بعد أكثر من شهر من المشاورات النيابية، أعلن رئيس الوزراء المكلّف عبدالله النسور حكومة استعادت نمط التوزير السابق للإصلاحات الدستورية والسياسية، متجاهلةً توصيات النواب، لكن مع وعد باختيار عشرة منهم، في وقت لاحق، لحمل 10 حقائب تُركتْ على ذمة 18 وزيراً من خارج البرلمان. وهي لعبة سياسية صدمت الرأي العام، لهبوط مستواها، وتضحيتها بمصالح الدولة والمؤسسات والمواطنين بتعليق وزارات رئيسية كالزراعة والسياحة والاتصالات والتموين إلخ، من أجل خلق مناخ تنافسي في الولاء بين النواب المتطلعين إلى المناصب الوزارية. هكذا، انتهت الإصلاحات إلى نكتة، في حكومة سمّى البرلمان رئيسها، ثم تشكلت وفق اعتبارات هي الأسوأ في تاريخ الحكومات الأردنية.

لم تخلُ حكومة أردنية من مشاركة أردنيين من أصل فلسطيني، لكن في سياقات سياسية تنأى عن محاصصة جرى تكريسها اليوم في حصة مقررة بوضوح بنسبة الثلث. وهذه سابقة بالغة الخطورة، خصوصاً أنه جرى توزير رموز من تيار التجنيس والتوطين والمحاصصة، يضافون إلى سواهم من أصول أردنية، ولكنهم ينتمون إلى التيار نفسه؛ فأغلبية أعضاء الحكومة ـــ وخصوصاً رئيسها الذي جاء راكباً هذا الحصان بالذات ـــ من المندرجين في تيار يفتقر إلى الحساسية الوطنية، ويرى أن حق العودة والدولة الفلسطينية المستقلة وشخصية الدولة الأردنية، هي أفكار خشبية من الماضي.

لكن المحاصصة لم تقد، ولن تقود، بالطبع، إلى تمثيل المكونات الديموغرافية السياسية في البلاد، إنما هي محاصصة بين شبكات النفوذ والبزنس، حتى إنها، في سابقة غير معهودة، لم تأخذ في الاعتبار التمثيل السياسي والجهوي والعشائري، إضافة إلى أنها تجاهلت، كلياً، مطالب الحراك الشعبي الذي عمّ الأردن منذ 2010، وركّز خصوصاً على التخلّص من نهج الليبرالية الجديدة والخصخصة واقتصاد السوق وسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين. والمفارقة أن حضور الليبرالية الجديدة في حكومة النسور لم يقتصر على حقائب المجموعة الاقتصادية، بل شمل معظم الوزارات الأخرى، بما فيها التعليم العالي والتربية والتعليم.. وحتى الأوقاف! يلحّ النسور على أن حكومته «نظيفة». وهذا هو الفرق. وهو ما يذكّر بطرح الإخوان المسلمين المصريين الذين تصدوا للحكم في ظل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية المسيطرة ذاتها، لكن مع وعد بمحاربة الفساد.

لكن مشكلتنا الجوهرية تظل تكمن في السياسات المنتجة للفساد والعجز المالي والتخلف التنموي والفقر والبطالة والتهميش. وتتمثل في مجالين رئيسيين ـــ سأتوقف عندهما لأهميتهما بالنسبة إلى النمط السائد في معظم البلدان العربية، وخصوصاً الأردن ومصر ـــ وهما:

أولاً، فوضى السياسة المالية، بما في ذلك تعدد جهات الاقتراض والتفاوض على المساعدات والتخطيط وتصميم الإنفاق، ما يقود إلى العشوائية واللاجدوى، وضعف الرقابة والمتابعة لمستويات المديونية العامة والكلفة البعيدة المدى للمساعدات، وعدم تلاؤم جدوى المشاريع على مستوى المؤسسة والقطاع والاقتصاد الوطني. الفوضى المالية هي محصلة لغياب دور الدولة الاقتصادي ــ الاجتماعي، وتنامي نفوذ الممولين الأجانب واللوبيات والشركات والمصالح الفرعية. وفي ظل هذه العشوائية الغامضة، ينشأ سياق موات للفساد الكبير وهدر الموارد وتفاقم عجز الموازنة العامة والمديونية وإدمان المساعدات الخارجية.

ثانياً، غياب الرؤية والإرادة التنموية؛ فالتصوّر القائم على أساس اليد الخفية التي تولّف النمو والمصالح في سوق حرة، ليس، كما أثبتت التجارب، سوى وهم. وقد أصبح واضحاً أنه لا مناص من خطة تنموية وطنية تلمح، كحد أدنى، ثلاثة عناصر، هي (1) المراكمة في مجال التوصل إلى حل جذري لمشاكل الطاقة والنقل والميكنة والتكنولوجيا، (2) تكثيف الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية في المحافظات، وفي سياق قطاعات إنتاجية تنافسية، تستند، جوهرياً، إلى الخامات والامكانات والخبرات والعمالة المحلية، (3) دعم الصناعة الوطنية وفق برنامج تنافسي يحظى بالرعاية الحكومية وخفض المخاطر والحماية الجمركية.

من دون خطة كهذه، تكفل فرص العمل ومشاركة فئات اجتماعية واسعة في العملية الاقتصادية، وفي ظل خدمات عامة شاملة وعادلة وذات نوعية، فإن أي إصلاح ديموقراطي حقيقي سوف يتعثر، حتماً، بغض النظر عن النيات؛ فالإفقار المعمّم سيحول، غالباً، دون التمثيل النيابي الصحيح، والطبقات الحاكمة، ستتجه، حتماً، إلى الألاعيب السياسية والفبركات والأكاذيب لاستيعاب الاحتجاج الاجتماعي، أو قمعه. وإلى ذلك، فإن النموذج الاقتصادي القائم على الاقتراض والمساعدات سوف يؤدي، بالتأكيد، إلى هدر الاستقلال الوطني، والقبول بالتعامل مع الضغوط الخارجية.

فشلت التجربة الأردنية في الانتقال إلى حكومة برلمانية، كما فشل الحراك الشعبي في إحداث تغييرات الحد الأدنى على النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وكان لا بد من تسديد أولى الفواتير: المحاصصة.

  • فريق ماسة
  • 2013-04-02
  • 9049
  • من الأرشيف

الأردن: فشل ديموقراطية الحد الأدنى

بعد أكثر من شهر من المشاورات النيابية، أعلن رئيس الوزراء المكلّف عبدالله النسور حكومة استعادت نمط التوزير السابق للإصلاحات الدستورية والسياسية، متجاهلةً توصيات النواب، لكن مع وعد باختيار عشرة منهم، في وقت لاحق، لحمل 10 حقائب تُركتْ على ذمة 18 وزيراً من خارج البرلمان. وهي لعبة سياسية صدمت الرأي العام، لهبوط مستواها، وتضحيتها بمصالح الدولة والمؤسسات والمواطنين بتعليق وزارات رئيسية كالزراعة والسياحة والاتصالات والتموين إلخ، من أجل خلق مناخ تنافسي في الولاء بين النواب المتطلعين إلى المناصب الوزارية. هكذا، انتهت الإصلاحات إلى نكتة، في حكومة سمّى البرلمان رئيسها، ثم تشكلت وفق اعتبارات هي الأسوأ في تاريخ الحكومات الأردنية. لم تخلُ حكومة أردنية من مشاركة أردنيين من أصل فلسطيني، لكن في سياقات سياسية تنأى عن محاصصة جرى تكريسها اليوم في حصة مقررة بوضوح بنسبة الثلث. وهذه سابقة بالغة الخطورة، خصوصاً أنه جرى توزير رموز من تيار التجنيس والتوطين والمحاصصة، يضافون إلى سواهم من أصول أردنية، ولكنهم ينتمون إلى التيار نفسه؛ فأغلبية أعضاء الحكومة ـــ وخصوصاً رئيسها الذي جاء راكباً هذا الحصان بالذات ـــ من المندرجين في تيار يفتقر إلى الحساسية الوطنية، ويرى أن حق العودة والدولة الفلسطينية المستقلة وشخصية الدولة الأردنية، هي أفكار خشبية من الماضي. لكن المحاصصة لم تقد، ولن تقود، بالطبع، إلى تمثيل المكونات الديموغرافية السياسية في البلاد، إنما هي محاصصة بين شبكات النفوذ والبزنس، حتى إنها، في سابقة غير معهودة، لم تأخذ في الاعتبار التمثيل السياسي والجهوي والعشائري، إضافة إلى أنها تجاهلت، كلياً، مطالب الحراك الشعبي الذي عمّ الأردن منذ 2010، وركّز خصوصاً على التخلّص من نهج الليبرالية الجديدة والخصخصة واقتصاد السوق وسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين. والمفارقة أن حضور الليبرالية الجديدة في حكومة النسور لم يقتصر على حقائب المجموعة الاقتصادية، بل شمل معظم الوزارات الأخرى، بما فيها التعليم العالي والتربية والتعليم.. وحتى الأوقاف! يلحّ النسور على أن حكومته «نظيفة». وهذا هو الفرق. وهو ما يذكّر بطرح الإخوان المسلمين المصريين الذين تصدوا للحكم في ظل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية المسيطرة ذاتها، لكن مع وعد بمحاربة الفساد. لكن مشكلتنا الجوهرية تظل تكمن في السياسات المنتجة للفساد والعجز المالي والتخلف التنموي والفقر والبطالة والتهميش. وتتمثل في مجالين رئيسيين ـــ سأتوقف عندهما لأهميتهما بالنسبة إلى النمط السائد في معظم البلدان العربية، وخصوصاً الأردن ومصر ـــ وهما: أولاً، فوضى السياسة المالية، بما في ذلك تعدد جهات الاقتراض والتفاوض على المساعدات والتخطيط وتصميم الإنفاق، ما يقود إلى العشوائية واللاجدوى، وضعف الرقابة والمتابعة لمستويات المديونية العامة والكلفة البعيدة المدى للمساعدات، وعدم تلاؤم جدوى المشاريع على مستوى المؤسسة والقطاع والاقتصاد الوطني. الفوضى المالية هي محصلة لغياب دور الدولة الاقتصادي ــ الاجتماعي، وتنامي نفوذ الممولين الأجانب واللوبيات والشركات والمصالح الفرعية. وفي ظل هذه العشوائية الغامضة، ينشأ سياق موات للفساد الكبير وهدر الموارد وتفاقم عجز الموازنة العامة والمديونية وإدمان المساعدات الخارجية. ثانياً، غياب الرؤية والإرادة التنموية؛ فالتصوّر القائم على أساس اليد الخفية التي تولّف النمو والمصالح في سوق حرة، ليس، كما أثبتت التجارب، سوى وهم. وقد أصبح واضحاً أنه لا مناص من خطة تنموية وطنية تلمح، كحد أدنى، ثلاثة عناصر، هي (1) المراكمة في مجال التوصل إلى حل جذري لمشاكل الطاقة والنقل والميكنة والتكنولوجيا، (2) تكثيف الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية في المحافظات، وفي سياق قطاعات إنتاجية تنافسية، تستند، جوهرياً، إلى الخامات والامكانات والخبرات والعمالة المحلية، (3) دعم الصناعة الوطنية وفق برنامج تنافسي يحظى بالرعاية الحكومية وخفض المخاطر والحماية الجمركية. من دون خطة كهذه، تكفل فرص العمل ومشاركة فئات اجتماعية واسعة في العملية الاقتصادية، وفي ظل خدمات عامة شاملة وعادلة وذات نوعية، فإن أي إصلاح ديموقراطي حقيقي سوف يتعثر، حتماً، بغض النظر عن النيات؛ فالإفقار المعمّم سيحول، غالباً، دون التمثيل النيابي الصحيح، والطبقات الحاكمة، ستتجه، حتماً، إلى الألاعيب السياسية والفبركات والأكاذيب لاستيعاب الاحتجاج الاجتماعي، أو قمعه. وإلى ذلك، فإن النموذج الاقتصادي القائم على الاقتراض والمساعدات سوف يؤدي، بالتأكيد، إلى هدر الاستقلال الوطني، والقبول بالتعامل مع الضغوط الخارجية. فشلت التجربة الأردنية في الانتقال إلى حكومة برلمانية، كما فشل الحراك الشعبي في إحداث تغييرات الحد الأدنى على النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وكان لا بد من تسديد أولى الفواتير: المحاصصة.

المصدر : الأخبار \ناهض حتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة