دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
فتّش عن نبش القبور وتدمير الأضرحة وإزالة القباب، تجد الوهابية. المسلمون السوريون حفظوا تلك الأماكن لمئات السنين، إلى أن بعثت صحراء نجد بريحها إلى بلاد الشام. سوريا اليوم على عتبة فتنة بعنوان جديد: هدم أضرحة الصحابة والأولياء
قبل أكثر من 200 عام، غزت جحافل الوهابية، بكل ما تمثّله قساوة الصحراء، ما يُعرف اليوم بالعراق. اجتاحوا مدينة كربلاء، ذات القدسية لدى المسلمين الشيعة، وهناك من يؤرخ اليوم لمقتل 4000 من أبنائها على يد الغزاة. وإلى عشرينيات القرن الماضي، ها هم أتباع محمد بن عبد الوهاب، يسيطرون دينياً، بحلف مع آل سعود سياسياً، على مكة والمدينة المنوّرة. هناك دمّروا أضرحة لصحابة النبي محمد بن عبد الله، حطموا قباب المقامات، لشخصيات يتفقون معها أو يختلفون، على حد سواء، ومنها روضة البقيع، التي تحوي رفات أئمة للشيعة. حصل ذلك عام 1925. ومنذ ذلك التاريخ، لا يُقال «وهابية» إلا تحضر فكرة هدم الأضرحة. هؤلاء حاضرون لهدم ضريح نبيهم حتى، ولولا خشيتهم من قيام العالم الإسلامي عليهم، من السنة قبل الشيعة، لفعلوها. حجّتهم في ذلك أن هذه الأضرحة تُزار من قبل الناس، وهذا ما يؤدي إلى «الشرك بالله». يُرد عليهم بأن فعل الزيارة هو للتبرك، لا لعبادة الضريح، لكن هيهات لهم أن يقتنعوا. هم عبّاد النص. والحكاية كلها في النص. النص الجامد الذي لا يقبل أي مرونة أو اجتهاد.
منذ سنوات وهذا الفكر يجتاح العالم الإسلامي. ما حصل في أفغانستان، مع تماثيل «بوذا» الشهيرة، كان نتيجة هذا الفكر. إن كانت قبور الصحابة تُدّمر، فالحكاية مع «بوذا» تحصيل حاصل. حطّ هذا الفكر رحاله أخيراً في سوريا. البلد الذي لطالما قيل بأن إسلامه منفتح، ذو صبغة صوفية، ومن هو ليس مع الصوفية هناك فإنه حتماً ليس مع الوهابية. قبل أشهر، انتشر على الإنترنت مشهد تفجير لمقام تاريخي في محافظة الرقة، يُقال بأنه للصحابي عمّار بن ياسر، الذي يُجمع السنة والشيعة على صلاحه، مع حديث متفق عليه نقلاً عن نبيهم: «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية». كل هذا لم يعف ضريحه اليوم من التفجير. وإلى أول من أمس، حيث ضجت وسائل الإعلام بخبر نبش ضريح الصحابي حجر ابن عدي الكندي. الضريح في منطقة عدرا البلد، المعروفة تاريخياً بمرج عذراء، الذي قُتل صاحبه على يد الحاكم الأموي ودفن في المنطقة المذكورة. المفجع في الأمر أن «تنسيقيات الثورة» تتبنى هذه الأعمال. ربما لو خرج تنظيم القاعدة وأعلن مسؤوليته، فإن الأمر لن يكون مستهجناً، لوجود أسبقيات، لكن كيف لـ«طلاب الحرية» من غير المتشددين، ممن يناصرون ما يسمى «الجيش الحر» أن يهللوا لأخبار كهذه؟ حُجر ابن عدي هو صحابي جليل عند أهل السنة، لكنه عند أهل الشيعة صحابي ذو خصوصية. فهو من الذين ثبتوا على ولايتهم لعلي بن أبي طالب، بل إنه قُتل وقطع رأسه بسبب رفضه التراجع عن ولايته. هذا ما تنقله كتب الحديث عند الشيعة، بل وبعض المؤرخين المعتبرين عند السنة. سواء فهم البعض طبيعة العلاقة العاطفية بين الناس وتلك الشخصيات، وتالياً أضرحتها، أو لم يفهم، إلا أنه لا يمكن لأحد القفز عما يمكن أن تؤول إليه سياسة العبث مع تلك العواطف. كثيرون، بعد شيوع خبر نبش الضريح، ثارت لديهم حميّة الدين، وكتبوا على مواقع التواصل الاجتماعي بأن «السنة ينفثون أحقادهم». بالتأكيد، هؤلاء لا يقلون جهلاً عن نابشي تلك الأضرحة. ترى هل يعلم أتباع الوهابية، فكرياً، أن أفعالهم سوف تستتبع ردوداً كهذه؟ ربما من هو خلفهم، كما يقال، يعلم ذلك تماماً. هذا ما لمّح إليه، قبل يوم من نبش الضريح في عدرا، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. برر دفاعه الميداني عن مقام السيدة زينب، بنت علي بن أبي طالب، في الشام، بمنع حصول اعتداء على المقام، لأن هذا يعني فتنة لا يمكن السيطرة عليها ربما، وبالتالي الدفاع عن المقام هو تحصين للساحة من تفاقم الفتنة. كان لافتاً منسوب الجدية الذي تكلم به عن هذه المسألة. لو حصل اعتداء على المقام المذكور، فإن لهذا «تداعيات خطيرة وستخرج الأمور عن السيطرة». حمّل نصر الله المسؤولية لـ«جماعات المعارضة السورية»، قائلاً: «لا يكفي أن تصدر بيانات تقول إنها ترفض التعرض للمقدسات، يجب على الدول التي تمول الجماعات المسلحة أن تمنعها من القيام بهذه الخطوة الخطيرة». إذاً، المسألة عند هذه الدول. عند الدول الخليجية تحديداً، وعند السعودية، المحكومة دينياً بالوهابية، أي بالفكر الذي لا يبيح فقط هدم تلك المقامات، بل يوجبها.
الأمر حصل سابقاً في العراق، حيث فُجر مقام «الإمامين العسكريين» وهما من أئمة الشيعة. آنذاك دخل العراق في حمّام دم. كان منعطفاً في مسيرة القتل المجاني هناك. من يعرف طبيعة عواطف الناس، التي تؤمن بقدسية تلك المقامات، يدرك تماماً أن صوت المرجعيات، أو الشخصيات التي توصف عادة بالعقلانية، يصبح عاجزاً عن اختراق آذان الناس الذين تحرّكهم عواطفهم. يصبح صعباً، إلى حد المستحيل، السيطرة على ردود فعل هؤلاء. الغربيون يعرفون هذا تماماً، لذلك قيل بعد ذاك التفجير إن المخطط هو الأميركي، الذي كانت تناسبه الفتنة بين مكوّنات الشعب العراقي، وذلك على قاعدة «فرّق تسد». اليوم تبدو سوريا أمام مشهد كهذا. إنه عنوان جديد يدخل على خط الموت المتراكم في بلاد الشام.
لقد ظلت تلك الأضرحة مئات السنين في حماية، بل برعاية وتبرّك، من مسلمي سوريا، لكن، مع اجتياح الهوى الوهابي المنطقة، ومال النفط يذلل له الطريق، أصبح الأمر مختلفاً. الشيخ محمد سعيد البوطي، الذي قضى أخيراً بتفجير داخل مسجد في الشام، كان يشبه الإسلام السوري الموروث تاريخياً. لم يكن يحب الإسلام الوافد من صحراء نجد، ولطالما حكى بهذا الأمر، وربما لهذا قُتل الرجل. هو لم يكن مع هدم الأضرحة، بل كان محارباً للفكرة. لهذا، أخطر ما يمكن أن يُشاع اليوم أن السُنة هم من يفعلون ذلك، أو أن الشيعة يفعلونه، فلعبة التعميم أصلاً لها ما يكفي من خصوبة في هذه البلاد. ثمة الكثير من تلك الأضرحة اليوم في سوريا، وقباب كثيرة مرتفعة، يُخشى أن تصبح كلها أهدافاً مشروعة لـ«جبهة النصرة» وأخواتها. إن من يريد زيادة منسوب الدم في بلاد الشام سيعتدي على تلك الأماكن. قبل أشهر حصل ذلك في داريا، في مقام لإحدى بنات الحسين بن علي، سكينة، فاعتدي على حرمة المكان وأحيل «دشمة» للقتال. هذه المشاهد لو تكررت، في السيدة زينب تحديداً، فالمنطقة ستكون على موعد مع انفجار. انفجار ربما يستفيد منه العالم كله... باستثناء سوريا.
المصدر :
محمد نزال
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة