ــ بقرار استراتيجي بفتح جبهة الجولان، وهو قرار لا يعني أقل من حرب استنزاف لن تكون لإسرائيل اليد العليا فيها.

أمام هذا التحدي، مارست إسرائيل هوايتها المفضلة: الهروب إلى الأمام. إصرارٌ رسمي على المضي في تطبيق سياسة «الخطوط الحمر» الجديدة، تحت طائلة التلويح بإسقاط النظام السوري إن هو تجرأ على تنفيذ قراراته الأخيرة بتسليح المقاومة وفتح جبهة الجولان والرد العسكري على الاعتداء الإسرائيلي القادم.

ماذا يعني ذلك على صعيد المشهد الإقليمي المتصدع؟

يعني أننا سنكون أمام نوبة جديدة من متلازمة التقديرات الإسرائيلية الخاطئة، التي ستضع المنطقة على حافة الانفجار الكبير. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون عبقرياً ليستنتج أن حلفاء سوريا الاستراتيجيين (إقرأ روسيا وإيران وحزب الله)، الذين منعوا وردعوا مجلس الأمن والحلف الأطلسي وتركيا ودولاً أخرى عن مغامرة التدخل العسكري المباشر لإسقاط نظام الأسد، لن يقفوا ـــ كلٌ بطريقته ــ متفرجين أمام التدخل الإسرائيلي لتنفيذ هذا الهدف تحت أي عنوان من العناوين، ومهما بدا مشروعاً في ساحة الرأي العام. ثم من قال إنه ليس بين هؤلاء من يرى في التهديدات الإسرائيلية فرصته التي ينتظرها منذ أمد بعيد؟

  • فريق ماسة
  • 2013-05-17
  • 8016
  • من الأرشيف

إسرائيل ومتلازمة الحسابات الخاطئة

إيهود باراك كثير الإعجاب بشخصية نابليون بونابارت. واقتبس عنه عبارة مفضلة تقول: «هناك استخدامات عديدة للخنجر، ليس بينها الجلوس عليه». يبدو أن في اسرائيل من لا يوافق الإمبراطور الفرنسي على الشق الثاني من مقولته. على الغلاف | يتندر الإسرائيليون بين الحين والآخر على صحة تقديرات أجهزتهم الاستخبارية بشأن احتمالات اندلاع الحرب. تقول إحدى الدعابات إنه «في كل مرة تؤكد الاستخبارات أن الحرب ليست على الأبواب يسارع متخرّجو حرب يوم الغفران (أكتوبر 73) إلى البحث عن الملاجئ». الدلالة التي تنطوي عليها العبارة ترتبط بخطيئة التقدير الذي اعتمدته الاستخبارات العسكرية في حينه، وأصرت فيه على استبعاد أن يشن العرب حرباً على إسرائيل برغم تكاثر المؤشرات التي أفادت برجحان هذا الاحتمال. خطيئة دفعت الدولة العبرية ثمنها أكثر من ألفي قتيل وخمسة آلاف جريح، وشعوراً تملّك قادتها بالخطر الوجودي (كما كشفت عن ذلك وثائق الحرب إياها) قبل أن تعدّل الولايات المتحدة وجهة الأمور عبر تدخلها بجسر جوي أمد جيش الاحتلال بصنوف الأسلحة التي مكنته من الصمود والمواجهة وصولاً إلى المبادرة المضادة في ما عرف بثغرة الديفرسوار، فيما بعد، عملت المؤسسة الإسرائيلية على استخلاص العبر، فأجرت تعديلات بنيوية تتعلق بآليات صناعة التقديرات الاستخبارية ذات الصلة بنوايا الأعداء وسلوكياتهم المحتملة في ظروف محددة. لم يمض وقتٌ طويل حتى خاضت إسرائيل تجربتها العسكرية التالية في جنوب لبنان عام 1982، مدفوعة بمشروع سياسي لإقامة نظام حليف في بعبدا. مشروع كانت العلاقات القديمة المستجدة مع قوى لبنانية نافذة قد أرست أسسه وأعطته الأمل بالتحقق. وما هي إلا أسابيع حتى بدأت طموحات تل أبيب ترتطم بواقع مفاجئ غايَرَ التقديرات الإسرائيلية، التي تطلعت إلى انتصار عسكري وسياسي قريب وغير مكلف. وما لبث «الجيش الذي لا يقهر»، المزهو بإنجازه المتمثل في إخراج المنظمات الفلسطينية من الجنوب، ولاحقاً من كل لبنان، أن وجد نفسه في مواجهة مقاومة لبنانية لم تتوقع تقديراتُ أجهزته الاستخبارية نشوءها، فضلاً عن أن تتنبأ بأنها ستكون من نوع لم يألفه في تاريخ صراعه مع العرب. كذا تحول مشروع استراتيجي «واعد» إلى تخبط عبثي دام 18 عاما داخل مستنقع لم يُنجِ منه إلا بتآكل المكابرة الإسرائيلية مع الوقت والإقرار المتأخر بأن الخيار الوحيد الناجع في مواجهة المقاومة هو: الانسحاب غير المشروط. وبين عامي 1982 و2000، سجل أرشيف الاحتلال والمقاومة صولات وجولات، أهمها معركتا «الحساب والعقاب» عام 1993 و«عناقيد الغضب» عام 1996، كانت نتيجتها الدائمة خيبة إسرائيلية متراكمة من انعدام القدرة على فهم عقل المقاومة، وتقدير سلوكها وأفعالها الابتدائية والردّية. خيبةٌ أجاد رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، إيهود باراك، التعبير عنها حين أقر في أعقاب إحدى الجولات بأنه «على الرغم من أننا نمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم، إلا أننا نحتاج إلى رأس كثير الدوران كي نعرف كيف نال منا حزب الله». كل هذا، ولم يصل الحديث بعد إلى حرب تموز 2006 وإخفاقاتها الاستخبارية (والعملانية) الفضائحية، بدءاً من سوء تقدير الموقف الإحتوائي للحزب في الساعات الأولى، وتفسيره على أنه عارض ضعف وانهيار (مما أغرى القيادتين السياسية والعسكرية بالإيغال في الحرب) مروراً بالوقوع في خديعة «الوزن النوعي»، التي ظلت الاستخبارات الإسرائيلية وقتاً طويلاً تتعامل معها على أنها «درة تاج» الإنجازات في الحرب، وصولاً إلى عدم القدرة على فهم الأسلوب الذي أعدته المقاومة لإدارة الحرب والضياع، تالياً، في ملعبها. ويأتي دور الساحة السورية في صيرورتها المتكونة منذ بداية الأزمة الراهنة، وهي الساحة التي لطالما تغنت الاستخبارات الإسرائيلية بأنها مكشوفة أمامها مثل كف اليد. يذكر الجميع إيهود باراك وهو يتكلم بثقة عن تقديره بأن نظام الرئيس الأسد سيسقط خلال أسابيع. ثم ما لبثت الأسابيع أن تحولت إلى أشهر. وبعد ذلك، تبنّت تل أبيب مقولة «كذب الوقاتون»، فبقي التقدير العام يتبنى فرضية السقوط الحتمي للنظام من دون تحديد وقت محدد لذلك، مع الإشارة إلى أنّ ذلك لن يحدث بالضرورة خلال العام الحالي أو، ربما حتى، الذي يليه. هنا اتخذت إسرائيل قرارها باقتحام المشهد السوري من بوابة الأسلحة «الكاسرة للتوازن» التي قالت إن دمشق تمثل معبراً لها في الطريق بين إيران وحزب الله. ومهما تكن خلفية القرار الإسرائيلي وأهدافه، فإن بإمكان المرء أن يجزم بأن قاعدة الاعتبارات التي استند إليها القرار انحصرت في حسابات الجدوى والكلفة، كما بالإمكان الترجيح بأن الحسابات في جانب الكلفة تركزت في مسألة واحدة هي تقدير احتمالات الرد السوري بالمعنى العسكري المباشر للكلمة. إلا أن إسرائيل كانت على موعد آخر مع خطأ جديد في تقديراتها حين جاء رد سوريا ـــ ايران ـــ حزب الله مصوغاً بأسلوب من نوع مغاير لما توقعته أو فكرت فيه أو حتى تخيلته. وفي ضوئه، بدت إسرائيل كمن ربحت تكتيكياً، لكنها خسرت استراتيجياً. ليس فقط أنها ووجهت بالتزام علني من قبل القيادة السورية ــ تجاوز كل المحاذير السياسية ـــ بإصرار على مد المقاومة بأسلحة لم تحصل عليها من قبل، وإنما ـــ أيضا والأهم ــ بقرار استراتيجي بفتح جبهة الجولان، وهو قرار لا يعني أقل من حرب استنزاف لن تكون لإسرائيل اليد العليا فيها. أمام هذا التحدي، مارست إسرائيل هوايتها المفضلة: الهروب إلى الأمام. إصرارٌ رسمي على المضي في تطبيق سياسة «الخطوط الحمر» الجديدة، تحت طائلة التلويح بإسقاط النظام السوري إن هو تجرأ على تنفيذ قراراته الأخيرة بتسليح المقاومة وفتح جبهة الجولان والرد العسكري على الاعتداء الإسرائيلي القادم. ماذا يعني ذلك على صعيد المشهد الإقليمي المتصدع؟ يعني أننا سنكون أمام نوبة جديدة من متلازمة التقديرات الإسرائيلية الخاطئة، التي ستضع المنطقة على حافة الانفجار الكبير. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون عبقرياً ليستنتج أن حلفاء سوريا الاستراتيجيين (إقرأ روسيا وإيران وحزب الله)، الذين منعوا وردعوا مجلس الأمن والحلف الأطلسي وتركيا ودولاً أخرى عن مغامرة التدخل العسكري المباشر لإسقاط نظام الأسد، لن يقفوا ـــ كلٌ بطريقته ــ متفرجين أمام التدخل الإسرائيلي لتنفيذ هذا الهدف تحت أي عنوان من العناوين، ومهما بدا مشروعاً في ساحة الرأي العام. ثم من قال إنه ليس بين هؤلاء من يرى في التهديدات الإسرائيلية فرصته التي ينتظرها منذ أمد بعيد؟

المصدر : الأخبار/ محمد بدير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة