من الوقائع التاريخية الطريفة، والمنبوشة من ذاكرة واشنطن هذه الأيام على وقع الحدث السوري، رواية حول كيف أن الهاجس الآسيوي هو ما تحكّم بعلاقة أميركا مع نظام البعث مرتين اثنتين، في غضون نصف قرن.
كانت المرة الأولى، كما يكشف الخبراء، في عراق ستينيات القرن العشرين. كانت واشنطن يومها، كما دوماً، تتحرك بين مبدأين، ظاهر وباطن. الظاهر عقيدة ترومان وحق تقرير المصير للشعوب. والباطن مصالحها الاقتصادية وحصار الخصوم الجدد وحتى تطويق الحلفاء القدامى. على ضوء هذين المبدأين تقاطعت فجأة حسابات الأميركيين في بغداد يومها مع طموحات البعثيين. تولت الاستخبارات الأميركية مهمة الاتصال بضباط البعث العراقي والتعاون معهم لسبر نياتهم. فجأة اكتشف الأميركيون في البعثيين قيمة نادرة وفرصة لا تفوّت: أولاً أنهم "بيزنس مان" وفي بلد عائم على النفط. ثانياً أنهم عروبيون وضد عبد الناصر. ثالثاً أنهم يمينيون وضد موسكو. ورابعاً أنهم ضد الأوروبيين، وخصوصاً ضد البريطانيين، ويودون، مثل واشنطن، إخراج لندن من حقول كركوك وشمال العراق. هكذا صار ضباط البعث العراقي "مجاهدي أفغان ريغان" في ذلك الزمان الإيديولوجي الغريب. فتحت لهم أبواب دعم واشنطن المالي واللوجستي الكامل، تأهيلاً لاستلام السلطة. مع ملاحظة لا بد منها، نظراً إلى شبه ثباتها في تاريخ عمل مؤسسة القرار الأميركي، أنه يومها كان الجناح الأمني في واشنطن (الوكالة والبنتاغون ومجلس الأمن القومي) هو الراعي للحليف البعثي المستجد، فيما وزارة الخارجية ظلت مشككة غير متحمسة.
في 9 شباط سنة 1963 وصل البعثيون من ضمن تحالف ثوري إلى الحكم في بغداد. ليبدأ شهر عسل أميركي بعثي لافت، نسته الذاكرة الراهنة أو تناسته. نزل الأميركيون بقضّهم وقضيضهم دعماً للبعثيين وحكمهم الانقلابي الناشئ. وفي غضون أسابيع قليلة أثار حكام بغداد مشاكل عدة، أبرزها مع الأكراد في الشمال، خصوصاً مع حاكمة العراق الدائمة والخفية في ذلك الزمن، شركة آي بي سي، أو شركة النفط العراقية بالاسم، والبريطانية بالفعل والحكم والأمر. فسارعت واشنطن إلى الوقوف بجانب البعثيين ضد الأكراد وضد لندن. حتى أنها تولت مباشرة الضغط على شركات النفط للتعاون مع النظام الجديد، وفرضت على بعضها توقيع عقود تعاون معه، وحتى منحه قروضاً مالية ومساعدات من كل نوع.لم يستمر شهر العسل إلا بضعة أشهر. ففي 18 تشرين الثاني من العام نفسه، وقعت "أحداث الحرس القومي"، حاول البعثيون الاستئثار بالحكم مع صدام حسين وأحمد حسن البكر، فخرجوا منه باكراً، وانتهى الحلم الأميركي ــــ البعثي المستغرب، وهو جنين.
لكن المفارقة المرتبطة بأحداث سوريا اليوم، أنه بعد خمسة أعوام على تلك العلاقة ــــ المفارقة، عاد البعثيون إلى الحكم في بغداد بعد انقلاب 17 تموز 1968. بعد أيام قليلة على العودة المظفّرة، يؤكد الخبراء الأميركيون أن البعثيين بادروا إلى الاتصال مجدداً بأصدقائهم الأميركيين. قالوا لهم: ها قد عدنا. وعدنا وحدنا، بلا الأخوين عارف ولا الشيوعيين ولا أثقال محاولة 1963. وها نحن جاهزون لاستئناف التعاون. غير أن المفاجأة كانت أن أموراً عدة قد تبدّلت في واشنطن. أولها أن العودة البعثية الثانية كانت قد سبقتها نكسة حزيران 67. ذلك الحدث الذي خفّف من الهاجس الناصري لدى الأميركيين، ولم يعد أولوية في رسم سياسات واشنطن في محيطه. ثم كانت العلاقات الأميركية ــــ الأوروبية قد تحسنت، وكانت لندن قد فقدت احتكارها العراقي النفطي. فدخل الفرنسيون والإيطاليون في الجنوب العراقي. أما العامل الأهم فهو أن واشنطن كانت قد بدأت تغرق في مستنقعات حروبها الهندو ــــ صينية. الجناح العسكري الأمني، الذي رعى بعثيي الـ 63، كان بعد خمسة أعوام قد أصبح متفرغاً لإرث ديان بيان فو الثقيل. يروي الخبراء الأميركيون أنه طيلة عامين كاملين، بين 1968 و1970، ظل البعث العراقي يقرع أبواب واشنطن طالباً التعاون، مبدياً كل الاستعداد والنية، من دون نتيجة. عندها، وعندها فقط، ذهب البعثيون شرقاً، وفتحت لهم موسكو أبوابها.
بعد خمسين عاماً، بين 2012 و2013، تتكرر اللحظة الأميركية ــــ البعثية، يقول الخبراء أنفسهم، ولو بشكل مختلف أو حتى مناقض. في المرة الأولى قرع البعثيون باب واشنطن طلباً للدعم، في المرة الثانية يقرع أعداء البعث الباب نفسه طلباً للضرب. المرة الأولى في العراق، الثانية في سوريا. في المرة الأولى كانت واشنطن منهمكة بحروبها الآسيوية، على حدود صين أكبر جيش في العالم، في المرة الثانية هي واشنطن مهجوسة بمصالحها الآسيوية، حول شراكة صين، باتت مصنع كل العالم… عامل واحد مشترك تطابقاً لا تناقضاً في المرتين، أن تكون موسكو هي الرابحة، مدشّنة عصراً شرق أوسطي جديداً، لقيصر جديد.
  • فريق ماسة
  • 2012-11-21
  • 11265
  • من الأرشيف

واشنطن وآسيا وحزب "البعث"… مرتين

من الوقائع التاريخية الطريفة، والمنبوشة من ذاكرة واشنطن هذه الأيام على وقع الحدث السوري، رواية حول كيف أن الهاجس الآسيوي هو ما تحكّم بعلاقة أميركا مع نظام البعث مرتين اثنتين، في غضون نصف قرن. كانت المرة الأولى، كما يكشف الخبراء، في عراق ستينيات القرن العشرين. كانت واشنطن يومها، كما دوماً، تتحرك بين مبدأين، ظاهر وباطن. الظاهر عقيدة ترومان وحق تقرير المصير للشعوب. والباطن مصالحها الاقتصادية وحصار الخصوم الجدد وحتى تطويق الحلفاء القدامى. على ضوء هذين المبدأين تقاطعت فجأة حسابات الأميركيين في بغداد يومها مع طموحات البعثيين. تولت الاستخبارات الأميركية مهمة الاتصال بضباط البعث العراقي والتعاون معهم لسبر نياتهم. فجأة اكتشف الأميركيون في البعثيين قيمة نادرة وفرصة لا تفوّت: أولاً أنهم "بيزنس مان" وفي بلد عائم على النفط. ثانياً أنهم عروبيون وضد عبد الناصر. ثالثاً أنهم يمينيون وضد موسكو. ورابعاً أنهم ضد الأوروبيين، وخصوصاً ضد البريطانيين، ويودون، مثل واشنطن، إخراج لندن من حقول كركوك وشمال العراق. هكذا صار ضباط البعث العراقي "مجاهدي أفغان ريغان" في ذلك الزمان الإيديولوجي الغريب. فتحت لهم أبواب دعم واشنطن المالي واللوجستي الكامل، تأهيلاً لاستلام السلطة. مع ملاحظة لا بد منها، نظراً إلى شبه ثباتها في تاريخ عمل مؤسسة القرار الأميركي، أنه يومها كان الجناح الأمني في واشنطن (الوكالة والبنتاغون ومجلس الأمن القومي) هو الراعي للحليف البعثي المستجد، فيما وزارة الخارجية ظلت مشككة غير متحمسة. في 9 شباط سنة 1963 وصل البعثيون من ضمن تحالف ثوري إلى الحكم في بغداد. ليبدأ شهر عسل أميركي بعثي لافت، نسته الذاكرة الراهنة أو تناسته. نزل الأميركيون بقضّهم وقضيضهم دعماً للبعثيين وحكمهم الانقلابي الناشئ. وفي غضون أسابيع قليلة أثار حكام بغداد مشاكل عدة، أبرزها مع الأكراد في الشمال، خصوصاً مع حاكمة العراق الدائمة والخفية في ذلك الزمن، شركة آي بي سي، أو شركة النفط العراقية بالاسم، والبريطانية بالفعل والحكم والأمر. فسارعت واشنطن إلى الوقوف بجانب البعثيين ضد الأكراد وضد لندن. حتى أنها تولت مباشرة الضغط على شركات النفط للتعاون مع النظام الجديد، وفرضت على بعضها توقيع عقود تعاون معه، وحتى منحه قروضاً مالية ومساعدات من كل نوع.لم يستمر شهر العسل إلا بضعة أشهر. ففي 18 تشرين الثاني من العام نفسه، وقعت "أحداث الحرس القومي"، حاول البعثيون الاستئثار بالحكم مع صدام حسين وأحمد حسن البكر، فخرجوا منه باكراً، وانتهى الحلم الأميركي ــــ البعثي المستغرب، وهو جنين. لكن المفارقة المرتبطة بأحداث سوريا اليوم، أنه بعد خمسة أعوام على تلك العلاقة ــــ المفارقة، عاد البعثيون إلى الحكم في بغداد بعد انقلاب 17 تموز 1968. بعد أيام قليلة على العودة المظفّرة، يؤكد الخبراء الأميركيون أن البعثيين بادروا إلى الاتصال مجدداً بأصدقائهم الأميركيين. قالوا لهم: ها قد عدنا. وعدنا وحدنا، بلا الأخوين عارف ولا الشيوعيين ولا أثقال محاولة 1963. وها نحن جاهزون لاستئناف التعاون. غير أن المفاجأة كانت أن أموراً عدة قد تبدّلت في واشنطن. أولها أن العودة البعثية الثانية كانت قد سبقتها نكسة حزيران 67. ذلك الحدث الذي خفّف من الهاجس الناصري لدى الأميركيين، ولم يعد أولوية في رسم سياسات واشنطن في محيطه. ثم كانت العلاقات الأميركية ــــ الأوروبية قد تحسنت، وكانت لندن قد فقدت احتكارها العراقي النفطي. فدخل الفرنسيون والإيطاليون في الجنوب العراقي. أما العامل الأهم فهو أن واشنطن كانت قد بدأت تغرق في مستنقعات حروبها الهندو ــــ صينية. الجناح العسكري الأمني، الذي رعى بعثيي الـ 63، كان بعد خمسة أعوام قد أصبح متفرغاً لإرث ديان بيان فو الثقيل. يروي الخبراء الأميركيون أنه طيلة عامين كاملين، بين 1968 و1970، ظل البعث العراقي يقرع أبواب واشنطن طالباً التعاون، مبدياً كل الاستعداد والنية، من دون نتيجة. عندها، وعندها فقط، ذهب البعثيون شرقاً، وفتحت لهم موسكو أبوابها. بعد خمسين عاماً، بين 2012 و2013، تتكرر اللحظة الأميركية ــــ البعثية، يقول الخبراء أنفسهم، ولو بشكل مختلف أو حتى مناقض. في المرة الأولى قرع البعثيون باب واشنطن طلباً للدعم، في المرة الثانية يقرع أعداء البعث الباب نفسه طلباً للضرب. المرة الأولى في العراق، الثانية في سوريا. في المرة الأولى كانت واشنطن منهمكة بحروبها الآسيوية، على حدود صين أكبر جيش في العالم، في المرة الثانية هي واشنطن مهجوسة بمصالحها الآسيوية، حول شراكة صين، باتت مصنع كل العالم… عامل واحد مشترك تطابقاً لا تناقضاً في المرتين، أن تكون موسكو هي الرابحة، مدشّنة عصراً شرق أوسطي جديداً، لقيصر جديد.

المصدر : جان عزيز


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة