دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
انتهى زمن سيادة المنطق الوطني والشعار القومي، في لبنان كما في المنطقة من حوله، وسقط الخجل من الحديث بتعابير طائفية صريحة ومباشرة تنضح تميزاً وعدائية تجاه الآخرين من الأخوة ـ الأعداء المنافسين على السلطة وامتيازاتها.
لا يقتصر الأمر على لبنان بكيانه المدول والمبني على الامتيازات الطوائفية، بل ان هذا السرطان لاغي الهويات الوطنية والطموحات القومية قد ضرب ويضرب أقطار المشرق العربي جميعاً، بدءاً بالجوار السوري امتداداً إلى العراق وصولاً إلى البحرين والسعودية التي لم يعد الحديث عن "الوضع الخاص للمنطقة الشرقية" فيها محظوراً أو بعيداً عن التناول العلني اليومي، وصولاً إلى اليمن السعيد بحروبه المفتوحة والتي بدأت تحمل مؤشرات طائفية صريحة بعدما ظلت مضمرة لأمد طويل.
كأي مرض معدٍ تتوسع الطوائفيات حتى لتكاد تصبح هويات بديلة تلغي أو تطمس الهوية الوطنية في معظم هذه "الدول" التي كان بعضها يرفع شعار النظام العلماني توكيداً لوطنيته الجامعة وتمويهاً لسيطرته بقوة الطائفة، وإخفاء لطائفيته التي قد تغدو مانعاً لوصوله إلى السلطة.
ها هم اللبنانيون، وقد كانوا الأعظم فصاحة في الحديث عن العلمانية والتي يفترض أنها تشكل عامل توحيد لـ"أقلياتهم" في الإطار الوطني الجامع، يندفعون إلى التباري في تقديم الوصفات الطبية الناجعة في بناء الديموقراطية بالطائفية.
إن هاجس قياداتهم المجيدة الآن إقناع رعاياهم أن الانتخابات النيابية بقانون طائفي ـ مذهبي هي أقصر الطرق إلى الديموقراطية وتحرير أبناء هذه الطائفة الفرد من الارتهان لتلك الطائفة الأخرى.
تم إسقاط "النسبية" بالضربة الطائفية القاتلة، وتم إلغاء أعداد الرعايا ونسبة كل "قطيع" إلى المجموع العام للسكان.. تمهيداً لتحرير الناخب من أعباء الديموقراطية اللاغية لفرديته وموقفه السياسي واعتزازه بانتمائه الوطني الجامع، وإلزامه بحفظ كرامة طائفته وقرارها المستقل، والذهاب إلى صندوق الاقتراع بهويته الطائفية صريحة بعلانيتها لينتخب ـ ديموقراطياً ـ نائبه وممثله في حقل التشريع وصيانة حقوقه كابن شرعي لطائفته التي تعلو على الوطن ومصالح الأمة جمعاء.
بات من الكبائر أن ينتخب المسيحي نائباً مسلماً وبالعكس، بل أن ينتخب الماروني كاثوليكياً أو ينتخب الأرثوذكسي أرمنياً أرثوذكسياً أيضاً والسني شيعياً والشيعي سنياً أو الكاثوليكي درزياً وبالعكس.. وهكذا تنتعش الديموقراطية وتزدهر في ظل برلمان طوائفي ـ مذهبي يستولد نوابه التعصب لكرامة الطائفة التي تعلو على الوطن والأمة جميعاً.
في سوريا التي كانت مضرب المثال في متانة الانصهار الوطني وكان نظامها يتباهى بعلمانيته ترتفع اليوم الأصوات بالحديث عن "الامتيازات" وعن الغبن اللاحق بالطائفة ـ الأم، وتتدخل "الدول" لطمأنة "الأقليات" الطائفية، فتسهل هجرة "الطوائف الصغرى" ولا سيما المسيحيين منهم..
أما في العراق فإن أزمة نظام الحكم الذي تم تركيبه في ظل الاحتلال الأميركي والتي تلخصت في "إنصاف" طائفة كانت "محرومة" على حساب طائفة كانت "طاغية"، مع تجاوز أن الطغاة إنما يسخرون الطوائف لتبرير التفرد بالسلطة وإلغاء المواطنية أي الهوية الجامعة، من غير أن يقصدوا الإنصاف والعدالة أو المساواة في الحقوق بين أبناء الشعب الواحد باعتبارهم مواطنين في دولتهم الواحدة الموحدة... ومعروف أن الاحتلال قد شجع الأقليات على الرحيل ثم تكفل الطوائفيون بـ"اجتثاثهم" حسب التعبير العراقي!
وأما أخبار الأزمة السياسية بعنوانها والطائفية بمضمونها، في البحرين، فهي تتصدر عناوين نشرات الأخبار يومياً اعتقالات ومحاكمات ومطاردات في الشوارع للمتظاهرين المطالبين بحق المواطنة..
... ولأن أهل النظام السياسي في لبنان أفلسوا في بناء دولة لشعبه القليل عديده
والمتنوع في نسيجه الاجتماعي، فإنهم يبتدعون صيغة أكثر طائفية ثم ينحدرون بها إلى المذهبية حتى يضربوا الرباط المقدس بينهم وحتى يسقطوا ملامح الوطن عن كيانه السياسي: فإذا الكل رعايا لطوائف يقودهم الأعظم تطرفاً إلى حد دفع الوطن الصغير إلى حافة الحرب الأهلية مع كل جولة من جولات الانتخابات بالشعار الطائفي الصريح، حفظاً لامتيازات "تاريخية" أو طلباً للشراكة في هذه الامتيازات لزعامات الطوائف الأخرى، بحيث ينتهي الوطن الصغير مجموعة من الدوقيات أو الإمارات معقود لواء الحكم في كل منها للأعظم فجوراً في طائفيته بل مذهبيته..
وطبيعي أن في كل طائفة عدداً من السفراء والسفارات حامية الديموقراطية التوافقية (وهو التعبير المهذب عن إلغاء الهوية الوطنية للبلاد وأهلها)..
وعلى كل من الرعايا في لبنان أن يحدد هوية "ديموقراطيته" وهل هي أرثوذكسية أم سنية، شيعية أم مارونية، كاثوليكية أم درزية.
إنها عبقرية لبنانية خالصة: أن تلغي المواطن والوطن ووحدة المصلحة والمصير... بالاقتراع السري، تدليلاً على حرية "الناخب"، ومعه البصمة بإبهام اليد اليمنى!
ابصم، أيها المحروم من المواطنة، لكي ترفرف أعلام الديموقراطية فوق ساريات النظام الذي يلغيك كإنسان صاحب رأي وصاحب موقف وصاحب حق شرعي بأن يقرر في شأن حميم يحمي كرامته الشخصية ومعها حياته المهددة دائماً بالحرب الأهلية التي تستولدها الديموقراطية الطوائفية قاتلة الشعوب والأوطان ودولها المرتهنة للخارج.
والنموذج اللبناني برسم التصدير دائماً..
وهكذا ترفرف أعلام الديموقراطية فوق "دولة" واحدة في هذا المشرق تمت "لملمة" "الشعب" فيها من مختلف أقطار العالم وبالشعار الديني لتكون إسرائيل دولة يهود العالم... بالديموقراطية!
المصدر :
طلال سلمان \ السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة