دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
إن تأريخ الثلاثين من أيلول عام 2012، بات قريباً. فرأيت من واجبي، بوصفي كاهناً كاثوليكياً، أن أذكّركم “بإعلان التوبة” الشهير، الذي أقدمتم عليه على وجه الدنيا، في مثل هذا اليوم من عام 1997. وإن في ذلك ما يتيح لي أن أطرح عليكم بعض الأسئلة.
في مثل هذا اليوم، قرأ أسقف فرنسي باسمكم، في بلدة “درانسي” ( Drancy)، بالقرب من باريس، بياناً خطيراً تحت عنوان “إعلان توبة كنيسة فرنسا”. إن هذا البيان يمثّل في نظري، وفي نظر الكثيرين، يقظة روحية جبارة، إزاء تخاذل الأساقفة أسلافكم، في مواجهة الإجراءات اللاسامية الظالمة، التي اتخذت بحق يهود فرنسا، إبان الاحتلال النازي.
ما أجمل أن تستيقظ كنيسة فرنسا برمتها من سبات! إلا أن الأجمل من ذلك، أن تسكنها شجاعة تجعلها تقر بأن سباتها هذا لم يكن سوى خطيئة فادحة. وهذا ما كنتم حقاً، وما فعلتم، على وجه الدنيا!
ولكن ما هو أجمل من هذا وذاك، أن تُقدِم هذه الكنيسة بالذات، على ما هو أبعد وأعمق، فتعلن عن تصميمها على الاستمرار في اليقظة، كي تتحمل جميع مسؤولياتها! وعندها تتحول بدورها إلى بوصلة حيّة، قادرة على تذكير الجميع، في فرنسا وخارجها، بأن الحياة والحرية والكرامة، هي من حق كل إنسان على وجه الأرض، وأن من واجب كل قوي أن يوفرها لكلّ ضعيف! أو ليست هذه، في جوهرها، شريعة يسوع؟
وهنا، دعوني أذكّركم وأذكّر قرائي بما جاء في مقدمة بيانكم هذا، ومتنه وختامه، إذ قد يكون كل ذلك بات مغيّباً أو منسياً. وإني لأنقله بحرفيته:
«إن مشروع إبادة الشعب اليهودي على يد النازيين، هو حادث جسيم في تاريخ القرن العشرين. وهو يطرح على الضمير أسئلة مرعبة، لا يجوز لأي إنسان أن يلغيها…
إن كنيسة فرنسا تطرح السؤال على ذاتها، وهي مدعوة إليه، مثلها مثل سائر الكنائس، بصوت البابا يوحنا بولس الثاني:
“يجدر بالكنيسة أن تجتاز هذا المعبر، وهي تدرك تماماً ما الذي عاشته إنّ الإقرار بسقطات الأمس هو فعل نزاهةٍ وشجاعةٍ، يساعدنا على تدعيم إيماننا، ويجعلنا نتبيّن الإغراءات والمصاعب الراهنة، ويُعدّنا لمواجهتها… لا بد من الإقرار بأن أساقفة فرنسا لم يتخذوا موقفاً مُعلَناً، فأيّدوا بصمتهم، هذه الخروق الصارخة لحقوق الإنسان، وتركوا الطريق مفتوحاً أمام هذا المسار القاتل…
“نحن لا ندين الضمائر والأشخاص في تلك الفترة. ولسنا بمسؤولين عمّا حدث بالأمس. ولكن يجب علينا أن نُقَوّم السلوكات والأفعال. إنها كنيستنا، ونحن مضطرون لأن نلاحظ اليوم، بصورة موضوعية، أن هناك مصالح كنسية، فُهِمت على نحو بالغ التضييق، فتغلّبت على أوامر الضمير، ويجب علينا أن نتساءل لماذا؟
“اليوم نعترف بأن هذا الصمت كان خطيئة. ونعترف أيضاً بأن الكنيسة في فرنسا خانت عندها رسالتها في تهذيب الضمائر، وأنها بذلك تتحمّل مع الشعب المسيحي، مسؤولية عدم تقديم المساعدة منذ اللحظات الأولى، عندما كان الاحتجاج والحماية ممكنين وضروريين.
“إن ذلك واقع نعترف به اليوم. فإن تخاذل كنيسة فرنسا هذا، ومسؤوليتها التاريخية حيال الشعب اليهودي، إنما هما جزء من تاريخها. نعترف بهذه الخطيئة، ونسأل الغفران من الله، ونطلب من الشعب اليهودي، أن يستمع لكلمة التوبة هذه. إنّ فِعلنا هذا يدعونا لمزيد من اليقظة في صالح الإنسان، في الوقت الحاضر، ومن أجل المستقبل!»
أيها السادة الأساقفة،
لا يسع كل من يقرأ هذا الكلام الجريء والنبيل، إلا أن يتوقع من أصحابه ومن خلفائهم، يقظة روحية وإنسانية، من شأنها أن تضع كنيسة فرنسا في مسار جديد، يُملي عليها مواقف إنجيلية صادقة حقاً، وإذن نزيهة وثابتة. أوليس هذا بالذات ما انتهيتم إليه في بيانكم التاريخي هذا؟
فما الذي جرى في واقع الحال؟ لنطرح السؤال بكل صدق.
ترى، هل حقّقت كنيسة فرنسا، منذ ذلك البيان حتى الآن، يقظة روحية واحدة، غير تلك التي حقّقتها في ما يتعلق باليهود؟
هل هناك من يجهل أن أحداثاً مأساوية، بل مفجعة، عصفت وتعصف بالعالم كله، ولاسيما بالعالمين العربي والإسلامي، وكلها يقودها زعماء الغرب، وعلى رأسهم بالطبع زعماء الولايات المتحدة الأميركية. فأين كنيسة فرنسا منها؟
قد تعيبون عليّ عمومية مثل هذا الكلام. فدعوني إذن أفصّله في ستة أسئلة، وجيزة ورتيبة، من شأنها أن تقرّبكم وتقرّب قرائي من الواقع الحي الذي أريد أن أثيره.
السؤال الأول يتعلق بفلسطين:
أيّ يقظة روحية وإنسانية حقّقت كنيسة فرنسا، إزاء ما يحدث في فلسطين، منذ أكثر من سبعين عاماً حتى اليوم؟ أتراها لا تدرك حتى الآن أن ما يحدث هناك كل يوم، إنما هو محرقة حقيقية ومروعة، يُنزِلها اليهود بفلسطين وبشعبها العربي الأصيل، بمسلميه ومسيحييه؟
السؤال الثاني يتعلق بالعراق:
أيّ يقظة روحية وإنسانية حقّقت كنيسة فرنسا، إزاء ما حدث ويحدث حتى اليوم في العراق؟ أولاً إبّان الحرب الأولى عليه عام 1991، ثانياً خلال الحصار الفظيع الذي فُرِض عليه طوال ثلاثة عشر عاماً، والذي قضى، وفق التقارير الأميركية الرسمية بالذات، على (1.500.000) طفل، ما عدا النساء والرجال والشيوخ الخ…، ثالثاً إبّان الاجتياح الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وكل ما سبّبه من دمار ومجازر ونهب وتهجير وفتنٍ، ونفيٍ داخل العراق وخارجه، لسكانه الأصليين، من مسلمين ومسيحيين ويزيديين على السواء؟
السؤال الثالث يتعلق بلبنان:
أيّ يقظة روحية وإنسانية حقّقت كنيسة فرنسا، إزاء ما جرى في لبنان، “لبنان الغالي على فرنسا!”… إبّان العدوان الإسرائيلي عليه عام 2006، حصراً؟
السؤال الرابع يتعلق بقطاع غزة:
أيّ يقظة روحية وإنسانية، حقّقت كنيسة فرنسا، أولاً طوال الحصار اللاإنساني الذي تفرضه إسرائيل عليه منذ خمس سنوات حتى اللحظة، ثانياً إبّان الحرب الفظيعة التي شنّتها عليه في أواخر عام 2008، ومطلع عام 2009؟
السؤال الخامس يتعلق بليبيا:
أيّ يقظة روحية وإنسانية حقّقت كنيسة فرنسا، إزاء تدمير ليبيا الحديث، بمبادرة فرنسية، معروفة ومخزية، وبمشاركة كاملة من الحلف الأطلسي؟ وأنتم تعرفون تماماً نتائجها! على رأسها نهب الغرب لِما فيها من نفط وغاز وسواهما، ثم قتل ما لا يقل عن مئة وخمسين ألف إنسان، واقتتال قبلي متواصل… ناهيكم عن شتى أشكال البؤس والفقر والعنف!
السؤال السادس يتعلق بسورية:
أيّ يقظة روحية وإنسانية، حقّقت كنيسة فرنسا، إزاء تصميم الغرب الجهنمي، منذ سنة ونصف السنة، بتوجيه صريح من الصهيونية العالمية، من أجل أهداف كثيرة، في طليعتها تدمير سورية تدميراً كاملاً، بقصد ضمان البقاء لإسرائيل؟ وكل ذلك – كما في ليبيا! – بذريعة حماية السكان المدنيين! وإذ بالغرب كله يتحالف مع بعض الدول المجاورة لسورية، ليرسل إليها آلافاً من المرتزقة السلفيين، الوافدين من شتى أرجاء الأرض، بعد أن أشرف على تدريبهم وتسليحهم وتنظيمهم، خبراء عسكريون من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا، فيما العربية السعودية وقطر، “الديمقراطيتان جداً جداً”، تمدّانهم بأموالهما الطائلة! وماذا عساني أضيف بشأن انحياز الهيئات الدولية السافر، مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، فضلاً عن طوفان الإعلام الغربي والعربي، الكاذب والدموي!؟
أصحاب السيادة،
قد أبدو لكم مُمِلاًّ ومزعجاً. ولكن ثمة حقائق لا يجوز التغاضي عنها.
هل يسعكم أن تفصحوا عمّا كان يبرّر يقظتكم الروحية والإنسانية بشأن اليهود، وعمّا يبرّر صمتكم القاتل بشأن جميع القضايا التي أثَرْت؟
هل تراكم تريدون إقناع الناس بأنكم لا تعرفون حقيقة ما يجري، في حين أن كتّاباً يهوداً من عندكم، ضجّوا بالحقيقة وأعلنوها في كتب مشهورة، مثل “دومينيك فيدال” (D. VIDAL) في كتابه: “خطيئة إسرائيل الأصلية” (عام 1998)، و”شارل أندرلان” (Charles ENDERLIN) في كتابه: “بالدم والنار” (عام 2008)؟
أم تراكم تريدون إقناع العالم بأن عقدة الذنب التي تحملونها حيال اليهود، منذ قرون وقرون، قادرة وحدها على تبرير صمتكم هذا الذي يستحيل تبريره؟
أفلا تدركون، إزاء تطور الأحداث، المتسارعة والمفجعة، أن خضوعكم الأعمى والدائم لعقدة الذنب المَرَضية هذه، يدفعكم إلى خيانة ذواتكم، ومَن تَدّعون تمثيله على الأرض، يسوع المسيح، كما يدفعكم إلى إلحاق أذى لا يُمحى باليهود أنفسهم؟ فأنتم، بذلك، شئتم أم أبيتم، تساهمون في تحويل اليهود عامة، ويهود إسرائيل خاصة، إلى قتلة ولصوص! أجل، إلى قتلة ولصوص، قادرين حتى على تلقين الدروس للنازيين أنفسهم! وهذا بالذات ما عابه عليهم، بعض من أبرز الشخصيات الإسرائيلية، مثل “إسرائيل شاحاق” (1933-2001)، وهو الرئيس المؤسس للجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في إسرائيل، والعالِم الفيزيائي “أشعياهو لايبوفيتز” (1903-1994)، ومنذ فترة وجيزة، “افراهام بورغ” الذي كان رئيس الوكالة اليهودية الشهيرة، ورئيس الكنيست الإسرائيلي ما بين عام 1999 وعام 2003، وقد اختار أن يمضي بقية عمره في فرنسا، بعد أن نشر فيها عام 2007، كتاباً مرعباً بصدقه، عنوانه: “الانتصار على هتلر”!
أصحاب السيادة،
دعوني، في الختام، أهمس في آذانكم حقيقتين تبدوان لي رئيستين، الأولى تتعلق بنا نحن مسيحيي العالم العربي، والثانية تتعلق بكم، بوصفكم أساقفة فرنسا.
فيما يتعلق بنا، نحن المسيحيين العرب، عليكم أن تدركوا جيداً أن التعايش الإسلامي- المسيحي، الذي عرفناه وعشناه منذ البدء حتى اليوم، في سورية ومصر وإسبانيا، نؤثره بمراحل على المجتمع الغربي المنحل، على كل ما فيه من مغريات وتطور وعلم، لأنه يقوم على “قيم”، هي القوة والمال والشهوة والوفرة، وهي قيم، في نتيجة المطاف، قاتلة!
وقد بات من المُلحّ جداً لكم أن تدركوا، أنتم أساقفة السيد المسيح في فرنسا، أن هذا التعايش الإسلامي المسيحي، الذي يسعى زعماؤكم من زمان بعيد، وبشتى الوسائل، إلى تدميره، في العالم العربي عامة، وفي سورية خاصة، لاسيما في الوقت الراهن، إنما هو المَخرج الوحيد لخلاص البشرية من هذه المواجهة الجهنمية، التي يُصرُّ زعماؤكم على زجّ العالم كله فيها، والتي لن يعتّم الغرب نفسه أن يتذوّق “مُتعها”!
ليتكم إذن تحاولون تبليغ جميع من لهم قدرة على سماعكم، لاسيما سفراءكم المحترمين في البلدان العربية والإسلامية، أنه من الأسلم والأشرف لهم أن يقولوا بالفم الملآن كل ما شاهدوا وعاشوا فيها، على حقيقته، وعلى ما لدينا من شتى أشكال النقص، دون كذب أو تزييف!
أما بشأن ما يخصكم، فلا يسعني إلا أن أذكّركم بكلمة رائعة وحاسمة، كتبها منذ ألفي عام، ابن دمشق الروحي، القديس بولس، يوم قال عن الكنيسة “إنها عمود الحق”!
فهل أنتم، في عالم ضاعت فيه الحقوق والشعوب، تحت أقدام حكام الغرب، هل أنتم حقاً “عمود الحق”؟
وإن لم تكونوا “عمود الحق” هذا، فما عساكم، بعد اليوم تكونون، وما عساكم تفعلون في هذا العالم؟
أرجو ألا تتركوا لسماحة الإمام السيد علي الخامنئي وحده، شرف التصدي للظلم العالمي الراهن والقادم، كما فعل في طهران، منذ أيام قليلة، إبّان مؤتمر عدم الانحياز.
فهلّا أصغيتم إلى صوتي؟
مع ذلك، أهديكم محبتي واحترامي.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة