في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات، نزل الطبيب الشاب بشار الأسد درج قاعة مجلس الشعب في الصالحية ليؤدي القسم على تسلم حكم بلاده، التي كانت لا تزال في غمامة تقييم فقدان رئيسها الاستثنائي حافظ الأسد الذي أدار سوريا في فوضى عواصف الشرق الأوسط على مدى عقود

لم يكن أحد يتوقع للرئيس السوري مهمة سهلة، وبين الرهانات التي كانت توضع في العواصم الدولية، كان التحدي الأبرز في قلب دور دمشق في المنطقة، بما يساير أدوار حلفاء الغرب فيها. وكان من طلائع هؤلاء رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، الذي جاء «كرسول» استعماري، بوعود استثمارية مقابل شروط سياسية، أبسطها التفاف دمشق على نفسها، بما يعنيه ذلك من دور مساير لسياسات الغرب، وعلى رأسها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش

وفي المؤتمر الصحافي الذي اختتم به بلير زيارته اليتيمة، بدا التجهم على وجه الرسول البريطاني، وهو يتلو آراءه بخيبة واضحة. في تلك القاعة، تأكد بوضوح أن ما جرى لم يكن سوى المقدمة لما عايشته سوريا على مدى سنوات من صراع مع طموحات دول كبيرة في الغرب

والواقع أن علاقة سوريا بالعالم، خرجت من منظور «الإغراءات» بعد الزيارة الشهيرة لمبعوث الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في العام 2003، حاملا حقيبة مطالب، ورزمة مساومات. بعدها، التأمت طلائع الغيم الأسود قبالة الأراضي السورية، وعلا صفير عواصف حادة على وشك الهبوب

وقد كانت تجربتا العراق ولبنان، من أكثر تجارب الحكم في سوريا دقة وخطورة. في الأولى كان التهديد بغزو دمشق، وفي الثانية التهويل بزعزعة النظام من الداخل

التهديدان، انقلبا بفعل درس استخلصته دمشق من تجارب طويلة ومريرة. «إننا قادرون على استثمار الظروف السلبية واستخلاص نتيجة إيجابية منها». وهكذا بات قلق الأميركيين ليس من كيفية دخول دمشق عبر حدودها الشمالية، بل من صد هجماتها. وبات هم الخصم في لبنان، هو احتواء السوري ضمانا للاستقرار

الأمر ذاته ينطبق على الحصار الذي فرض انتقائيا على سوريا كنسخة جديدة من تطويق الغرب، في ثمانينيات القرن الماضي، لها بقطع الغذاء والدواء

فتح الحصار أبوابا خلفية لدمشق، فعززت علاقتها مع من بدا الصديق الوحيد، وهو إيران، وأسست علاقة ثقة وود مثيرة مع قطر الطامحة لأداء دور إقليمي، وبنت ببطء وحكمة علاقة إستراتيجية مع تركيا

وقد جنت دمشق عبر هذا الثلاثي، نتائج بالغة الأهمية. إذ عززت من دورها كخصم وحكم في الوقت ذاته، وبدا واضحا حينها أن أي شرق أوسط يخطط لقيامه، لن يقوم من دون رضا دمشق، القوية ميدانيا عبر المقاومة في الساحات الفلسطينية واللبنانية والعراقية، ومفاوض الظل في المداولات الدبلوماسية عبر تركيا وقطر

انتهت حرب العام 2006 بين لبنان وإسرائيل، ببروز أقوى لدور سوريا الإقليمي، وتعمق الأمر أكثر في أحداث أيار في لبنان في العام 2008، وعادت سوريا بالمديح للساحات الدولية عبر محادثاتها غير المباشرة للسلام التي إدارتها تركيا، حتى حطمتها همجية العدوان الإسرائيلي على غزة

بعدها تم وصل ما انقطع، فجرت المصالحة مع السعودية وعبرها مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، فيما اعترف بدور دمشق في الساحة العراقية عبر الحوار السياسي الذي بدأه البريطانيون، واتبعه لاحقا الأميركيون حول العراق ومستقبله، وسبقهم إلى ذلك الفرنسيون كـ«أصدقاء قدامى» لدمشق

وكان شعور الأسد بالنجاح ربما دافعا للدولة الخارجة من عين العاصفة، في أن تمد جناحيها باتساع أكبر، بحثا في المدى الأرحب عن حلفاء في العالم «المنسي»، سواء كان ذلك في أميركا اللاتينية أو في أقاصي الشرق. والعبرة تمثلت في منافسة العدو على ملء الساحات، والعمل على التعاون مع الدول المتوسطة والصغرى المستعدة لذلك. وتمثلت هذه الثقة بالنجاح بالشروع بنظرية البحار الخمسة الذي أشار الرئيس السوري إليه مرارا بغرض تأسيس منظومة تكتل اقتصادي، تمنح دول هذه المنطقة القدرة على «تقرير مصيرها بنفسها». وهي رسالة باتت علامة طموح شخصي وإقليمي، تتوافق عليه تركيا وقطر بالحد الأدنى

ولا شك أن دون هذا الطموح صعوبات، أغلبها عربي في الواقع. إلا أن ثمة في دمشق من يعتقد أن الأمل بتحقق مثل هذا الأمر يزداد. وهي آمال تبعث روح النشاط في القيادة الشابة لمتابعة هذا النهج، والذي لخصه الأسد في لقاء جمعه بإعلاميين، في ختام جولته إلى أميركا اللاتينية، بأن سوريا تعلمت خلال تلك الفترة كيف تنظر إلى الجانب الإيجابي من الأمور، وكيفية استثمار السلبيات وتحويلها إلى إيجابيات. وأعطى الأسد حينها مثالا أن «أية محطة طاقة كهربائية تحتاج من اجل توليد الطاقة، إلى الوقود، وأن الحاجة للوقود تتمثل في الحاجة للمال. وسوريا بما هي عليه، لا تملك المال ولا الوقود، لذا عليها الاستفادة من طاقات أخرى». وأوضح، برضا تام، أن "المنطقة مولدة لطاقة الرياح السياسية، ونحن قادرون على استثمارها، وخلال تلك السنوات العشر فإن ما فعلته سوريا أنها استثمرت هذه الرياح لمصلحتها".

  • فريق ماسة
  • 2010-07-16
  • 9828
  • من الأرشيف

عشر سنوات على حكم الأسد: استثمار طاقة الرياح السياسية

في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات، نزل الطبيب الشاب بشار الأسد درج قاعة مجلس الشعب في الصالحية ليؤدي القسم على تسلم حكم بلاده، التي كانت لا تزال في غمامة تقييم فقدان رئيسها الاستثنائي حافظ الأسد الذي أدار سوريا في فوضى عواصف الشرق الأوسط على مدى عقود لم يكن أحد يتوقع للرئيس السوري مهمة سهلة، وبين الرهانات التي كانت توضع في العواصم الدولية، كان التحدي الأبرز في قلب دور دمشق في المنطقة، بما يساير أدوار حلفاء الغرب فيها. وكان من طلائع هؤلاء رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، الذي جاء «كرسول» استعماري، بوعود استثمارية مقابل شروط سياسية، أبسطها التفاف دمشق على نفسها، بما يعنيه ذلك من دور مساير لسياسات الغرب، وعلى رأسها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وفي المؤتمر الصحافي الذي اختتم به بلير زيارته اليتيمة، بدا التجهم على وجه الرسول البريطاني، وهو يتلو آراءه بخيبة واضحة. في تلك القاعة، تأكد بوضوح أن ما جرى لم يكن سوى المقدمة لما عايشته سوريا على مدى سنوات من صراع مع طموحات دول كبيرة في الغرب والواقع أن علاقة سوريا بالعالم، خرجت من منظور «الإغراءات» بعد الزيارة الشهيرة لمبعوث الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في العام 2003، حاملا حقيبة مطالب، ورزمة مساومات. بعدها، التأمت طلائع الغيم الأسود قبالة الأراضي السورية، وعلا صفير عواصف حادة على وشك الهبوب وقد كانت تجربتا العراق ولبنان، من أكثر تجارب الحكم في سوريا دقة وخطورة. في الأولى كان التهديد بغزو دمشق، وفي الثانية التهويل بزعزعة النظام من الداخل التهديدان، انقلبا بفعل درس استخلصته دمشق من تجارب طويلة ومريرة. «إننا قادرون على استثمار الظروف السلبية واستخلاص نتيجة إيجابية منها». وهكذا بات قلق الأميركيين ليس من كيفية دخول دمشق عبر حدودها الشمالية، بل من صد هجماتها. وبات هم الخصم في لبنان، هو احتواء السوري ضمانا للاستقرار الأمر ذاته ينطبق على الحصار الذي فرض انتقائيا على سوريا كنسخة جديدة من تطويق الغرب، في ثمانينيات القرن الماضي، لها بقطع الغذاء والدواء فتح الحصار أبوابا خلفية لدمشق، فعززت علاقتها مع من بدا الصديق الوحيد، وهو إيران، وأسست علاقة ثقة وود مثيرة مع قطر الطامحة لأداء دور إقليمي، وبنت ببطء وحكمة علاقة إستراتيجية مع تركيا وقد جنت دمشق عبر هذا الثلاثي، نتائج بالغة الأهمية. إذ عززت من دورها كخصم وحكم في الوقت ذاته، وبدا واضحا حينها أن أي شرق أوسط يخطط لقيامه، لن يقوم من دون رضا دمشق، القوية ميدانيا عبر المقاومة في الساحات الفلسطينية واللبنانية والعراقية، ومفاوض الظل في المداولات الدبلوماسية عبر تركيا وقطر انتهت حرب العام 2006 بين لبنان وإسرائيل، ببروز أقوى لدور سوريا الإقليمي، وتعمق الأمر أكثر في أحداث أيار في لبنان في العام 2008، وعادت سوريا بالمديح للساحات الدولية عبر محادثاتها غير المباشرة للسلام التي إدارتها تركيا، حتى حطمتها همجية العدوان الإسرائيلي على غزة بعدها تم وصل ما انقطع، فجرت المصالحة مع السعودية وعبرها مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، فيما اعترف بدور دمشق في الساحة العراقية عبر الحوار السياسي الذي بدأه البريطانيون، واتبعه لاحقا الأميركيون حول العراق ومستقبله، وسبقهم إلى ذلك الفرنسيون كـ«أصدقاء قدامى» لدمشق وكان شعور الأسد بالنجاح ربما دافعا للدولة الخارجة من عين العاصفة، في أن تمد جناحيها باتساع أكبر، بحثا في المدى الأرحب عن حلفاء في العالم «المنسي»، سواء كان ذلك في أميركا اللاتينية أو في أقاصي الشرق. والعبرة تمثلت في منافسة العدو على ملء الساحات، والعمل على التعاون مع الدول المتوسطة والصغرى المستعدة لذلك. وتمثلت هذه الثقة بالنجاح بالشروع بنظرية البحار الخمسة الذي أشار الرئيس السوري إليه مرارا بغرض تأسيس منظومة تكتل اقتصادي، تمنح دول هذه المنطقة القدرة على «تقرير مصيرها بنفسها». وهي رسالة باتت علامة طموح شخصي وإقليمي، تتوافق عليه تركيا وقطر بالحد الأدنى ولا شك أن دون هذا الطموح صعوبات، أغلبها عربي في الواقع. إلا أن ثمة في دمشق من يعتقد أن الأمل بتحقق مثل هذا الأمر يزداد. وهي آمال تبعث روح النشاط في القيادة الشابة لمتابعة هذا النهج، والذي لخصه الأسد في لقاء جمعه بإعلاميين، في ختام جولته إلى أميركا اللاتينية، بأن سوريا تعلمت خلال تلك الفترة كيف تنظر إلى الجانب الإيجابي من الأمور، وكيفية استثمار السلبيات وتحويلها إلى إيجابيات. وأعطى الأسد حينها مثالا أن «أية محطة طاقة كهربائية تحتاج من اجل توليد الطاقة، إلى الوقود، وأن الحاجة للوقود تتمثل في الحاجة للمال. وسوريا بما هي عليه، لا تملك المال ولا الوقود، لذا عليها الاستفادة من طاقات أخرى». وأوضح، برضا تام، أن "المنطقة مولدة لطاقة الرياح السياسية، ونحن قادرون على استثمارها، وخلال تلك السنوات العشر فإن ما فعلته سوريا أنها استثمرت هذه الرياح لمصلحتها".

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة