لم يكن عابراً ذلك المشهد الذي وقع في غزة يوم أمس، وأثر تأثيرا واسعا في كل من رآه تقريباً. فانطلاقة حركة فتح، كانت ولا تزال، تعبر لدى الجمهور الفلسطيني عن انطلاقة الكفاح المسلح أكثر مما تعبر عن إنشاء تنظيم. وفتح، ربما ليست كسواها من الفصائل الوطنية الفلسطينية، وربما كان هذا مكمن سحرها، فهي عمدت منذ البداية إلى اعتبار نفسها حركة الشعب الفلسطيني بأسره وليست حركة هذا القطاع أو الطبقة. وبالرغم من أن الكثيرين يأخذون على قيادتها تخبطا هنا وخطأ هناك وخطيئة في موضع ثالث، داخليا أو خارجيا، إلا أن غالبية الفلسطينيين يقرون بأن فتح هي التي قادتهم لدخول عالم السياسة والخروج من دائرة الإيديولوجيا.

وبكلمات أخرى، كانت فتح أكثر من ألبس القضية الفلسطينية برنامجها السياسي في العقود

الخمسة الأخيرة، فهي من قاد الكفاح المسلح في العقود الأولى، ومن قاد التسوية السياسية في العقدين الأخيرين. وبالرغم من أن لفتح ما لها، وعليها ما عليها، إلا أن برنامجها السياسي، برغم احتدام الخلاف حوله وحول أسلوب تحقيقه، ظل البرنامج السياسي الواقعي الفلسطيني الوحيد. وبالرغم من احتدام الصراعات الفلسطينية الداخلية، وخصوصاً على السلطة، بقيت غالبية الفلسطينيين ترى في فتح «أم الصبي».

بعد أقل من شهر على اصطباغ غزة بلون حركة حماس الأخضر، في احتفالها بذكرى انطلاقتها، غطت رايات فتح الصفراء مدينة غزة بشكل لم يسبق له مثيل. ونظراً لتميز حماس بقدرات تنظيمية كبيرة، كان مشهد الحشد الذي تجمع في ساحة الكتيبة الشهر الماضي مؤثراً، لكنه أجبر الكثيرين بعد حشد حركة فتح في مهرجان ذكرى انطلاقتها الثامنة والأربعين على إجراء المقارنة. والواقع أن ما تكسبه فتح بسهولة وعفوية، تجهد حماس في اكتسابه بالجهد والعرق والتضحيات. لكن هذه إرادة الجمهور وسيكولوجيته التي ترفع من تشاء، بمنطق ومن دونه، وتذل من تشاء.

ويبدو من المستحيل فهم ما جرى في غزة يوم أمس في احتفال انطلاقة فتح من دون التقديم السالف، خصوصاً أن المهرجان يأتي بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، ونيل الفلسطينيين اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولتهم. فقد كان الحضور جمهوراً حقيقياً واسعاً لم يجر اجتذابه أو نقله أو حشده بالمعنى المعهود. ورأى كثيرون كيف أن آلافا من الناس، خصوصاً الشباب، باتوا ليلتهم في الساحة التي أقيمت على أرض ساحة السرايا الحكومية التي دمرتها الطائرات الإسرائيلية، والتي أسماها شباب فتح «ساحة ياسر عرفات». كما أن أي قوة جذب مادية ما كانت لتفلح في اجتذاب كل هذه العائلات بأطفالها وشيبها وشبابها من كل مكان في القطاع. فالدافع الحقيقي عند الحضور لا يمكن تفسيره إلا بواحد من ثلاثة: حب لفتح ومكانها، نكاية بحماس وسلطتها، وإيمان بالوحدة الوطنية. ولكنه فوق هذا وذاك تمسك بالهوية الوطنية وتحد للاحتلال الإسرائيلي.

صحيح أن صغارا في حركة فتح بدأوا لعبة الأرقام ليس من باب الاستفادة من الحدث فعلياً وإنما من أجل تجييره في المناكفة سواء داخل حركة فتح نفسها أو مع حركة حماس، ولكن من المؤكد أن غزة، ومثلما كانت دائما، عبرت عن حقيقة أنها تمثل كل فلسطين. وليس صدفة أن الكثير من المظاهر التي أنجحت المهرجان وأعطته معانيه كانت في الأصل صدفة.

والواقع أن حركة فتح في الضفة الغربية لم تنجح في إقامة مهرجان بالحجم والسعة والمعنى الذي أقيم في قطاع غزة. صحيح أن فتح تسيطر في الضفة وأن حماس تسيطر في القطاع، ولكن المزاج الفتحاوي والعام في القطاع مختلف. ففتح في قطاع غزة لها مظلوميتها، المحقة أو الباطلة، وهي لاحظت أن الفرصة سانحة في الظروف الوحدوية التي نشأت بعدما هزمت غزة «عمود السحاب» الإسرائيلي كي تثبت ذاتها. وساعدت في ذلك أخطاء من جانب حركة حماس لا يمكن إغفالها، وأبرزها ذلك النقاش العقيم والطويل حول مكان إجراء المهرجان، إذ رفضت حماس منح فتح حق إقامة مهرجانها في ساحة الكتيبة وقبلت أخيراً على إجرائها في ساحة السرايا.

وأسهم هذا النقاش في تحريض أنصار فتح وجمهور آخر على المشاركة في المهرجان من أجل إيصال رسالة مزدوجة لن تفهمها قيادة فتح ولن تعتبر منها قيادة حماس. ومن الجائز أن تدمير إسرائيل مباني الإدارات الحكومية في «أبو خضرة» أسهم أيضاً في توسيع ساحة السرايا الواقعة في مركز المدينة، والتي قاد الاحتفال فيها إلى شل المواصلات تقريباً في المنطقة جراء إغلاق الشوارع الرئيسية الثلاثة، عمر المختار والوحدة والجلاء.

ولا يمكن تجاهل أن هذه هي المرة الأولى التي يفتتح فيها احتفال انطلاقة فتح بصلاة الجمعة، حيث توفقت فتح بخطيب وحدوي مفوه هو وزير الأوقاف السابق الشيخ يوسف سلامة الذي ألقى خطبة جامعة حدد فيها رسائل الحشد. وتحدث فيها باسم الفلسطينيين ليس فقط في الضفة والقطاع وهمومهم وإنما في الشتات أيضا. وبعيدا عن شعارات فتح «الغلابة»، نطق باسم المطالبين باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أرهق غيابها كاهل الشعب تحت الاحتلال ونفوس الشعب في الشتات. ولكن ما كان مهماً في هذه النقطة أن فتح، برغبة أو صدفة، تحدت حماس على أرضيتها الدينية.

ويسجل في هذا السياق الدور الإيجابي لحكومة حماس في تسهيل إجراء المهرجان الذي لم يكن تنظيمه أبرز إيجابياته. فقد ألغيت فقرات مقررة، خصوصا تلك التي خصصت لإظهار الوحدة الوطنية عبر تخصيص حماس بإلقاء كلمة القوى الوطنية في المهرجان. ويشاع أن خلافات تنظيمية فتحاوية، «دحلان ـ أبو مازن»، وربما اندهاشاً من حجم الحشد قاد في النهاية إلى نوع من الفوضى.

وبحسب الحضور، فإن الحفل جوهريا انتهى عند الحشد وصلاة الجمعة حيث إن كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم تكن مؤثرة، فيما لم تسمع كلمة عضو اللجنة المركزية في فتح نبيل شعث جيداً.

  • فريق ماسة
  • 2013-01-04
  • 11750
  • من الأرشيف

بين غزة و«فتح» أكبر من احتفاء

لم يكن عابراً ذلك المشهد الذي وقع في غزة يوم أمس، وأثر تأثيرا واسعا في كل من رآه تقريباً. فانطلاقة حركة فتح، كانت ولا تزال، تعبر لدى الجمهور الفلسطيني عن انطلاقة الكفاح المسلح أكثر مما تعبر عن إنشاء تنظيم. وفتح، ربما ليست كسواها من الفصائل الوطنية الفلسطينية، وربما كان هذا مكمن سحرها، فهي عمدت منذ البداية إلى اعتبار نفسها حركة الشعب الفلسطيني بأسره وليست حركة هذا القطاع أو الطبقة. وبالرغم من أن الكثيرين يأخذون على قيادتها تخبطا هنا وخطأ هناك وخطيئة في موضع ثالث، داخليا أو خارجيا، إلا أن غالبية الفلسطينيين يقرون بأن فتح هي التي قادتهم لدخول عالم السياسة والخروج من دائرة الإيديولوجيا. وبكلمات أخرى، كانت فتح أكثر من ألبس القضية الفلسطينية برنامجها السياسي في العقود الخمسة الأخيرة، فهي من قاد الكفاح المسلح في العقود الأولى، ومن قاد التسوية السياسية في العقدين الأخيرين. وبالرغم من أن لفتح ما لها، وعليها ما عليها، إلا أن برنامجها السياسي، برغم احتدام الخلاف حوله وحول أسلوب تحقيقه، ظل البرنامج السياسي الواقعي الفلسطيني الوحيد. وبالرغم من احتدام الصراعات الفلسطينية الداخلية، وخصوصاً على السلطة، بقيت غالبية الفلسطينيين ترى في فتح «أم الصبي». بعد أقل من شهر على اصطباغ غزة بلون حركة حماس الأخضر، في احتفالها بذكرى انطلاقتها، غطت رايات فتح الصفراء مدينة غزة بشكل لم يسبق له مثيل. ونظراً لتميز حماس بقدرات تنظيمية كبيرة، كان مشهد الحشد الذي تجمع في ساحة الكتيبة الشهر الماضي مؤثراً، لكنه أجبر الكثيرين بعد حشد حركة فتح في مهرجان ذكرى انطلاقتها الثامنة والأربعين على إجراء المقارنة. والواقع أن ما تكسبه فتح بسهولة وعفوية، تجهد حماس في اكتسابه بالجهد والعرق والتضحيات. لكن هذه إرادة الجمهور وسيكولوجيته التي ترفع من تشاء، بمنطق ومن دونه، وتذل من تشاء. ويبدو من المستحيل فهم ما جرى في غزة يوم أمس في احتفال انطلاقة فتح من دون التقديم السالف، خصوصاً أن المهرجان يأتي بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، ونيل الفلسطينيين اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولتهم. فقد كان الحضور جمهوراً حقيقياً واسعاً لم يجر اجتذابه أو نقله أو حشده بالمعنى المعهود. ورأى كثيرون كيف أن آلافا من الناس، خصوصاً الشباب، باتوا ليلتهم في الساحة التي أقيمت على أرض ساحة السرايا الحكومية التي دمرتها الطائرات الإسرائيلية، والتي أسماها شباب فتح «ساحة ياسر عرفات». كما أن أي قوة جذب مادية ما كانت لتفلح في اجتذاب كل هذه العائلات بأطفالها وشيبها وشبابها من كل مكان في القطاع. فالدافع الحقيقي عند الحضور لا يمكن تفسيره إلا بواحد من ثلاثة: حب لفتح ومكانها، نكاية بحماس وسلطتها، وإيمان بالوحدة الوطنية. ولكنه فوق هذا وذاك تمسك بالهوية الوطنية وتحد للاحتلال الإسرائيلي. صحيح أن صغارا في حركة فتح بدأوا لعبة الأرقام ليس من باب الاستفادة من الحدث فعلياً وإنما من أجل تجييره في المناكفة سواء داخل حركة فتح نفسها أو مع حركة حماس، ولكن من المؤكد أن غزة، ومثلما كانت دائما، عبرت عن حقيقة أنها تمثل كل فلسطين. وليس صدفة أن الكثير من المظاهر التي أنجحت المهرجان وأعطته معانيه كانت في الأصل صدفة. والواقع أن حركة فتح في الضفة الغربية لم تنجح في إقامة مهرجان بالحجم والسعة والمعنى الذي أقيم في قطاع غزة. صحيح أن فتح تسيطر في الضفة وأن حماس تسيطر في القطاع، ولكن المزاج الفتحاوي والعام في القطاع مختلف. ففتح في قطاع غزة لها مظلوميتها، المحقة أو الباطلة، وهي لاحظت أن الفرصة سانحة في الظروف الوحدوية التي نشأت بعدما هزمت غزة «عمود السحاب» الإسرائيلي كي تثبت ذاتها. وساعدت في ذلك أخطاء من جانب حركة حماس لا يمكن إغفالها، وأبرزها ذلك النقاش العقيم والطويل حول مكان إجراء المهرجان، إذ رفضت حماس منح فتح حق إقامة مهرجانها في ساحة الكتيبة وقبلت أخيراً على إجرائها في ساحة السرايا. وأسهم هذا النقاش في تحريض أنصار فتح وجمهور آخر على المشاركة في المهرجان من أجل إيصال رسالة مزدوجة لن تفهمها قيادة فتح ولن تعتبر منها قيادة حماس. ومن الجائز أن تدمير إسرائيل مباني الإدارات الحكومية في «أبو خضرة» أسهم أيضاً في توسيع ساحة السرايا الواقعة في مركز المدينة، والتي قاد الاحتفال فيها إلى شل المواصلات تقريباً في المنطقة جراء إغلاق الشوارع الرئيسية الثلاثة، عمر المختار والوحدة والجلاء. ولا يمكن تجاهل أن هذه هي المرة الأولى التي يفتتح فيها احتفال انطلاقة فتح بصلاة الجمعة، حيث توفقت فتح بخطيب وحدوي مفوه هو وزير الأوقاف السابق الشيخ يوسف سلامة الذي ألقى خطبة جامعة حدد فيها رسائل الحشد. وتحدث فيها باسم الفلسطينيين ليس فقط في الضفة والقطاع وهمومهم وإنما في الشتات أيضا. وبعيدا عن شعارات فتح «الغلابة»، نطق باسم المطالبين باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أرهق غيابها كاهل الشعب تحت الاحتلال ونفوس الشعب في الشتات. ولكن ما كان مهماً في هذه النقطة أن فتح، برغبة أو صدفة، تحدت حماس على أرضيتها الدينية. ويسجل في هذا السياق الدور الإيجابي لحكومة حماس في تسهيل إجراء المهرجان الذي لم يكن تنظيمه أبرز إيجابياته. فقد ألغيت فقرات مقررة، خصوصا تلك التي خصصت لإظهار الوحدة الوطنية عبر تخصيص حماس بإلقاء كلمة القوى الوطنية في المهرجان. ويشاع أن خلافات تنظيمية فتحاوية، «دحلان ـ أبو مازن»، وربما اندهاشاً من حجم الحشد قاد في النهاية إلى نوع من الفوضى. وبحسب الحضور، فإن الحفل جوهريا انتهى عند الحشد وصلاة الجمعة حيث إن كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم تكن مؤثرة، فيما لم تسمع كلمة عضو اللجنة المركزية في فتح نبيل شعث جيداً.

المصدر : حلمي موسى \ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة