لم تعد سوريا الحدث الأول على صفحات الجرائد. إلا أنها ليست الحدث الأول في واشنطن منذ اليوم الأول لانفجار أزمتها ربما. عين الإدارة في الولاية الثانية عليها من غير أن تمدّ يد التدخّل. بعض مَن في واشنطن يحلو له القول إن الإدارة لا تحبّذ وضع جزمة عسكرية هناك

 

عاد وزير سابق بارز، كثير التردّد على الولايات المتحدة، بانطباعات لمسها من بضعة لقاءات أجراها بمسؤولين في الإدارة، وبآخرين في دوائر غير رسمية وثيقة الصلة بها، وذات تأثير في السياسة الخارجية الأميركية. نتجت انطباعات الوزير السابق ممّا كان قد سمعه من هؤلاء وهم يتحدّثون عن مقاربة واشنطن ــــ والرئيس باراك أوباما في الولاية الثانية وهي لمّا تزل في طور إعادة تحضير نفسها ــــ الأزمة السورية.

 

أبرَزَت الانطباعات تلك الآتي:

 

1 ــ لا تنظر الإدارة إلى ما يجري في سوريا بإهمال، ولا تتعامل معه بتجاهل. إلا أنه لا يحتلّ لديها أولوية تجعلها تقدم على مبادرة سريعة مكلفة بتداعياتها. بالتأكيد هناك اهتمام يحمل المسؤولين الأميركيين على الاعتراف بوجود مشكلة يهدّد تفاقمها استقرار المنطقة، إلا أنه لم يُمسِ عملاً يومياً يصل إلى الرئيس، ويكون على طاولة مكتبه كل صباح. ليس للملف السوري داخل الإدارة فريق عمل خاص، بل موظّفون يتولون التنسيق مع دول المنطقة المؤيدة للمعارضة السورية.

 

ثمّة خطوط عريضة لسياسة تقارب بها واشنطن ما يجري في سوريا، وتعتمد بضعة عناصر:

 

أولها، وجود قاسم مشترك بينها وبين موسكو رغم تنافر المواقف من الرئيس السوري واستمراره في السلطة، هو اتفاق جنيف الذي يمثّل للأميركيين نقطة انطلاق وليس مساراً لحلّ الأزمة.

 

ثانيها، أن الأميركيين لن يوافقوا على إعطاء الروس ما يطلبونه، وهو بقاء الأسد في السلطة، ويتعاملون مع هذا الطلب على أنه شرط غير مقبول. لكنهم يرفضون حكماً دخول أي تفاوض مع إيران على الملف السوري.

 

ثالثها، اعتقاد المسؤولين الأميركيين بأن الطريق التي تسلكها الأزمة السورية لن تنتهي إلى ما تتوخّاه موسكو، وهو لن يصبّ في نهاية المطاف في مصلحتها. لا يخفون أن الحوار مع الروس دائر بلا انقطاع، وأكثر ممّا يُعلن عنه، وأكثر ممّا هو معروف عن اتجاهاته. يتناول من بين ملفات شتى الأزمة السورية. لكن أحداً من الطرفين لا يسعه معرفة مآل هذا الحوار ونتائجه.

 

رابعها، أن ما يُشاع عن رغبة الرئيس في إعادة تحريك عملية السلام في المنطقة، وتعيين الرئيس السابق بيل كلينتون مبعوثاً خاصاً لهذه المهمة، قد لا يكون دقيقاً بالقدر الجاري الحديث عنه. إلا أن تعيين جون كيري، السياسي المخضرم والملمّ بشؤون المنطقة، وزيراً للخارجية من شأنه مساعدته على تحديد خطوات جديدة.

 

خامسها، خلافاً لسلفه الرئيس جورج بوش الذي تسلّح بوجهة نظر ثابتة ومُحكمة بشقّيها العقائدي والجيو ــــ سياسي دفعاه إلى التدخّل العسكري في المنطقة، يحمل أوباما في عقله وجهة نظر براغماتية تذهب به إلى التأقلم بمرونة مع التطورات بلا مواقف مسبقة، وأحياناً جامدة. على نحو كهذا يتعامل مع أحداث سوريا. يهتم بها من دون إقران ذلك بتدخّل مباشر أو غير مباشر. وهو بذلك على طرف نقيض من الطريقة التي اتبعها جورج بوش في مواجهته العراق ورئيسه صدّام حسين. لا يقلّ عداء أوباما للأسد عن ذلك العداء. بيد أنه لا يعوّل على القياس وردّ الفعل والتصرّف نفسه.

 

2 ـــ لا تدخّل أميركياً مباشراً او غير مباشر في أحداث سوريا في ضوء استنتاج الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في العراق، ثم في ليبيا. على أن عدم التدخّل المباشر وغير المباشر يقلّل قدرات الإدارة في خوض التفاصيل وفهمها. مع ذلك تبدو واشنطن مقتنعة الآن، أكثر من أي وقت مضى، بضرورة انتهاء الأزمة السورية بتسوية سياسية، وليس بحسم عسكري ناجز ليس لأي من الطرفين المتقاتلين الإمكانات الكافية والظروف الدولية الملائمة لبلوغه، خصوصاً بعد انقضاء سنة وتسعة أشهر على اندلاع معركة إسقاط نظام الأسد.

 

يحمل هذا الحافز واشنطن على التمسّك باتفاق جنيف رغم معرفتها بتناقض تفسيرها عن تفسير موسكو له، في بعض البنود. إلا أنه سيقود حتماً إلى تسوية تصوغ أمراً واقعاً في هذا البلد، يرتكز على نحو أساسي على المحافظة على الجيش النظامي والمؤسسات الرسمية السورية تفادياً لتكرار ما حدث في العراق بتدمير جيشه، وما حدث في ليبيا بإغراقها في الفوضى وسيطرة الميليشيات وإماراتها عليها على الطريقة الأفغانية. كلاهما نجما عن تدخّل عسكري، ومن تقويض ما كان قائماً من دون توفير ضمانات تحمي استقرار البلاد مع إعادة تكوين السلطة فيها. أعيد بناء السلطة في العراق وليبيا، فإذا بها ضعيفة وهزيلة تفتقر إلى المقدرة على البقاء مدى طويلاً، وتكفل المحافظة على سلطة دائمة ومستقرة.

 

3 ـــ لم يكن قرار الإدارة الأميركية إدراج تنظيم «جبهة النصرة الإسلامية» على لائحة الإرهاب إلا أحد مؤشرات الحدود التي يسع واشنطن المضي فيها مع المعارضة السورية. لم تسرّها أبداً أصداء دفاع أفرقاء المعارضة، بمَن فيهم "اائتلاف"الدوحة، عن تنظيم متشدّد ومتطرّف يرتكب جرائم قتل جماعية. بل ما يبدو واضحاً في تفكير المسؤولين الأميركيين أن تعاطيهم مع المعارضة السورية جزئي، وليس في إمكان واشنطن الادعاء بأنها تسيطر على لعبة المعارضة بشقّيها السياسي والعسكري. في أحوال كثيرة فاجأت حركة المعارضة على الأرض الأميركيين، واكتشفوا أن لا إدارة مُحكمة لديهم للملف السوري، الواقع فعلياً بين يدي إدارة إقليمية ــــ دولية موزّعة على تركيا وقطر والسعودية وفرنسا وبريطانيا.

 

لا يحجب ذلك حماسة فرنسية ــــ بريطانية لتقديم مساعدات عسكرية للمعارضة السورية لا تزال واشنطن تتحفظ عنها، إلا أن باريس ولندن ترغبان في الحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي عليها. وبحسب معلومات متداولة في العاصمة الأميركية، تصرّ فرنسا وبريطانيا على غطاء الاتحاد الأوروبي في اجتماعه المقبل بعد شهرين، للنظر في ما قد أصبحت عليه الأزمة السورية. إذ ذاك قد لا تمانع واشنطن في دعم «الثوّار» بمساعدات عسكرية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.

  • فريق ماسة
  • 2012-12-20
  • 12117
  • من الأرشيف

واشنطن: سورية ليست ملفاً يومياً على مكتب الرئيس

لم تعد سوريا الحدث الأول على صفحات الجرائد. إلا أنها ليست الحدث الأول في واشنطن منذ اليوم الأول لانفجار أزمتها ربما. عين الإدارة في الولاية الثانية عليها من غير أن تمدّ يد التدخّل. بعض مَن في واشنطن يحلو له القول إن الإدارة لا تحبّذ وضع جزمة عسكرية هناك   عاد وزير سابق بارز، كثير التردّد على الولايات المتحدة، بانطباعات لمسها من بضعة لقاءات أجراها بمسؤولين في الإدارة، وبآخرين في دوائر غير رسمية وثيقة الصلة بها، وذات تأثير في السياسة الخارجية الأميركية. نتجت انطباعات الوزير السابق ممّا كان قد سمعه من هؤلاء وهم يتحدّثون عن مقاربة واشنطن ــــ والرئيس باراك أوباما في الولاية الثانية وهي لمّا تزل في طور إعادة تحضير نفسها ــــ الأزمة السورية.   أبرَزَت الانطباعات تلك الآتي:   1 ــ لا تنظر الإدارة إلى ما يجري في سوريا بإهمال، ولا تتعامل معه بتجاهل. إلا أنه لا يحتلّ لديها أولوية تجعلها تقدم على مبادرة سريعة مكلفة بتداعياتها. بالتأكيد هناك اهتمام يحمل المسؤولين الأميركيين على الاعتراف بوجود مشكلة يهدّد تفاقمها استقرار المنطقة، إلا أنه لم يُمسِ عملاً يومياً يصل إلى الرئيس، ويكون على طاولة مكتبه كل صباح. ليس للملف السوري داخل الإدارة فريق عمل خاص، بل موظّفون يتولون التنسيق مع دول المنطقة المؤيدة للمعارضة السورية.   ثمّة خطوط عريضة لسياسة تقارب بها واشنطن ما يجري في سوريا، وتعتمد بضعة عناصر:   أولها، وجود قاسم مشترك بينها وبين موسكو رغم تنافر المواقف من الرئيس السوري واستمراره في السلطة، هو اتفاق جنيف الذي يمثّل للأميركيين نقطة انطلاق وليس مساراً لحلّ الأزمة.   ثانيها، أن الأميركيين لن يوافقوا على إعطاء الروس ما يطلبونه، وهو بقاء الأسد في السلطة، ويتعاملون مع هذا الطلب على أنه شرط غير مقبول. لكنهم يرفضون حكماً دخول أي تفاوض مع إيران على الملف السوري.   ثالثها، اعتقاد المسؤولين الأميركيين بأن الطريق التي تسلكها الأزمة السورية لن تنتهي إلى ما تتوخّاه موسكو، وهو لن يصبّ في نهاية المطاف في مصلحتها. لا يخفون أن الحوار مع الروس دائر بلا انقطاع، وأكثر ممّا يُعلن عنه، وأكثر ممّا هو معروف عن اتجاهاته. يتناول من بين ملفات شتى الأزمة السورية. لكن أحداً من الطرفين لا يسعه معرفة مآل هذا الحوار ونتائجه.   رابعها، أن ما يُشاع عن رغبة الرئيس في إعادة تحريك عملية السلام في المنطقة، وتعيين الرئيس السابق بيل كلينتون مبعوثاً خاصاً لهذه المهمة، قد لا يكون دقيقاً بالقدر الجاري الحديث عنه. إلا أن تعيين جون كيري، السياسي المخضرم والملمّ بشؤون المنطقة، وزيراً للخارجية من شأنه مساعدته على تحديد خطوات جديدة.   خامسها، خلافاً لسلفه الرئيس جورج بوش الذي تسلّح بوجهة نظر ثابتة ومُحكمة بشقّيها العقائدي والجيو ــــ سياسي دفعاه إلى التدخّل العسكري في المنطقة، يحمل أوباما في عقله وجهة نظر براغماتية تذهب به إلى التأقلم بمرونة مع التطورات بلا مواقف مسبقة، وأحياناً جامدة. على نحو كهذا يتعامل مع أحداث سوريا. يهتم بها من دون إقران ذلك بتدخّل مباشر أو غير مباشر. وهو بذلك على طرف نقيض من الطريقة التي اتبعها جورج بوش في مواجهته العراق ورئيسه صدّام حسين. لا يقلّ عداء أوباما للأسد عن ذلك العداء. بيد أنه لا يعوّل على القياس وردّ الفعل والتصرّف نفسه.   2 ـــ لا تدخّل أميركياً مباشراً او غير مباشر في أحداث سوريا في ضوء استنتاج الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في العراق، ثم في ليبيا. على أن عدم التدخّل المباشر وغير المباشر يقلّل قدرات الإدارة في خوض التفاصيل وفهمها. مع ذلك تبدو واشنطن مقتنعة الآن، أكثر من أي وقت مضى، بضرورة انتهاء الأزمة السورية بتسوية سياسية، وليس بحسم عسكري ناجز ليس لأي من الطرفين المتقاتلين الإمكانات الكافية والظروف الدولية الملائمة لبلوغه، خصوصاً بعد انقضاء سنة وتسعة أشهر على اندلاع معركة إسقاط نظام الأسد.   يحمل هذا الحافز واشنطن على التمسّك باتفاق جنيف رغم معرفتها بتناقض تفسيرها عن تفسير موسكو له، في بعض البنود. إلا أنه سيقود حتماً إلى تسوية تصوغ أمراً واقعاً في هذا البلد، يرتكز على نحو أساسي على المحافظة على الجيش النظامي والمؤسسات الرسمية السورية تفادياً لتكرار ما حدث في العراق بتدمير جيشه، وما حدث في ليبيا بإغراقها في الفوضى وسيطرة الميليشيات وإماراتها عليها على الطريقة الأفغانية. كلاهما نجما عن تدخّل عسكري، ومن تقويض ما كان قائماً من دون توفير ضمانات تحمي استقرار البلاد مع إعادة تكوين السلطة فيها. أعيد بناء السلطة في العراق وليبيا، فإذا بها ضعيفة وهزيلة تفتقر إلى المقدرة على البقاء مدى طويلاً، وتكفل المحافظة على سلطة دائمة ومستقرة.   3 ـــ لم يكن قرار الإدارة الأميركية إدراج تنظيم «جبهة النصرة الإسلامية» على لائحة الإرهاب إلا أحد مؤشرات الحدود التي يسع واشنطن المضي فيها مع المعارضة السورية. لم تسرّها أبداً أصداء دفاع أفرقاء المعارضة، بمَن فيهم "اائتلاف"الدوحة، عن تنظيم متشدّد ومتطرّف يرتكب جرائم قتل جماعية. بل ما يبدو واضحاً في تفكير المسؤولين الأميركيين أن تعاطيهم مع المعارضة السورية جزئي، وليس في إمكان واشنطن الادعاء بأنها تسيطر على لعبة المعارضة بشقّيها السياسي والعسكري. في أحوال كثيرة فاجأت حركة المعارضة على الأرض الأميركيين، واكتشفوا أن لا إدارة مُحكمة لديهم للملف السوري، الواقع فعلياً بين يدي إدارة إقليمية ــــ دولية موزّعة على تركيا وقطر والسعودية وفرنسا وبريطانيا.   لا يحجب ذلك حماسة فرنسية ــــ بريطانية لتقديم مساعدات عسكرية للمعارضة السورية لا تزال واشنطن تتحفظ عنها، إلا أن باريس ولندن ترغبان في الحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي عليها. وبحسب معلومات متداولة في العاصمة الأميركية، تصرّ فرنسا وبريطانيا على غطاء الاتحاد الأوروبي في اجتماعه المقبل بعد شهرين، للنظر في ما قد أصبحت عليه الأزمة السورية. إذ ذاك قد لا تمانع واشنطن في دعم «الثوّار» بمساعدات عسكرية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.

المصدر : نقولا ناصيف\ الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة