لا تعكس المشاهدات التي واجهناها في بغداد كما على امتداد الطريق إلى كربلاء، وفي كربلاء نفسها، ما يوحي بأن مرحلة جديدة من التنمية قد بدأت أو حتى في طريقها لذلك.

وباستثناء بعض المعالم العمرانية الجديدة المرتبطة أساسا باستقبال الزوار في كربلاء، مثل بعض المجمعات الاستضافية أو الفنادق، فإن كربلاء مثلا لا تزال كما كانت عليه خلال الحصار الذي سبق الغزو. مدينة تتمحور حول مركزية مقام الإمام الحسين تحوطه أسواق شعبية ضيقة ومزدحمة وغالبا ما تفتقد النظافة.

كربلاء مدينة دينية بامتياز، وقد لا تسمح شعبية التديّن الشيعي بأن تكون غير ذلك. كربلاء مدينة بسيطة، لا تغادر حزنها ولونها الأسود في حجرها وبشرها وزوارها. يترامى إليها ويرتاح على أرصفتها وافدون من نساء ورجال وأطفال، يفترشون الشوارع والأرصفة، وقد باتت حالة عامة في كل المدن التي فيها مقامات شيعية. بات المقام رديفا للشعبية الزائدة. ومع أن كربلاء مدينة الحسين فإن مقام أبي الفضل العباس، شقيق الحسين، الذي لا يبعد عنه أكثر من مئة متر لا يختلف عن مقام الحسين لجهة كل المواصفات الخارجية والداخلية. وفي غرفة جانبية داخل المقام، مقر إمام العتبات المقدسة في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي الذي لا يختلف بعفويته وبساطته في التواصل مع الآخرين عن أي رجل دين شيعي في العالم، فكيف إذا كان في حضرة سيد شهداء الشيعة.

أما بغداد فلم تعرف بعد سبيلا للخروج من حال الاستنفار. بغداد الرشيد وأبو النواس والمتنبي ودجلة تعني الأمن بالدرجة الأولى. الإجراءات الأمنية في كل مكان، فيما تبدو هي مدينة استهلاكية على ما تحتاجه المعيشة اليومية.

بغداد يطحنها القلق من «الإرهاب الأصولي»، ويطحنها على المستوى السياسي شقاق كبير مترافق مع حراكات مناطقية ذات طابع مذهبي، لكن لا تخلو من مطالب اجتماعية تنسحب على كل المجموعات الطائفية. كما يبدو التدخل التركي فاقعا جدا ولا تُمحى من ذاكرة كل من التقيناهم الزيارة غير الشرعية التي قام بها السنة الماضية وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو إلى كركوك.

أما المنطقة الخضراء فحالة خاصة، وقد لا يكون لها شبيه في العالم. قلعة لا يدخلها عصفور من دون إذن، فيما الأمن فيها وفي محيط المطار منوط ببعض جوانبه لشركة أمنية خاصة «جي فور اس». شركات أمنية خاصة لا تجد في من يدير مهمة الكلاب التي تشم الحافلات والسيارات وأحيانا «تشمشم» الناس، سوى أجانب، وأميركيين تحديدا. كان يمكن هضم أي شيء، إلا هذا المنظر الذي يدعو للاعتقاد انه لا يزال أمام استعادة السيادة الكاملة مسافات منها المادي ومنها النفسي.

منطقة خضراء خاوية من البشر. سيارات قليلة تعبر شوارعها فيما ليس من بني آدم يمر على قدميه. منطقة تختصر الدولة بحكومتها وبرلمانها ووزاراتها وكل مسؤوليها وعائلاتهم والسفارات الأجنبية وكل ما يستلزم ذلك من مدارس ومستشفيات. المنطقة الخضراء مدينة آمنة لزائر خاو إلا من مهام محددة. زائر عليه أن يختار بين الأمن والحرية، بين الانضباط والانطلاق، والمثقف بالطبع لا يمكن أن يختار سوى الفضاء الواسع الذي لا تحده حتى الغيوم.

لكن العراقيين أو بعضهم الوازن لا يخفي اعتداده أنه أخرج الاحتلال بشروط جيدة. لا قواعد عسكرية ولا حصانة على أي وجود أمني غربي رسمي أو خاص. والأهم أن العراق بات خارج محورية الارتهان لواشنطن في سياسته الخارجية وصفقات السلاح المقترحة مع روسيا وربما دول أخرى مثال على ذلك.

يجهد العراقيون في إعادة بلدهم إلى الخريطة الإقليمية والدولية. والمؤتمرات التي تهتم بالتطورات في المنطقة واحدة من هذه الوسائل. المؤتمر الثاني لـ«المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية» التي يديرها واثق الهاشمي حول موضوع «بيئة إقليمية آمنة»، والذي انعقد في فندق الرشيد على يومين، كان مناسبة للقاء حواري خاص بين المشاركين مع رئيس الحكومة السابق رئيس «التحالف الوطني العراقي» إبراهيم الجعفري في مقر التحالف على امتداد ساعتين.

جال الجعفري في نواحي السياسة العراقية الداخلية والإقليمية ومتاهاتها. وقال إن «الطائفية في العراق لا مجال لها للتطبيق. 27 في المئة من الزيجات هي بين سنة وشيعة، والقبائل الرئيسية مختلطة الانتماء الطائفي من شمّر إلى خزاع إلى تميم إلى عبيد وغيرها. وكل محافظات العراق مختلطة الانتماء الطائفي».

ورفض الجعفري اعتبار أن التظاهرات التي تشهدها المناطق السنية في العراق ذات منشأ طائفي أو بسبب إقصاء السنّة عن الحكم، إذ ان «السنّة ليسوا مقصيين بل موجودون في كل إدارات الدولة ومواقع القرار. والمرجعيات الشيعية تشدد دائما على تلبية أية حقوق للسنة ولغير السنة. ولكنّ هناك تدخلا إقليميا (تركياً أساسا) في التظاهرات»، مضيفا «ليس هناك من مصلحة للعراق في تغذية الشعور الطائفي».

وانتقد الجعفري الإعلام الذي لم يكن حياديا تجاه الثورات العربية، حيث وقف إلى جانب الثورات في مصر وتونس ولكنه أصيب بالخرس لدى وصوله إلى البحرين وسوريا. وقال إن «العراق وقف إلى جانب الشعوب في الثورات وفي الحالة السورية انقسم الشعب، فكان من الطبيعي أن نقف عند حدود المتفق السوري وليس المختلف».

وحول العلاقات مع تركيا، أشار الجعفري إلى أن الجغرافيا قدر سواء مع إيران أو تركيا أو الكويت، ويجب التعامل مع الجيران كما هم ولكن على أساس «الثابت الوطني والمتحرك الإقليمي»، لكنه أضاف أن العراق يرفض تدخل تركيا في الشأن العراقي الداخلي، والعراق في الأساس لا يتدخل في الداخل التركي.

واعتبر أن لتركيا مصالح وهواجس مشروعة، وهي دولة غير نفطية ومنتجة صناعية تبحث عن أسواق، وقلقها الأساسي من «حزب العمال الكردستاني»، فيما للعراق هواجس عميقة حول مسألة المياه، حيث منابع دجلة والفرات في تركيا. ورأى الجعفري أن نظريات داود اوغلو، ولا سيما «صفر مشكلات»، غير واقعية وليس من ترجمة عملية عليها، موضحا أن داود اوغلو مشتبه في نظرية «صفر مشكلات».

وقال الجعفري إن «أروع نظرية هي التي تنبثق من رحم التطبيق»، مضيفا أنه يحترم داود اوغلو ولا يزال، ولكنه قال له يوما «نحن مع تجميد المختلف وتحريك المتفق، واذا انتظرنا نقطة التصفير فلن نصل أبدا». وتابع ان «تركيا تغيرت وانتقلت خلال عشر سنوات، من دون شماتة، من موقع بلد له أصدقاء الى موقع بلد له أعداء». واتفق مع القائلين بأن تركيا بسبب سياساتها الطرفية والمتطرفة هي في موقع الخاسر مما يجري في المنطقة، ومما يجري في سوريا، حتى لو تغير النظام هناك.

نغادر بغداد وليس من صور تصفع الذاكرة أكثر من حواجز التفتيش، وليس من أسى وأسف على بلد نائم على محيطات من النفط والثروات سوى الغلبة الساحقة لمشاهد الفقر والعشوائية التي تكاد تنسيك ناظم الغزالي وهو يحفر بصوته الشجي، من راديو الحافلة الصغيرة، أنهارا من الدمع الكامن. ونحن عائدون نتهادى على الطريق من كربلاء إلى بغداد في حنين إلى زمن جميل لا بد أن يدركه العراقيون ولو طال السفر، لأنه قدر حضارة الرافدين العريقة.

  • فريق ماسة
  • 2013-02-26
  • 10230
  • من الأرشيف

«العراق الباكي» تحت حصار الأمن والفقر.

لا تعكس المشاهدات التي واجهناها في بغداد كما على امتداد الطريق إلى كربلاء، وفي كربلاء نفسها، ما يوحي بأن مرحلة جديدة من التنمية قد بدأت أو حتى في طريقها لذلك. وباستثناء بعض المعالم العمرانية الجديدة المرتبطة أساسا باستقبال الزوار في كربلاء، مثل بعض المجمعات الاستضافية أو الفنادق، فإن كربلاء مثلا لا تزال كما كانت عليه خلال الحصار الذي سبق الغزو. مدينة تتمحور حول مركزية مقام الإمام الحسين تحوطه أسواق شعبية ضيقة ومزدحمة وغالبا ما تفتقد النظافة. كربلاء مدينة دينية بامتياز، وقد لا تسمح شعبية التديّن الشيعي بأن تكون غير ذلك. كربلاء مدينة بسيطة، لا تغادر حزنها ولونها الأسود في حجرها وبشرها وزوارها. يترامى إليها ويرتاح على أرصفتها وافدون من نساء ورجال وأطفال، يفترشون الشوارع والأرصفة، وقد باتت حالة عامة في كل المدن التي فيها مقامات شيعية. بات المقام رديفا للشعبية الزائدة. ومع أن كربلاء مدينة الحسين فإن مقام أبي الفضل العباس، شقيق الحسين، الذي لا يبعد عنه أكثر من مئة متر لا يختلف عن مقام الحسين لجهة كل المواصفات الخارجية والداخلية. وفي غرفة جانبية داخل المقام، مقر إمام العتبات المقدسة في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي الذي لا يختلف بعفويته وبساطته في التواصل مع الآخرين عن أي رجل دين شيعي في العالم، فكيف إذا كان في حضرة سيد شهداء الشيعة. أما بغداد فلم تعرف بعد سبيلا للخروج من حال الاستنفار. بغداد الرشيد وأبو النواس والمتنبي ودجلة تعني الأمن بالدرجة الأولى. الإجراءات الأمنية في كل مكان، فيما تبدو هي مدينة استهلاكية على ما تحتاجه المعيشة اليومية. بغداد يطحنها القلق من «الإرهاب الأصولي»، ويطحنها على المستوى السياسي شقاق كبير مترافق مع حراكات مناطقية ذات طابع مذهبي، لكن لا تخلو من مطالب اجتماعية تنسحب على كل المجموعات الطائفية. كما يبدو التدخل التركي فاقعا جدا ولا تُمحى من ذاكرة كل من التقيناهم الزيارة غير الشرعية التي قام بها السنة الماضية وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو إلى كركوك. أما المنطقة الخضراء فحالة خاصة، وقد لا يكون لها شبيه في العالم. قلعة لا يدخلها عصفور من دون إذن، فيما الأمن فيها وفي محيط المطار منوط ببعض جوانبه لشركة أمنية خاصة «جي فور اس». شركات أمنية خاصة لا تجد في من يدير مهمة الكلاب التي تشم الحافلات والسيارات وأحيانا «تشمشم» الناس، سوى أجانب، وأميركيين تحديدا. كان يمكن هضم أي شيء، إلا هذا المنظر الذي يدعو للاعتقاد انه لا يزال أمام استعادة السيادة الكاملة مسافات منها المادي ومنها النفسي. منطقة خضراء خاوية من البشر. سيارات قليلة تعبر شوارعها فيما ليس من بني آدم يمر على قدميه. منطقة تختصر الدولة بحكومتها وبرلمانها ووزاراتها وكل مسؤوليها وعائلاتهم والسفارات الأجنبية وكل ما يستلزم ذلك من مدارس ومستشفيات. المنطقة الخضراء مدينة آمنة لزائر خاو إلا من مهام محددة. زائر عليه أن يختار بين الأمن والحرية، بين الانضباط والانطلاق، والمثقف بالطبع لا يمكن أن يختار سوى الفضاء الواسع الذي لا تحده حتى الغيوم. لكن العراقيين أو بعضهم الوازن لا يخفي اعتداده أنه أخرج الاحتلال بشروط جيدة. لا قواعد عسكرية ولا حصانة على أي وجود أمني غربي رسمي أو خاص. والأهم أن العراق بات خارج محورية الارتهان لواشنطن في سياسته الخارجية وصفقات السلاح المقترحة مع روسيا وربما دول أخرى مثال على ذلك. يجهد العراقيون في إعادة بلدهم إلى الخريطة الإقليمية والدولية. والمؤتمرات التي تهتم بالتطورات في المنطقة واحدة من هذه الوسائل. المؤتمر الثاني لـ«المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية» التي يديرها واثق الهاشمي حول موضوع «بيئة إقليمية آمنة»، والذي انعقد في فندق الرشيد على يومين، كان مناسبة للقاء حواري خاص بين المشاركين مع رئيس الحكومة السابق رئيس «التحالف الوطني العراقي» إبراهيم الجعفري في مقر التحالف على امتداد ساعتين. جال الجعفري في نواحي السياسة العراقية الداخلية والإقليمية ومتاهاتها. وقال إن «الطائفية في العراق لا مجال لها للتطبيق. 27 في المئة من الزيجات هي بين سنة وشيعة، والقبائل الرئيسية مختلطة الانتماء الطائفي من شمّر إلى خزاع إلى تميم إلى عبيد وغيرها. وكل محافظات العراق مختلطة الانتماء الطائفي». ورفض الجعفري اعتبار أن التظاهرات التي تشهدها المناطق السنية في العراق ذات منشأ طائفي أو بسبب إقصاء السنّة عن الحكم، إذ ان «السنّة ليسوا مقصيين بل موجودون في كل إدارات الدولة ومواقع القرار. والمرجعيات الشيعية تشدد دائما على تلبية أية حقوق للسنة ولغير السنة. ولكنّ هناك تدخلا إقليميا (تركياً أساسا) في التظاهرات»، مضيفا «ليس هناك من مصلحة للعراق في تغذية الشعور الطائفي». وانتقد الجعفري الإعلام الذي لم يكن حياديا تجاه الثورات العربية، حيث وقف إلى جانب الثورات في مصر وتونس ولكنه أصيب بالخرس لدى وصوله إلى البحرين وسوريا. وقال إن «العراق وقف إلى جانب الشعوب في الثورات وفي الحالة السورية انقسم الشعب، فكان من الطبيعي أن نقف عند حدود المتفق السوري وليس المختلف». وحول العلاقات مع تركيا، أشار الجعفري إلى أن الجغرافيا قدر سواء مع إيران أو تركيا أو الكويت، ويجب التعامل مع الجيران كما هم ولكن على أساس «الثابت الوطني والمتحرك الإقليمي»، لكنه أضاف أن العراق يرفض تدخل تركيا في الشأن العراقي الداخلي، والعراق في الأساس لا يتدخل في الداخل التركي. واعتبر أن لتركيا مصالح وهواجس مشروعة، وهي دولة غير نفطية ومنتجة صناعية تبحث عن أسواق، وقلقها الأساسي من «حزب العمال الكردستاني»، فيما للعراق هواجس عميقة حول مسألة المياه، حيث منابع دجلة والفرات في تركيا. ورأى الجعفري أن نظريات داود اوغلو، ولا سيما «صفر مشكلات»، غير واقعية وليس من ترجمة عملية عليها، موضحا أن داود اوغلو مشتبه في نظرية «صفر مشكلات». وقال الجعفري إن «أروع نظرية هي التي تنبثق من رحم التطبيق»، مضيفا أنه يحترم داود اوغلو ولا يزال، ولكنه قال له يوما «نحن مع تجميد المختلف وتحريك المتفق، واذا انتظرنا نقطة التصفير فلن نصل أبدا». وتابع ان «تركيا تغيرت وانتقلت خلال عشر سنوات، من دون شماتة، من موقع بلد له أصدقاء الى موقع بلد له أعداء». واتفق مع القائلين بأن تركيا بسبب سياساتها الطرفية والمتطرفة هي في موقع الخاسر مما يجري في المنطقة، ومما يجري في سوريا، حتى لو تغير النظام هناك. نغادر بغداد وليس من صور تصفع الذاكرة أكثر من حواجز التفتيش، وليس من أسى وأسف على بلد نائم على محيطات من النفط والثروات سوى الغلبة الساحقة لمشاهد الفقر والعشوائية التي تكاد تنسيك ناظم الغزالي وهو يحفر بصوته الشجي، من راديو الحافلة الصغيرة، أنهارا من الدمع الكامن. ونحن عائدون نتهادى على الطريق من كربلاء إلى بغداد في حنين إلى زمن جميل لا بد أن يدركه العراقيون ولو طال السفر، لأنه قدر حضارة الرافدين العريقة.

المصدر : محمد نور الدين\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة