تعوّدنا مع نهاية كل عام أن نتجمّع في السهرة الأخيرة، نتبادل التمنيات والقبلات مع انتصاف الليل، ثم نذهب إلى النوم لنحلم أن نستفيق صباحاً فنجد أنفسنا في عالم مختلف، ترفرف على أرجائه رايات الأمان والرخاء، وكأن الفجر الجديد سيطوي كل ما كان يكدر صفو حياتنا حاملاً على أجنحة ضيائه الخير والسعادة والسلام، لنا في هذا الوطن الصغير، وللأهل من حولنا وللناس عموماً في مختلف أرجاء الأرض.

لم يحدث مرة أن تحققت الأحلام... لكننا ما زلنا نتمسك بحقنا في أن نحلم، خصوصاً أن أيامنا صارت مسلسلاً لا يكاد ينتهي من المآسي والكوارث، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وطنياً وقومياً، مما يهدد غدنا بالضياع، بل وينذر بتفكك أوطاننا واندثار دولها التي يبدو وكأن «العمر الافتراضي» لها قد انتهى، وأن كياناتها السياسية موضع مراجعة وإعادة نظر!

نبدأ بلبنان. كنا نفترض أن الحرب الأهلية ـ العربية ـ الدولية التي تفجّرت فيه قبل ثمان وثلاثين سنة قد انتهت إلى غير رجعة، وأن شعبه قد استعاد وحدته وأن دولته قد استعادت موقعها المركزي كحامل لنهوضه بعد التجربة المرة في الانقسام والتقاسم والتقسيم.

لكن الواقع القائم يفرض علينا أن نعترف، صاغرين، أن لبنان قد فقد وحدته، وأن «دولاً» و«دويلات» عدة قد قامت أو أقيمت ـ لا فرق ـ على أرضه الضيقة، وأن مختلف المؤسسات الجامعة قد انهارت فعلاً، أو هي في طريق الانهيار، لتحل محلها أشكال من «الفيدراليات» التي تكرّس الانقسام وتقننه.

إن لبنان الحالي مجموعة من الكانتونات المنفصلة ـ المتصلة، لا هي صارت كيانات مستقلة، ولا هي بقيت محافظات في كيان سياسي واحد له دولته المركزية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية الموحدة والموحِّدة.

لقد توقف رصاص الحرب الأهلية، لكن الشعب فقد وحدته، وصار انقسامه أمراً واقعاً على الأرض، فالجهات الجغرافية كيانات هي أقل من «دول» ولكنها ليست موحدة تماماً في دولة واحدة.

الشمال ثلاث أو أربع جهات، البقاع كذلك، الجبل جبلان مع بعض الملحقات، الجنوب ثلاثة أو أربعة كيانات، وبيروت التي كانت منقسمة بين شرقية وغربية حوّلتها «السوليدير» مع مشتقاتها إلى مجموعة من الكانتونات بعضها «بحري» ومعظمها «جبلي» وخطوط الفصل طائفية ـ مذهبية وإن تجلببت بالشعار السياسي.

ليس «للشعوب» اللبنانية من رابط يجمعها إلا مصرف لبنان المركزي، الذي بات يلخص «الدولة»، خصوصاً أن «الليرة قد باتت عملة ثانوية خارج الاستعمال الفعلي حتى في مصروف البيت..».

... وها هي سوريا يتهددها «مستقبل لبناني»، فقد خسرت «الدولة» سيطرتها على مناطق عديدة، وتحولت المعارضة السياسية إلى أنواع من حروب العصابات تتوزع في جهاتها المتباعدة تحت رايات متباينة، وإن غلب على كثير منها شعارات إسلامية أبرزها يخص «القاعدة»، ومع عجز النظام الذي طالما اتسم بالصلابة الحديدية عن استعادة المناطق التي خرجت عن سيطرته واندفعت إلى قتاله بشراسة غير مسبوقة، فقد تجاوزت التقديرات لمستقبل سوريا «اللبننة» إلى «الصوملة» على حد ما أنذر به الأخضر الإبراهيمي في مؤتمره الصحافي يوم أمس في مقر الجامعة العربية في القاهرة.

لقد عجز النظام الذي يحكم سوريا منذ أكثر من أربعة عقود عن «فهم» ظاهرة الاعتراض التي سرعان ما حوّلها تردده وخوفه من مواجهة الخطأ بالحسم المطلوب إلى معارضة شعبية واسعة، ثم إلى نوع من «الحرب» بالسلاح... وسارع خصوم النظام من «حلفائه» السابقين إلى دعم معارضيه بأسباب المواجهة، مالاً وتسليحاً وحماية سياسية، وهكذا «تشلّعت» سوريا مزقاً، وارتفعت النبرة الطائفية والمذهبية ومعها التطلعات الجهوية إلى نوع من «الاستقلال الذاتي»، فإذا سوريا مهددة في وحدتها الوطنية، فضلاً عن دولتها المركزية، وإذا الشعب الذي كان مضرب المثل في منعة وطنيته يتوزع أشتاتاً مقتتلة تحت شعارات طائفية فجة.

... وها هو العراق الذي تركه حكم الطغيان كياناً مفككاً، ثم جاء الاحتلال الأميركي ليكمل تدمير دولته المركزية، بينما جنوبه محطم بالاضطهاد ونتائج الحرب الطويلة على إيران، يطلب تعويضه عن دهر اضطهاده الطويل، وغربه يعيش أسير عقدة التمييز، وعاصمته مدمرة القلب، ثروته منهوبة، وحكمه الاتحادي يفتقر إلى الحد الأدنى من وحدة التوجه ووحدة القرار، وملايين الأرامل والأيتام لا يجدون من ييسر لهم أمر المعاش.

ها هو العراق مهدد بالتفتيت كيانات طائفية ومذهبية وعرقية ولا أمل، في هذه اللحظة، بدولة مركزية تعيد إلى أرض السواد وحدتها مع أن مصادر قوتها موجودة وإن توزعتها الإدارة الفاسدة مع شيوخ العشائر فضلاً عن ابتزاز الانفصاليين الذين يجدون من يدعمهم في تدمير وحدة العراق وكيانه السياسي.

... وها هي اليمن تنحدر سريعاً نحو مخاطر التفكك، بما يطمئن «جيرانها» من الأخوة الأعداء في الخليج التي تفقد إماراته هويتها القومية وترتاح بحماية الأساطيل الأميركية، بذريعة الخوف من الاجتياح الإيراني، دافعاً إلى طمس الانحراف السياسي بالتهييج المذهبي.

... وليبيا تعود، بعد الثورة التي حماها الأطلسي، إلى ثلاثيتها الجغرافية ـ السياسية: برقة وطرابلس وفزان، و«الوحدة» شعار ولا دولة لها.

... وتونس تستعيد عصبياتها الجهوية وهي ترفض إعادتها ـ سياسياً واجتماعياً ـ قروناً إلى الوراء تحت الشعار الديني، وهي التي كل شعبها من المسلمين بالمذهب المالكي.

أما مصر فإنها ما تزال في المخاض: تقاوم سيطرة «الإسلاميين» على الحكم فيها، وهم الذين سارعوا إلى الالتحاق بالثورة، بعد انهيار نظام الطغيان، وقد ظلوا على تواصلهم معه حتى اللحظة الأخيرة.

وحدها فلسطين تسقط، تدريجياً، من الذاكرة الرسمية العربية.. وإن كانت الوفود تتزاحم على رام الله لتهنئة «الرئيس» على أنه قد حاز عضوية بلا مقعد في المؤسسة البلا قرار: الجمعية العامة للأمم المتحدة، في حين أن شعب فلسطين جميعاً مهدد بالموت جوعاً، في ظل شتاته، سواء في الداخل أو في داخل الداخل فضلاً عن الخارج.

آسف إن كنت قد أثقلت بوقائع هذا الحاضر العربي عشية ميلاد السنة الجديدة. لكنها الحقيقة التي لا بد من مواجهتها، إن كنا نريد الخروج من دهر الطغيان إلى أفق الحرية والغد الأفضل.

لقد حضرت الشعوب أخيراً إلى ساحة تقرير مصيرها.

وسيكون عليها أن تواجه المخلفات الثقيلة لماضي الطغيان، من غير أن تتوقع عوناً من «الخارج». فالخارج يعيش أسعد أيامه مع هذا الواقع العربي الذي أطلق عليه تسمية «الربيع العربي» إيهاماً لنا بأن الربيع قد وصل، في حين أنه ما زال بعيداً ينتظر أن نتقدم نحوه لا أن نقتتل عليه فنقتله ونخسر مع الدول الأوطان والحق في الغد الأفضل.

لنأمل خيراً.. وكل عام وأنتم بخير.

  • فريق ماسة
  • 2012-12-30
  • 15482
  • من الأرشيف

في انتظار «الربيـع» الحقيقي: تفـتـيـت الأوطـان والقضيـة

تعوّدنا مع نهاية كل عام أن نتجمّع في السهرة الأخيرة، نتبادل التمنيات والقبلات مع انتصاف الليل، ثم نذهب إلى النوم لنحلم أن نستفيق صباحاً فنجد أنفسنا في عالم مختلف، ترفرف على أرجائه رايات الأمان والرخاء، وكأن الفجر الجديد سيطوي كل ما كان يكدر صفو حياتنا حاملاً على أجنحة ضيائه الخير والسعادة والسلام، لنا في هذا الوطن الصغير، وللأهل من حولنا وللناس عموماً في مختلف أرجاء الأرض. لم يحدث مرة أن تحققت الأحلام... لكننا ما زلنا نتمسك بحقنا في أن نحلم، خصوصاً أن أيامنا صارت مسلسلاً لا يكاد ينتهي من المآسي والكوارث، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وطنياً وقومياً، مما يهدد غدنا بالضياع، بل وينذر بتفكك أوطاننا واندثار دولها التي يبدو وكأن «العمر الافتراضي» لها قد انتهى، وأن كياناتها السياسية موضع مراجعة وإعادة نظر! نبدأ بلبنان. كنا نفترض أن الحرب الأهلية ـ العربية ـ الدولية التي تفجّرت فيه قبل ثمان وثلاثين سنة قد انتهت إلى غير رجعة، وأن شعبه قد استعاد وحدته وأن دولته قد استعادت موقعها المركزي كحامل لنهوضه بعد التجربة المرة في الانقسام والتقاسم والتقسيم. لكن الواقع القائم يفرض علينا أن نعترف، صاغرين، أن لبنان قد فقد وحدته، وأن «دولاً» و«دويلات» عدة قد قامت أو أقيمت ـ لا فرق ـ على أرضه الضيقة، وأن مختلف المؤسسات الجامعة قد انهارت فعلاً، أو هي في طريق الانهيار، لتحل محلها أشكال من «الفيدراليات» التي تكرّس الانقسام وتقننه. إن لبنان الحالي مجموعة من الكانتونات المنفصلة ـ المتصلة، لا هي صارت كيانات مستقلة، ولا هي بقيت محافظات في كيان سياسي واحد له دولته المركزية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية الموحدة والموحِّدة. لقد توقف رصاص الحرب الأهلية، لكن الشعب فقد وحدته، وصار انقسامه أمراً واقعاً على الأرض، فالجهات الجغرافية كيانات هي أقل من «دول» ولكنها ليست موحدة تماماً في دولة واحدة. الشمال ثلاث أو أربع جهات، البقاع كذلك، الجبل جبلان مع بعض الملحقات، الجنوب ثلاثة أو أربعة كيانات، وبيروت التي كانت منقسمة بين شرقية وغربية حوّلتها «السوليدير» مع مشتقاتها إلى مجموعة من الكانتونات بعضها «بحري» ومعظمها «جبلي» وخطوط الفصل طائفية ـ مذهبية وإن تجلببت بالشعار السياسي. ليس «للشعوب» اللبنانية من رابط يجمعها إلا مصرف لبنان المركزي، الذي بات يلخص «الدولة»، خصوصاً أن «الليرة قد باتت عملة ثانوية خارج الاستعمال الفعلي حتى في مصروف البيت..». ... وها هي سوريا يتهددها «مستقبل لبناني»، فقد خسرت «الدولة» سيطرتها على مناطق عديدة، وتحولت المعارضة السياسية إلى أنواع من حروب العصابات تتوزع في جهاتها المتباعدة تحت رايات متباينة، وإن غلب على كثير منها شعارات إسلامية أبرزها يخص «القاعدة»، ومع عجز النظام الذي طالما اتسم بالصلابة الحديدية عن استعادة المناطق التي خرجت عن سيطرته واندفعت إلى قتاله بشراسة غير مسبوقة، فقد تجاوزت التقديرات لمستقبل سوريا «اللبننة» إلى «الصوملة» على حد ما أنذر به الأخضر الإبراهيمي في مؤتمره الصحافي يوم أمس في مقر الجامعة العربية في القاهرة. لقد عجز النظام الذي يحكم سوريا منذ أكثر من أربعة عقود عن «فهم» ظاهرة الاعتراض التي سرعان ما حوّلها تردده وخوفه من مواجهة الخطأ بالحسم المطلوب إلى معارضة شعبية واسعة، ثم إلى نوع من «الحرب» بالسلاح... وسارع خصوم النظام من «حلفائه» السابقين إلى دعم معارضيه بأسباب المواجهة، مالاً وتسليحاً وحماية سياسية، وهكذا «تشلّعت» سوريا مزقاً، وارتفعت النبرة الطائفية والمذهبية ومعها التطلعات الجهوية إلى نوع من «الاستقلال الذاتي»، فإذا سوريا مهددة في وحدتها الوطنية، فضلاً عن دولتها المركزية، وإذا الشعب الذي كان مضرب المثل في منعة وطنيته يتوزع أشتاتاً مقتتلة تحت شعارات طائفية فجة. ... وها هو العراق الذي تركه حكم الطغيان كياناً مفككاً، ثم جاء الاحتلال الأميركي ليكمل تدمير دولته المركزية، بينما جنوبه محطم بالاضطهاد ونتائج الحرب الطويلة على إيران، يطلب تعويضه عن دهر اضطهاده الطويل، وغربه يعيش أسير عقدة التمييز، وعاصمته مدمرة القلب، ثروته منهوبة، وحكمه الاتحادي يفتقر إلى الحد الأدنى من وحدة التوجه ووحدة القرار، وملايين الأرامل والأيتام لا يجدون من ييسر لهم أمر المعاش. ها هو العراق مهدد بالتفتيت كيانات طائفية ومذهبية وعرقية ولا أمل، في هذه اللحظة، بدولة مركزية تعيد إلى أرض السواد وحدتها مع أن مصادر قوتها موجودة وإن توزعتها الإدارة الفاسدة مع شيوخ العشائر فضلاً عن ابتزاز الانفصاليين الذين يجدون من يدعمهم في تدمير وحدة العراق وكيانه السياسي. ... وها هي اليمن تنحدر سريعاً نحو مخاطر التفكك، بما يطمئن «جيرانها» من الأخوة الأعداء في الخليج التي تفقد إماراته هويتها القومية وترتاح بحماية الأساطيل الأميركية، بذريعة الخوف من الاجتياح الإيراني، دافعاً إلى طمس الانحراف السياسي بالتهييج المذهبي. ... وليبيا تعود، بعد الثورة التي حماها الأطلسي، إلى ثلاثيتها الجغرافية ـ السياسية: برقة وطرابلس وفزان، و«الوحدة» شعار ولا دولة لها. ... وتونس تستعيد عصبياتها الجهوية وهي ترفض إعادتها ـ سياسياً واجتماعياً ـ قروناً إلى الوراء تحت الشعار الديني، وهي التي كل شعبها من المسلمين بالمذهب المالكي. أما مصر فإنها ما تزال في المخاض: تقاوم سيطرة «الإسلاميين» على الحكم فيها، وهم الذين سارعوا إلى الالتحاق بالثورة، بعد انهيار نظام الطغيان، وقد ظلوا على تواصلهم معه حتى اللحظة الأخيرة. وحدها فلسطين تسقط، تدريجياً، من الذاكرة الرسمية العربية.. وإن كانت الوفود تتزاحم على رام الله لتهنئة «الرئيس» على أنه قد حاز عضوية بلا مقعد في المؤسسة البلا قرار: الجمعية العامة للأمم المتحدة، في حين أن شعب فلسطين جميعاً مهدد بالموت جوعاً، في ظل شتاته، سواء في الداخل أو في داخل الداخل فضلاً عن الخارج. آسف إن كنت قد أثقلت بوقائع هذا الحاضر العربي عشية ميلاد السنة الجديدة. لكنها الحقيقة التي لا بد من مواجهتها، إن كنا نريد الخروج من دهر الطغيان إلى أفق الحرية والغد الأفضل. لقد حضرت الشعوب أخيراً إلى ساحة تقرير مصيرها. وسيكون عليها أن تواجه المخلفات الثقيلة لماضي الطغيان، من غير أن تتوقع عوناً من «الخارج». فالخارج يعيش أسعد أيامه مع هذا الواقع العربي الذي أطلق عليه تسمية «الربيع العربي» إيهاماً لنا بأن الربيع قد وصل، في حين أنه ما زال بعيداً ينتظر أن نتقدم نحوه لا أن نقتتل عليه فنقتله ونخسر مع الدول الأوطان والحق في الغد الأفضل. لنأمل خيراً.. وكل عام وأنتم بخير.

المصدر : طلال سلمان\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة