يحاول الرئيس المصري محمد مرسي بلورة سياسة مستقلة لمصر حيال الأزمة السورية. غير أن الواضح حتى الآن أنه لم يستوعب أبعادها. خلافاً بالطبع للثلاثة الباقين من اطراف الرباعية. إيران تعتبر أن ضرب سورية الحليف الإستراتيجي هو تفكيك لمحور يقف سداً في وجه أمريكا وحليفتها إسرائيل. وهذا بحد ذاته أضحى حاجة استراتيجية لكل من روسيا والصين. السعودية وتركيا ـ الوكيلان عن أمريكا في المنطقة ـ يؤمّلان النفس في (الكعكة السورية)!!!! . ولكن كلٌّ وفق حسابات

تركيا قطعت مع دمشق بطاقة لا عودة، فأنقرة التي تريد سوريا (حديقتها الخلفية)؛ متنفساً لاقتصادها لن تحصل على هذه الميزة مع بقاء أركان الدولة السورية فكيف النظام. فأنْ تتحول سوريا إلى مجرد سوق للمنتجات التركية وحسب يستدعي ضرب الصناعات السورية من معامل، وطرد الرساميل الوطنية وتبديد المهارات البشرية، ولعل هذا يفسر التركيز التركي على إمداد ميليشيات المعارضة بكل الأسباب التي تمكنها من إطالة أمد معركة حلب وبالتالي تدمير المدينة التي تشكل مركز ثقل الصناعات السورية، وبالفعل فقد بلغت نسبة المعامل المغلقة فيها حتى الآن 75% بحسب ما أفاد به فارس الشهابي رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، وأن "حوالي 25% من صناعيي حلب قد غادروا البلاد" بحثاً عن استثمارات لرساميلهم. أما على صعيد الزراعة فملف المياه مع الأتراك حافل تاريخيا، ولا شك بأنهم معنيون الآن وفي المستقبل في تقنين حصة سوريا والعراق لضرب إمكانيات التوسع في الزراعة، وبالتالي ارتهان الأمن الغذائي السوري للإرادة التركية؛ كذلك العراقي.

هذا الأفق التركي والشهية المفتوحة ـ المدعوم قطرياً! ـ لايروقان السعوديين الذين يتطلعون لاستعادة نفوذهم التاريخي في سوريا الذي يعود إلى بدايات استقلالها، كان ذلك من خلال العديد من (أصدقائها) من الساسة، وتجار دمشق ـ الرقم المهم في المعادلة السورية ـ مع جمهور من رجال الدين الذين كان للسعودية مونتها عليهم بما تقدمه لهم من (أعطيات). هذا النفوذ الذي بلغ حد فصل عرى الوحدة المصرية ـ السورية بقيادة جمال عبد الناصر. ثم خلق المتاعب في وجه البعث عبر الأخوان المسلمين حيث بلغت ذروتها عام 1964 فيما يسمى أحداث حماة والجامع الأموي في دمشق. من الصحيح أن الرئيس حافظ الأسد استطاع فيما بعد قوننة هذا النفوذ التقليدي والحد من تأثيره سورياً، عوّضها عن ذلك بدور في لبنان حيث أطلق لرجالها من الساسة اللبنانين إدارة الاقتصاد اللبناني بالتمام، والدولة إلى حد غير قليل الأمر الذي استمر قرابة 15 سنة.

وها هي السعودية الآن تستثمر حضورها اللبناني عبر حلفائها من جماعة 14 آذار لتستعيد حضورها القديم في سوريا. لذلك لا ترغب السعودية ضمنا في أن تستحوذ تركيا على نصيب كبير في مسألة الحل والربط، فضلاً عن حساسيتها البالغة من عودة مصر كسابق عهدها للعب دور إقليمي. فكيف إذا غدا الأمر متصلاً بسورية؛ والعديد من أطراف أزمتها نظاماً بالدرجة الأولى وبعضٌ من المعارضة أميل لدور مصري يساهم أو يشارك في أي حل مستقبلي. هذا وذاك كانا وراء عدم حضورها لاجتماع الرباعية في القاهرة الذي دعا إليه الرئيس المصري محمد مرسي. في محاولة لقطع الطريق على أي منحى يشرك هذين البلدين، ومصر بالمقام الأول.

كان نوعا من ذرّ الرماد في العيون ما تناقلته أوساط صحفية قريبة جدا من الرياض من أن هذه الأخيرة تعمدت عدم المشاركة في الرباعية "لأنه سيعطي لاحقا النظام في طهران صكًا يخولها أن تكون طرفًا في كل القرارات التي قد تتخذ إقليميا حيال سوريا".. فالسعودية باتت تدرك جيداً بأن إسقاط النظام في سوريا أصبح من الصعوبة بمكان فلا الجيش ولا الأمن انفضا من حوله. ولا حلفاء سوريا يناورون في دعمهم لها بل هم جادون بوصفها خطاً أحمر. لذلك فهي حيال هذا الستاتيكو تدرك أهمية إيران في أية "تسوية" مستقبلاً. أخذةً بعين الاعتبار أمرين اثنين: الأول؛ أن التدخل الأمريكي ـ الأطلسي في سوريا أصبح أمراً مستبعداً جداً. والثاني؛ أن لا حل قديبصر الواقع من غير الرئيس الأسد. لكن وحيث إن التسوية الكبرى لم تأتِ بعد فإن السعودية حريصة على استمرار الوضع السوري معلقاً بالمزيد من الضغط على النظام بحيث إذا جاء الوقت المناسب أمكنها أن تحجز لنفسها مكانا على أمل استنساخ (طائف) جديد لسوريا على غرار ما كان بشأن لبنان، وبنفس الكيفية!!.. فالسعودية كانت قد ألمحت في السابق بأنها لا تمانع من أن يكون الرئيس الأسد جزءًا من التسوية بشرط أن يترافق ذلك مع تعديلات دستورية تنقل الكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء الذي سيكون بحسب التصورات السعودية طبعة من الحالة الحريرية، أو ربما أحد استطالاتها!!!.

بعد ذلك يبقى السؤال الجوهري هل فيما سبق قسط من الواقعية قابل للتنفيذ أم هي أضغاث أحلام؟!!.. والجواب؛ ان ما انطبق على لبنان من تقسيمات طائفية اعتاد عليها هو أمر يظل غريبا على ثقافة الشعب السوري. كما وإننا نتذكر بأن الحل اللبناني جاء على أنقاض دولة عام 1943 وبعد انفراط عقد الجيش الذي شكل جوهر الأزمة. هذا ما كانوا يتمنونه لسوريا وقد خاب أملهم!!. كما وإن الجميع يدرك بأن أية تسوية تطرح مثل هذا سيستتبعها ملاحق وملاحق تكبل سوريا وتلغي بالتالي خياراتها الاستراتيجية. وهذا أيضا غير قبول عند حليفيها الأساسين: موسكو، وطهران.

بالتأكيد ما زال الوقت مبكراً للحديث عن الحلول فالمعركة في أوجها وهي مفتوحة على كل الاحتمالات منها حرب شرق أوسطية شاملة!!. غير أن هذه الجردة يفترض أن يضعها الرئيس مرسي أمامه فيما هو يبحث عن دور مصري، وهنا تجدر الملاحظة أن واشنطن وهي توزع الأدوار أعطت نصيباً لحليفها التركي، وللسعودي، وللقطري!، غير أنها بالتأكيد لا تقبل ولا ترتاح لدور مصري. وهكذا فإن كل الأطراف تملك أوراقها، ولها تصوراتها ربطا بمصلحتها إلا مصر التي تتعاطى بالأزمة السورية بغير حسٍ استراتيجي. فسقوط سوريا بيد تركيا، أو في حضن السعودية سيهمش الدور المصري في المنطقة، وسيشكل على المدى البعيد خطراً على الأمن القومي المصري الذي مجاله الحيوي يبدأ من جبال طوروس شمال سوريا، وحتى منابع النيل جنوباً.

هذه جردة نسوقها بالعقل البارد وبمعزلٍ عن الروابط التاريخية التي جمعت مصر وسوريا، وعن أوجه الشبه بينهما، وعن مكانة مصر في وجدان العديد جداً من السوريين.

  • فريق ماسة
  • 2012-09-27
  • 9919
  • من الأرشيف

مصر على عتبة الدور : غياب الرؤية حيال الأزمة السورية

  يحاول الرئيس المصري محمد مرسي بلورة سياسة مستقلة لمصر حيال الأزمة السورية. غير أن الواضح حتى الآن أنه لم يستوعب أبعادها. خلافاً بالطبع للثلاثة الباقين من اطراف الرباعية. إيران تعتبر أن ضرب سورية الحليف الإستراتيجي هو تفكيك لمحور يقف سداً في وجه أمريكا وحليفتها إسرائيل. وهذا بحد ذاته أضحى حاجة استراتيجية لكل من روسيا والصين. السعودية وتركيا ـ الوكيلان عن أمريكا في المنطقة ـ يؤمّلان النفس في (الكعكة السورية)!!!! . ولكن كلٌّ وفق حسابات تركيا قطعت مع دمشق بطاقة لا عودة، فأنقرة التي تريد سوريا (حديقتها الخلفية)؛ متنفساً لاقتصادها لن تحصل على هذه الميزة مع بقاء أركان الدولة السورية فكيف النظام. فأنْ تتحول سوريا إلى مجرد سوق للمنتجات التركية وحسب يستدعي ضرب الصناعات السورية من معامل، وطرد الرساميل الوطنية وتبديد المهارات البشرية، ولعل هذا يفسر التركيز التركي على إمداد ميليشيات المعارضة بكل الأسباب التي تمكنها من إطالة أمد معركة حلب وبالتالي تدمير المدينة التي تشكل مركز ثقل الصناعات السورية، وبالفعل فقد بلغت نسبة المعامل المغلقة فيها حتى الآن 75% بحسب ما أفاد به فارس الشهابي رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، وأن "حوالي 25% من صناعيي حلب قد غادروا البلاد" بحثاً عن استثمارات لرساميلهم. أما على صعيد الزراعة فملف المياه مع الأتراك حافل تاريخيا، ولا شك بأنهم معنيون الآن وفي المستقبل في تقنين حصة سوريا والعراق لضرب إمكانيات التوسع في الزراعة، وبالتالي ارتهان الأمن الغذائي السوري للإرادة التركية؛ كذلك العراقي. هذا الأفق التركي والشهية المفتوحة ـ المدعوم قطرياً! ـ لايروقان السعوديين الذين يتطلعون لاستعادة نفوذهم التاريخي في سوريا الذي يعود إلى بدايات استقلالها، كان ذلك من خلال العديد من (أصدقائها) من الساسة، وتجار دمشق ـ الرقم المهم في المعادلة السورية ـ مع جمهور من رجال الدين الذين كان للسعودية مونتها عليهم بما تقدمه لهم من (أعطيات). هذا النفوذ الذي بلغ حد فصل عرى الوحدة المصرية ـ السورية بقيادة جمال عبد الناصر. ثم خلق المتاعب في وجه البعث عبر الأخوان المسلمين حيث بلغت ذروتها عام 1964 فيما يسمى أحداث حماة والجامع الأموي في دمشق. من الصحيح أن الرئيس حافظ الأسد استطاع فيما بعد قوننة هذا النفوذ التقليدي والحد من تأثيره سورياً، عوّضها عن ذلك بدور في لبنان حيث أطلق لرجالها من الساسة اللبنانين إدارة الاقتصاد اللبناني بالتمام، والدولة إلى حد غير قليل الأمر الذي استمر قرابة 15 سنة. وها هي السعودية الآن تستثمر حضورها اللبناني عبر حلفائها من جماعة 14 آذار لتستعيد حضورها القديم في سوريا. لذلك لا ترغب السعودية ضمنا في أن تستحوذ تركيا على نصيب كبير في مسألة الحل والربط، فضلاً عن حساسيتها البالغة من عودة مصر كسابق عهدها للعب دور إقليمي. فكيف إذا غدا الأمر متصلاً بسورية؛ والعديد من أطراف أزمتها نظاماً بالدرجة الأولى وبعضٌ من المعارضة أميل لدور مصري يساهم أو يشارك في أي حل مستقبلي. هذا وذاك كانا وراء عدم حضورها لاجتماع الرباعية في القاهرة الذي دعا إليه الرئيس المصري محمد مرسي. في محاولة لقطع الطريق على أي منحى يشرك هذين البلدين، ومصر بالمقام الأول. كان نوعا من ذرّ الرماد في العيون ما تناقلته أوساط صحفية قريبة جدا من الرياض من أن هذه الأخيرة تعمدت عدم المشاركة في الرباعية "لأنه سيعطي لاحقا النظام في طهران صكًا يخولها أن تكون طرفًا في كل القرارات التي قد تتخذ إقليميا حيال سوريا".. فالسعودية باتت تدرك جيداً بأن إسقاط النظام في سوريا أصبح من الصعوبة بمكان فلا الجيش ولا الأمن انفضا من حوله. ولا حلفاء سوريا يناورون في دعمهم لها بل هم جادون بوصفها خطاً أحمر. لذلك فهي حيال هذا الستاتيكو تدرك أهمية إيران في أية "تسوية" مستقبلاً. أخذةً بعين الاعتبار أمرين اثنين: الأول؛ أن التدخل الأمريكي ـ الأطلسي في سوريا أصبح أمراً مستبعداً جداً. والثاني؛ أن لا حل قديبصر الواقع من غير الرئيس الأسد. لكن وحيث إن التسوية الكبرى لم تأتِ بعد فإن السعودية حريصة على استمرار الوضع السوري معلقاً بالمزيد من الضغط على النظام بحيث إذا جاء الوقت المناسب أمكنها أن تحجز لنفسها مكانا على أمل استنساخ (طائف) جديد لسوريا على غرار ما كان بشأن لبنان، وبنفس الكيفية!!.. فالسعودية كانت قد ألمحت في السابق بأنها لا تمانع من أن يكون الرئيس الأسد جزءًا من التسوية بشرط أن يترافق ذلك مع تعديلات دستورية تنقل الكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء الذي سيكون بحسب التصورات السعودية طبعة من الحالة الحريرية، أو ربما أحد استطالاتها!!!. بعد ذلك يبقى السؤال الجوهري هل فيما سبق قسط من الواقعية قابل للتنفيذ أم هي أضغاث أحلام؟!!.. والجواب؛ ان ما انطبق على لبنان من تقسيمات طائفية اعتاد عليها هو أمر يظل غريبا على ثقافة الشعب السوري. كما وإننا نتذكر بأن الحل اللبناني جاء على أنقاض دولة عام 1943 وبعد انفراط عقد الجيش الذي شكل جوهر الأزمة. هذا ما كانوا يتمنونه لسوريا وقد خاب أملهم!!. كما وإن الجميع يدرك بأن أية تسوية تطرح مثل هذا سيستتبعها ملاحق وملاحق تكبل سوريا وتلغي بالتالي خياراتها الاستراتيجية. وهذا أيضا غير قبول عند حليفيها الأساسين: موسكو، وطهران. بالتأكيد ما زال الوقت مبكراً للحديث عن الحلول فالمعركة في أوجها وهي مفتوحة على كل الاحتمالات منها حرب شرق أوسطية شاملة!!. غير أن هذه الجردة يفترض أن يضعها الرئيس مرسي أمامه فيما هو يبحث عن دور مصري، وهنا تجدر الملاحظة أن واشنطن وهي توزع الأدوار أعطت نصيباً لحليفها التركي، وللسعودي، وللقطري!، غير أنها بالتأكيد لا تقبل ولا ترتاح لدور مصري. وهكذا فإن كل الأطراف تملك أوراقها، ولها تصوراتها ربطا بمصلحتها إلا مصر التي تتعاطى بالأزمة السورية بغير حسٍ استراتيجي. فسقوط سوريا بيد تركيا، أو في حضن السعودية سيهمش الدور المصري في المنطقة، وسيشكل على المدى البعيد خطراً على الأمن القومي المصري الذي مجاله الحيوي يبدأ من جبال طوروس شمال سوريا، وحتى منابع النيل جنوباً. هذه جردة نسوقها بالعقل البارد وبمعزلٍ عن الروابط التاريخية التي جمعت مصر وسوريا، وعن أوجه الشبه بينهما، وعن مكانة مصر في وجدان العديد جداً من السوريين.

المصدر : لـؤي توفيق حسـن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة