دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لم يكن مخيّم اليرموك يوماً بقعة منفصلة عن سوريا، جغرافياً وسوسيولوجياً وثقافياً. ما حصل في نهاية العام الماضي، من انتقال للمعركة إلى داخله، بين النظام وفضائل المعارضة، هو خير دليل. في تلك المعركة، عاش أهل المخيّم، سوريين وفلسطينيين، تغريبة ثانية، إلى أن تمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار وهدأت المعركة. عاد جزء من أهل المخيّم بعد الاتفاق، وبقي من خافوا العودة في الخارج إلى حين. ووسط كل ذلك، برزت حقيقة واحدة هي أن المخيّم ليس للفلسطينيين وحدهم، فهو للسوريين كذلك، الذين يتشاركون في الكثير من الهموم والقضايا.
وضعت اللبنات الأولى لمخيم اليرموك منتصف العام 1954، وتحديداً في الشهر السابع منه، عندما بدأت الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا، وهي الجهة الحكومية المعنية بالشؤون المدنية للفلسطينيين، بتوزيع الأراضي على اللاجئين الفلسطينيين في منطقة دمشق، والذين كانوا يملؤون مساجد دمشق ومراكز الإيواء المختلفة فيها، وأغلبيتهم من مناطق حيفا وصفد وعكا وطبرية والناصرة وأقضيتها، والقليل منهم من يافا واللد والرملة.
وتمّت عملية توزيع الأراضي في المنطقة العقارية المعروفة بمنطقة «شاغور بساتين»، بواقع تقديم أرض مساحتها 48 متراً مربعاً لكل أسرة تحمل بطاقة لاجئ فلسطيني مسجل في سجلات الهيئة العامة للاجئين ووكالة الأونروا التي كانت في حينها حديثة العهد، مع دعم مادي بسيط لبناء منزل. وابتدأت منازل ودور مخيم اليرموك بالانتشار من حاراته الأولى المعروفة الآن بحارات الفدائية والواقعة في مقدمة مناطق التوتر الحالي في المخيم.
مخيم اليرموك، زاره مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني العام 1955 وأطلق عليه، من بين سكانه ولاجئيه، مسمى «اليرموك»، ليصبح هذا المسمى بيرقاً عالياً في سماء العمل الوطني الفلسطيني والثورة الفلسطينية المعاصرة. كما زاره الرئيس جمال عبد الناصر والملك المغربي محمد الخامس العام 1961، حين تبرعت المغرب ببناء مستوصف وكالة الأونروا في المخيم والذي بات من حينها يحمل اسم مستوصف الخامس، وقد انسحب الاسم ذاته على كل مستوصفات الوكالة في المخيم.
مخيم اليرموك، بقعة جغرافية صغيرة نسبياً، لكنها مكتظة سكانياً حتى حدود التخمة الديموغرافية. ويتبع المخيّم إدارياً لمدينة دمشق، حيث يلاصقها من جهة الجنوب، عبر حيي الميدان والزاهرة. وتحيط به من بقية الجهات والجوانب أحياء سورية مكتظة، أغلبيتها أحياء شعبية، منها أحياء عشوائية لكنها رسمية قامت على أراض زراعية (طابو زراعي) تابعة لمناطق من غوطة دمشق الشرقية، ومنها أحياء (مخالفات)، ومنها ما يسمى أحياء «الطَبَب» التي أقيمت فوقها منشآت سكنية متواضعة من دون شراء أراضيها باعتبارها أملاكا عامة.
وكانت الأحياء السكانية السورية - الأحياء الشعبية أو ما بات يُعرف بالعشوائيات - التي تحيط بمخيم اليرموك، ما زالت أحياء مُلتهبة في سياق الأزمة الداخلية السورية، حيث تُحيط بالمخيم من كافة الجهات تقريباً، عدا الشمال منه المفتوح على حيي الزاهرة والميدان.
وإلى الشرق من مخيم اليرموك، على امتداد نحو كيلومترين طولاً، يتجاور مخيم اليرموك مع حي التضامن عبر شارع فلسطين، وصولاً للجنوب الشرقي من اليرموك حيث تقع بلدة يلدا التي تتجاور في تلك المنطقة مع مخيم اليرموك، وصولاً إلى الجنوب من المخيّم حيث تقع أحياء الحجر الأسود والجزيرة. أما غربي اليرموك فَتَحدّه بساتين منطقة القدم والجورة والعسالي والأعلاف التي يفصلها عن اليرموك أوتوستراد شارع الثلاثين.
ولا يعدّ تداخل مخيم اليرموك مع جيرانه تداخلاً جغرافياً فحسب، بل هو تداخل إنساني بالدرجة الأولى، بين شعبين ملتصقين. وقد أدى وظائفه في ولادة سوسيولوجيا اجتماعية واحدة بتأثير فلسطيني طاغٍ، دفع عموم سكان مخيم اليرموك من سوريين وفلسطينيين للصراخ بالصوت العالي: بين فلسطين وسوريا.. احترنا على أي وطن نتوجع!
وفي تلك السوسيولوجيا، بات «سوريو مخيم اليرموك» فلسطينيين أكثر من كونهم سوريين، وهو ما دفع بقطاعات واسعة منهم للانخراط في العمل الوطني الفلسطيني وفي صفوف مختلف الفصائل الفلسطينية، فعدد الشهداء السوريين في العمل الفدائي الفلسطيني يقارب نحو ثلث شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة.
إن منبت تلك السوسيولوجيا، أنها قاربت أيضاً من الزاوية الطبقية الوضع «الطبقي والاجتماعي» بين حال الفلسطيني اللاجئ قسراً من أرض وطنه فلسطين وبين حال سكان تلك العشوائيات الذين كانوا إجمالاً من منابت طبقية فقيرة ومتواضعة، وحتى مسحوقة، ومن فقراء الأرياف والمحافظات البعيدة ومن مهمشي المدن (الذين كان يُطلق عليهم الماركسيون العرب في أدبياتهم مسمى «البروليتاريا الرثة»)، ومن طالبي العمل والمياومة (العمل بالأجر اليومي) في سوق الرزق في المعامل والمنشآت والبنى التحتية في العاصمة دمشق ومحيطها.
إن تلك الحالة الاجتماعية السوسيولوجية للعشوائيات المحيطة بمخيم اليرموك ومنها حي التضامن على وجه الخصوص، دَفعت قطاعات من سكان تلك المنطقة للبحث عن الوظيفة الحكومية حتى المتدنية في سلم «الراتب والرتبة الوظيفية»، ونمت معها ثقافة «ضارة» عنوانها «ترك الأرض الزراعية والبحث عن الوظيفة» وقد دفعت تلك الثقافة الأعداد المتزايدة من سكان الأرياف في المناطق البعيدة من مختلف المحافظات للقدوم لدمشق والإقامة في تلك العشوائيات. وقد تكون سنوات الجفاف التي مرت على المنطقة الشرقية في سوريا قد أسهمت في تأجيج وتشجيع تلك الهجرات الداخلية، إضافة للتقاعس العام في تنمية الريف من قبل الجهات المعنية وإهمال أهمية توزيع المؤسسات الإنتاجية وحتى الوزارات على كامل بقعة الأرض السورية.
ومن بين تلك العشوائيات المحيطة بمخيم اليرموك، وغيرها البعيدة عنه والموزعة في عموم مناطق دمشق وبقية المحافظات، ازدهرت حالات التذمر الاجتماعي، واحتقنت معها روح التمرد التي باتت بعد حين تَحمل مضموناً سياسياً، بالرغم من توفر الخدمات الأساسية لتلك العشوائيات وخاصة في المجال المتعلق بالصحة والتربية والتعليم وانتشار المدارس فيها وبقية المرافق الخدماتية.
ومن المهم الإشارة إلى أن المناطق المحيطة باليرموك تضم بين ثناياها خليطاً من عموم أبناء الشعب السوري من كل المحافظات وحتى من كل الطوائف، وهو أمر أوجد حالة غنية من الألفة والتفاعل بين الجميع وساعد على حالة الانصهار الوطني. وقد ساعد على هذا الأمر أيضاً الحالة الوطنية الفلسطينية التي كانت وما زالت على الدوام حالة جامعة لا تقبل بمنطق الطوائف، بل تذم وتَلعن أَصحابها. بل إن الزيجات المختلطة تميّز الحالة الفلسطينية في سوريا، فهناك المئات من الشبان أو الشابات الفلسطينيات ممن اقترنوا بسوريات أو سوريين من كافة الطوائف والملل.
في المقابل، كان وما زال فلسطينيو سوريا ومخيم اليرموك، الأجدر من جيرانهم على شق طريقهم الصعب والقاسي بالرغم من وجودهم كلاجئين خارج أرض وطنهم التاريخي، وقد يكون السبب في ذلك نتيجة إنشدادهم الرئيسي نحو همهم الوطني ونحو بوصلتهم المتجهة إلى وطنهم فلسطين، فضلاً عن التجربة التي عجنتهم بمراراتها وعلقمها، ودفعت بهم نحو حفر الصخر بأظافرهم لتحسين أوضاعهم، والتركيز على تعليم أبنائهم، وهو أمر جعل من مخيم اليرموك متمايزاً في هذا الجانب عن حالة سكان العشوائيات المحيطة به. وبات مخيم اليرموك مدينة كبيرة وعامرة خارج إطار ما يسمى بالعشوائيات وفق التقسيمات المرسومة والمصنفة في وزارة الإدارة المحلية السورية. وليس صدفة أن نرى أن أسواق مخيم اليرموك التجارية تعتبر من أوسع أسواق دمشق وأكثرها زخماً، وقد وصلت أسعار بعض العقارات التجارية في بعض الشوارع الرئيسية في المخيم إلى نحو مليون دولار أميركي.
المصدر :
علي بدوان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة