كل أدبيات الدكتور هيثم مناع ومؤلفاته تؤكد أن عقله السياسي يحاكي الديموقراطيات الغربية، وفي مقدمها فرنسا. الرجل حرّ التفكير، أمضى جلّ عمره في الدفاع عن حقوق الإنسان والسجناء. رافق ودعم وصادق من باتوا رؤساء بعد «الربيع العربي»، ومنهم رئيس تونس المنصف المرزوقي. رفع منذ بداية انتفاضة أهل منطقته درعا، لاءات ثلاث «لا للعنف، لا للطائفية ولا للتدخل الخارجي». قرّر أن تصبح اللاءات عنواناً للتغيير الديموقراطي في سوريا. بقي وفياً لفكرته الإصلاحية الموجودة بذورها في «هيئة التنسيق الوطني»، التي يقود ممثليتها في المهجر (وتحديداً من باريس)، فلماذا تحاربه فرنسا وبعض العواصم الخليجية والغربية؟

ترتفع حرارة السؤال في الفندق السويسري القائم وسط ثلوج جنيف. حرارة يناقضها صقيع سويسرا ولا يوازيها سوى خلية النحل من الناشطين الحقوقيين والمثقفين والمفكرين الديموقراطيين والمعارضين الذين توافدوا أمس للمشاركة في «المؤتمر الدولي السوري، من أجل سوريا ديموقراطية ودولة مدنية». لم يصل كل المدعوين. أكثر من 66 شخصية عجزت عن المشاركة لأنها لم تحصل على تأشيرة الحضور. وسائل إعلام رفضت المجيء. السبب؟ ضغوط دولية، وبينها فرنسية، وفق ما يقول العارفون حول هيثم مناع.

أكثر من ذلك! في يوم افتتاح مؤتمر جنيف، ترعى باريس مؤتمراً لدعم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية». يقود «الائتلاف» معاذ الخطيب الذي شجب قرار واشنطن اعتبار «جبهة النصرة» منظمة إرهابية، وهو القرار الذي تعاملت معه باريس بضبابية كبيرة، حيث تقول لمن يسألها عن سبب عدم السير في ركب إدارة أوباما حيال هذه المنظمة الجهادية والتكفيرية في سوريا: سنفعل بعد سقوط النظام.

يبتسم هيثم مناع في الفندق السويسري. لم تفارقه الابتسامة فعلياً سوى حين وصله خبر مقتل شقيقه في درعا قبل أشهر. لا مقتل الشقيق ولا اختفاء بعض رفاقه، وفي مقدمهم عبد العزيز الخيّر، غيّر من قناعاته بأن الانتقام مصيبة وأن اللجوء إلى السلاح مصيبة أكبر. بقي الرجل، وهو قريب نائب الرئيس فاروق الشرع، مؤمناً بأن الحلّ السياسي هو الخلاص الوحيد لسوريا، وأن النظام والمعارضة مخطئان.

عُرضت على مناع إغراءات مالية وسياسية هائلة. له فكرته عن بعض الدول التي تنشد الديموقراطية في سوريا وهي لا تعرف عن الديموقراطية غير الاسم. قال ذلك مباشرة لبعض المسؤولين في الخليج. ليس هذا الكلام مقبولاً في دول لا تزال تعتقد بأن النظام سيسقط هذا الأسبوع أو في الشهر المقبل أو بعد شهرين.

لا يزال هذا المناضل الحقوقي والمعارض، الذي كان يتحدى الدكتاتوريات حين لم يكن غيره يجرؤ على مجرّد الانتقاد، يعيش في غرفتين صغيرتين في إحدى ضواحي باريس، هما عبارة عن مكتب وسرير ومطبخ و«كراتين» كثيرة من رسائل السجناء ومحاضرات ومداخلات ومراسلات مع الأمم المتحدة (وهو يتمتع فيها بصفة مستشار).. كل ذلك بغية الدفاع عن أصحاب الرأي وللتأسيس لأنظمة أكثر ديموقراطية وحرية في وطننا العربي.

صفات كهذه منبوذة في الوقت الراهن. ليس مقبولاً أن يتحدث معارض عن حل سياسي وعن مصيبة السلاح والاقتتال الطائفي والمذهبي. لا بأس أن تحتضن باريس تيارات إسلامية متشددة، وأن تساهم في التضييق على مناع ورفاقه. لا بأس إن وصل المال إلى تكفيريين هم رفاق لأولئك الذين «تورطت» باريس بمحاربتهم الآن في مالي، ودفعت ثمن غضبهم عليها في الجزائر.

يواصل مناع ابتسامه في الفندق السويسري. يقدّم للضيوف قهوة عربية يصنعها بنفسه في الإبريق الكهربائي الذي جاء به من باريس. يُخرج ملفاته من «الكراتين» التي تجمعت في غرفته. يتحدث عن خيبة أمل من الخطاب الأخير للرئيس الأسد. يقول إنه كان ينتظر انفتاحاً وتحولات وفق ما سرّب له أحد المقربين من النظام. يشير إلى تلميحات قليلة في الخطاب نحوه، ولكنه كان يأمل بأكثر من ذلك. نقل خيبته إلى وزير الإعلام عمران الزعبي حين اتصل به متمنياً التعامل بإيجابية مع الخطاب. لديه قناعة بأن النظام لم يغيّر شيئاً جذرياً، وأن المعارضة تورطت في ما جذبها نحوه.

الضغط الغربي والخليجي منع مؤسسة «سانت إيجيدو»، الرائدة في مؤتمرات السلام، من استضافة مؤتمر لهيثم مناع ورفاقه. لكن الرجل تعلم من أخطاء الماضي. يبتسم مجدداً ليشرح كيف يمكن جمع كل هذا العدد من المناضلين في مكان كسويسرا رغم المنع والضغوط. وهو نجح فعلاً في ذلك. الحضور كبير ومتنوع من ديموقراطيين وليبراليين إلى إسلاميين متنورين مناهضين لفكر التكفير وفتاوى القتل. لا بأس هنا أن يكون الشيخ رياض ضرار مجاوراً لرفيق شيوعي على طاولة واحدة.

واليوم، حين يتحدث مناع، في خطابه الافتتاحي عن لاءاته الثلاث، وحين يتحدث عمن طوّر ثقافة العنف وعن التضخيم الإعلامي، وعن الباحثين عن نفوذ إقليمي ودولي على حساب الدم السوري، وعن حوار السلطة لنفسها، سيبقى وفياً لما كان عليه دائماً. رجل حرّ، صاحب فكر ديموقراطي منفتح وأصالة عربية، وحرص على حقن الدم السوري مهما كلف الأمر.

لعل هذا الخيار الثالث، الذي يمثله مناع بين السلطة الحالية والمعارضة المسلحة، هو المطلوب أكثر من أي وقت مضى لتعزيز لغة الحوار بين المعارضة والسلطة ووقف نزيف الدم وبناء سوريا الغد. قال ذلك لأكثر من 32 وزير خارجية التقى بهم منذ بداية الأزمة السورية، وقاله في موسكو وطهران والقاهرة والدوحة وكل عاصمة زارها. قالها وما اختنق الصوت رغم كل الضجيج المرافق لتيارات ومؤتمرات أخرى أُريدَ لها أن تساهم في إسقاط نظام، فسقط الكثير منها في خلافات داخلية، ولا يزال القتال مستعراً. وقد يستعر أكثر ما لم يستمع الطرفان، السلطة والمعارضة، لأصوات تشبه صوت هيثم مناع الفخور بأصله الحوراني وثقافته العربية والغربية الواسعة النطاق.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-01-27
  • 9492
  • من الأرشيف

فرنسا «تُجاهد» ضدّ هيثم مناع؟

كل أدبيات الدكتور هيثم مناع ومؤلفاته تؤكد أن عقله السياسي يحاكي الديموقراطيات الغربية، وفي مقدمها فرنسا. الرجل حرّ التفكير، أمضى جلّ عمره في الدفاع عن حقوق الإنسان والسجناء. رافق ودعم وصادق من باتوا رؤساء بعد «الربيع العربي»، ومنهم رئيس تونس المنصف المرزوقي. رفع منذ بداية انتفاضة أهل منطقته درعا، لاءات ثلاث «لا للعنف، لا للطائفية ولا للتدخل الخارجي». قرّر أن تصبح اللاءات عنواناً للتغيير الديموقراطي في سوريا. بقي وفياً لفكرته الإصلاحية الموجودة بذورها في «هيئة التنسيق الوطني»، التي يقود ممثليتها في المهجر (وتحديداً من باريس)، فلماذا تحاربه فرنسا وبعض العواصم الخليجية والغربية؟ ترتفع حرارة السؤال في الفندق السويسري القائم وسط ثلوج جنيف. حرارة يناقضها صقيع سويسرا ولا يوازيها سوى خلية النحل من الناشطين الحقوقيين والمثقفين والمفكرين الديموقراطيين والمعارضين الذين توافدوا أمس للمشاركة في «المؤتمر الدولي السوري، من أجل سوريا ديموقراطية ودولة مدنية». لم يصل كل المدعوين. أكثر من 66 شخصية عجزت عن المشاركة لأنها لم تحصل على تأشيرة الحضور. وسائل إعلام رفضت المجيء. السبب؟ ضغوط دولية، وبينها فرنسية، وفق ما يقول العارفون حول هيثم مناع. أكثر من ذلك! في يوم افتتاح مؤتمر جنيف، ترعى باريس مؤتمراً لدعم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية». يقود «الائتلاف» معاذ الخطيب الذي شجب قرار واشنطن اعتبار «جبهة النصرة» منظمة إرهابية، وهو القرار الذي تعاملت معه باريس بضبابية كبيرة، حيث تقول لمن يسألها عن سبب عدم السير في ركب إدارة أوباما حيال هذه المنظمة الجهادية والتكفيرية في سوريا: سنفعل بعد سقوط النظام. يبتسم هيثم مناع في الفندق السويسري. لم تفارقه الابتسامة فعلياً سوى حين وصله خبر مقتل شقيقه في درعا قبل أشهر. لا مقتل الشقيق ولا اختفاء بعض رفاقه، وفي مقدمهم عبد العزيز الخيّر، غيّر من قناعاته بأن الانتقام مصيبة وأن اللجوء إلى السلاح مصيبة أكبر. بقي الرجل، وهو قريب نائب الرئيس فاروق الشرع، مؤمناً بأن الحلّ السياسي هو الخلاص الوحيد لسوريا، وأن النظام والمعارضة مخطئان. عُرضت على مناع إغراءات مالية وسياسية هائلة. له فكرته عن بعض الدول التي تنشد الديموقراطية في سوريا وهي لا تعرف عن الديموقراطية غير الاسم. قال ذلك مباشرة لبعض المسؤولين في الخليج. ليس هذا الكلام مقبولاً في دول لا تزال تعتقد بأن النظام سيسقط هذا الأسبوع أو في الشهر المقبل أو بعد شهرين. لا يزال هذا المناضل الحقوقي والمعارض، الذي كان يتحدى الدكتاتوريات حين لم يكن غيره يجرؤ على مجرّد الانتقاد، يعيش في غرفتين صغيرتين في إحدى ضواحي باريس، هما عبارة عن مكتب وسرير ومطبخ و«كراتين» كثيرة من رسائل السجناء ومحاضرات ومداخلات ومراسلات مع الأمم المتحدة (وهو يتمتع فيها بصفة مستشار).. كل ذلك بغية الدفاع عن أصحاب الرأي وللتأسيس لأنظمة أكثر ديموقراطية وحرية في وطننا العربي. صفات كهذه منبوذة في الوقت الراهن. ليس مقبولاً أن يتحدث معارض عن حل سياسي وعن مصيبة السلاح والاقتتال الطائفي والمذهبي. لا بأس أن تحتضن باريس تيارات إسلامية متشددة، وأن تساهم في التضييق على مناع ورفاقه. لا بأس إن وصل المال إلى تكفيريين هم رفاق لأولئك الذين «تورطت» باريس بمحاربتهم الآن في مالي، ودفعت ثمن غضبهم عليها في الجزائر. يواصل مناع ابتسامه في الفندق السويسري. يقدّم للضيوف قهوة عربية يصنعها بنفسه في الإبريق الكهربائي الذي جاء به من باريس. يُخرج ملفاته من «الكراتين» التي تجمعت في غرفته. يتحدث عن خيبة أمل من الخطاب الأخير للرئيس الأسد. يقول إنه كان ينتظر انفتاحاً وتحولات وفق ما سرّب له أحد المقربين من النظام. يشير إلى تلميحات قليلة في الخطاب نحوه، ولكنه كان يأمل بأكثر من ذلك. نقل خيبته إلى وزير الإعلام عمران الزعبي حين اتصل به متمنياً التعامل بإيجابية مع الخطاب. لديه قناعة بأن النظام لم يغيّر شيئاً جذرياً، وأن المعارضة تورطت في ما جذبها نحوه. الضغط الغربي والخليجي منع مؤسسة «سانت إيجيدو»، الرائدة في مؤتمرات السلام، من استضافة مؤتمر لهيثم مناع ورفاقه. لكن الرجل تعلم من أخطاء الماضي. يبتسم مجدداً ليشرح كيف يمكن جمع كل هذا العدد من المناضلين في مكان كسويسرا رغم المنع والضغوط. وهو نجح فعلاً في ذلك. الحضور كبير ومتنوع من ديموقراطيين وليبراليين إلى إسلاميين متنورين مناهضين لفكر التكفير وفتاوى القتل. لا بأس هنا أن يكون الشيخ رياض ضرار مجاوراً لرفيق شيوعي على طاولة واحدة. واليوم، حين يتحدث مناع، في خطابه الافتتاحي عن لاءاته الثلاث، وحين يتحدث عمن طوّر ثقافة العنف وعن التضخيم الإعلامي، وعن الباحثين عن نفوذ إقليمي ودولي على حساب الدم السوري، وعن حوار السلطة لنفسها، سيبقى وفياً لما كان عليه دائماً. رجل حرّ، صاحب فكر ديموقراطي منفتح وأصالة عربية، وحرص على حقن الدم السوري مهما كلف الأمر. لعل هذا الخيار الثالث، الذي يمثله مناع بين السلطة الحالية والمعارضة المسلحة، هو المطلوب أكثر من أي وقت مضى لتعزيز لغة الحوار بين المعارضة والسلطة ووقف نزيف الدم وبناء سوريا الغد. قال ذلك لأكثر من 32 وزير خارجية التقى بهم منذ بداية الأزمة السورية، وقاله في موسكو وطهران والقاهرة والدوحة وكل عاصمة زارها. قالها وما اختنق الصوت رغم كل الضجيج المرافق لتيارات ومؤتمرات أخرى أُريدَ لها أن تساهم في إسقاط نظام، فسقط الكثير منها في خلافات داخلية، ولا يزال القتال مستعراً. وقد يستعر أكثر ما لم يستمع الطرفان، السلطة والمعارضة، لأصوات تشبه صوت هيثم مناع الفخور بأصله الحوراني وثقافته العربية والغربية الواسعة النطاق.  

المصدر : سامي كليب \ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة