كأنها حلاوة الروح، لمن يعشق عبق التاريخ. وكأن اسمها مشتق من حروف لن تهدأ في بثها حلاوتها على مر الحياة الانسانية.

 إنني من عشاق ذلك المكان الذي آتيه كلما زرت سورية وتحديدا عاصمتها الأبية. وأجمل ما أفعله في المرجة، الذهاب والاياب في شوارعها القليلة الصغيرة التي تطل مثل أبواب الروح على أماكن لها تاريخ أيضا.

كأنما المرجة صنعتها أياد غير البشر بالنظر لما فيها من عذوبة المكان. هي مسحة من حنان ودفء وكل ما فيها يلبي النظر ويتسع باتساعه. هنا مكان للشاي والقهوة، وهنا محل للبزورات، وقربه للثياب، وفنادق كانت في الماضي، حينما لم يكن في دمشق غير تلك الساحة ، من الدرجة الأولى، هي اليوم أقل من نجمة لكنها في وقتها كانت خمس نجوم وربما أكثر.

أول مكان أزوره وآخر مكان أودعه. اشتهي دمشق كلما زادت شهوتي للمرجة التي اعتقد أنها أجمل ساحات العالم، والرئة النظيفة التي يتنفس منها المرء من أجل أن يغسل رئتيه.

ذلك النصب الذي يقرر اسمها في وسطها، كثيرا ما كنا ننتبه أنه يعوم على الماء. بل هي تعوم كذلك. قال لي أحد اقاربي الذين فارقوا الدنيا إنهم نزلوا يوما في أحد فنادقها، فاذا بعمارته مبنية على مجرى ماء لايمكن لأحد ان ينتبه الى وجوده.

من وضعوا المتفجرة ليسوا سوريين ولا هم من أبناء ساحة مجبولة بعرق أجدادهم وآبائهم. هم أتعس خلق الله لأنهم أتاحوا ليدهم الآثمة أن تدنس مكانا يصعب التصديق أن ثمة من يقوى على تدميره.

ومن فجروا المكان، هم ليسوا سوريين ولا يمتون بصلة لسورية، هم خلاصة أشقياء من بلاد شقية .. إن كانوا سوريين وأشك بذلك، فإن للمكان لعنته، ومن يعش ير.

سيصعب علي رؤية الصور في الصحف لمكان لا أتحمل تدمير ما فيه من خلاصة الخلاصات. كنا اذا افترقنا التقينا في المرجة، واذا تعاهدنا نلتقي في المرجة، واذا ابتعدنا عنها نظل حاملين رائحتها الى حين العودة.

عندما رأيت الخبر في التلفاز وأنا على بعد آلاف الكيلومترات منها، امتد بي التصور إلى أني هناك، اقاوم مع المقاومين كل التعساء الارهابيين الذين جندوا تاريخهم الشخصي لرعاية تدمير بلادهم .. مرة يقتلون البوطي، ومرة يقتلون ولا يرحمون، يذبحون باسم السكين، يخربون كلمة " الله أكبر " يجعلونها محط تكفير لكثرة مارددوها في الخطأ وفي كل لحظاته.

أعرف أني سأصدق في النهاية إنهم ارتكبوها بحق الساحة الصغيرة اللطيفة المحيرة لشدة انغماسها في حمولة تاريخ بناء دمشق بالتقسيط .

إنهم هناك أولئك القادرون على مصادرة حياة الناس كما يمكنهم تدمير الساحات الأحلى، والبيوت العصية. لكنهم لن يظلوا طويلا. سحر سورية انها سترميهم خارجها، لايعصى على أعرق مدينة في التاريخ أن تجبل روحها بكل المناعة كي تصون المستقبل.

للمرجة ألف سلام. وقديما قال الشاعر القروي " دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت بالمرجة انبسطت بالشاطيء ابتردا / بالطيب يعبق في الوادي وأطيبه في تربة الأرض غذاها دم الشهدا".
  • فريق ماسة
  • 2013-04-30
  • 9484
  • من الأرشيف

المرجة..باختصار

كأنها حلاوة الروح، لمن يعشق عبق التاريخ. وكأن اسمها مشتق من حروف لن تهدأ في بثها حلاوتها على مر الحياة الانسانية.  إنني من عشاق ذلك المكان الذي آتيه كلما زرت سورية وتحديدا عاصمتها الأبية. وأجمل ما أفعله في المرجة، الذهاب والاياب في شوارعها القليلة الصغيرة التي تطل مثل أبواب الروح على أماكن لها تاريخ أيضا. كأنما المرجة صنعتها أياد غير البشر بالنظر لما فيها من عذوبة المكان. هي مسحة من حنان ودفء وكل ما فيها يلبي النظر ويتسع باتساعه. هنا مكان للشاي والقهوة، وهنا محل للبزورات، وقربه للثياب، وفنادق كانت في الماضي، حينما لم يكن في دمشق غير تلك الساحة ، من الدرجة الأولى، هي اليوم أقل من نجمة لكنها في وقتها كانت خمس نجوم وربما أكثر. أول مكان أزوره وآخر مكان أودعه. اشتهي دمشق كلما زادت شهوتي للمرجة التي اعتقد أنها أجمل ساحات العالم، والرئة النظيفة التي يتنفس منها المرء من أجل أن يغسل رئتيه. ذلك النصب الذي يقرر اسمها في وسطها، كثيرا ما كنا ننتبه أنه يعوم على الماء. بل هي تعوم كذلك. قال لي أحد اقاربي الذين فارقوا الدنيا إنهم نزلوا يوما في أحد فنادقها، فاذا بعمارته مبنية على مجرى ماء لايمكن لأحد ان ينتبه الى وجوده. من وضعوا المتفجرة ليسوا سوريين ولا هم من أبناء ساحة مجبولة بعرق أجدادهم وآبائهم. هم أتعس خلق الله لأنهم أتاحوا ليدهم الآثمة أن تدنس مكانا يصعب التصديق أن ثمة من يقوى على تدميره. ومن فجروا المكان، هم ليسوا سوريين ولا يمتون بصلة لسورية، هم خلاصة أشقياء من بلاد شقية .. إن كانوا سوريين وأشك بذلك، فإن للمكان لعنته، ومن يعش ير. سيصعب علي رؤية الصور في الصحف لمكان لا أتحمل تدمير ما فيه من خلاصة الخلاصات. كنا اذا افترقنا التقينا في المرجة، واذا تعاهدنا نلتقي في المرجة، واذا ابتعدنا عنها نظل حاملين رائحتها الى حين العودة. عندما رأيت الخبر في التلفاز وأنا على بعد آلاف الكيلومترات منها، امتد بي التصور إلى أني هناك، اقاوم مع المقاومين كل التعساء الارهابيين الذين جندوا تاريخهم الشخصي لرعاية تدمير بلادهم .. مرة يقتلون البوطي، ومرة يقتلون ولا يرحمون، يذبحون باسم السكين، يخربون كلمة " الله أكبر " يجعلونها محط تكفير لكثرة مارددوها في الخطأ وفي كل لحظاته. أعرف أني سأصدق في النهاية إنهم ارتكبوها بحق الساحة الصغيرة اللطيفة المحيرة لشدة انغماسها في حمولة تاريخ بناء دمشق بالتقسيط . إنهم هناك أولئك القادرون على مصادرة حياة الناس كما يمكنهم تدمير الساحات الأحلى، والبيوت العصية. لكنهم لن يظلوا طويلا. سحر سورية انها سترميهم خارجها، لايعصى على أعرق مدينة في التاريخ أن تجبل روحها بكل المناعة كي تصون المستقبل. للمرجة ألف سلام. وقديما قال الشاعر القروي " دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت بالمرجة انبسطت بالشاطيء ابتردا / بالطيب يعبق في الوادي وأطيبه في تربة الأرض غذاها دم الشهدا".

المصدر : الوطن العمانية/ زهير ماجد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة