أثار الفيلم المسيء لنبي الإسلام الضجة الاكبر منذ انطلاق مسلسل «الاساءة» والذي بدأ برسوم الكاريكاتير الشهيرة. وبعد مشاهدة المشاهد المنشورة من الفيلم، يمكنني تصنيفه من حيث المنظور الشكلي في سياق السينما الرديئة والمبتذلة، أما من حيث المضمون فإنّه يهتم بتحقير ثقافة المجتمعات الاسلامية في مقابل دعاية سافرة ومبتذلة للثقافة اليهودية (الصهيونية تحديداً).

ربما يحيلنا هذا النوع المبتذل من الافلام والمصحوب بمسحة عنصرية كريهة، الى النظرة الاستشراقية لبعض النخب الغربية، والتي تعتبر انّ تخلف شعوب الشرق يعود الى الدين المتطرف، والى طرق التفكير والعادات السائدة في المجتمع، والبنية العقلية للسكان الذين يتسمون بالكسل وعدم الانضباط وغياب طبقة المنظمين وغياب نزعة الفردية...الخ. بينما يتسم العرق الأبيض بسمات معاكسة تماماً، وهذه السمات بالإضافة إلى أنّها تشكل شيفرة التقدم، لكنّها أيضاً مورثات خاصة بالعرق الأبيض. ولا نتكلف الكثير من العناء في الرد على مثل هذه الترهات التي هي وان كانت صحيحة في جانب منها، إلا أنّها نتاج التخلف وليست سبباً له، كما انّ الشرق وعبر التاريخ كان مهداً لحضارات إنسانية عريقة لعبت دوراً هاماً في تهيئة المناخ للحضارات الأوروبية التي كانت إبان ازدهار الحضارة الفرعونية والصينية والعربية خارج التاريخ البشري برمته. وهكذا ففي حضرة التاريخ سوف يتفتت هذا الخطاب العنصري جزءاً بعد آخر، كالخشب المتعفن.

يتنازل بعض المثقفين الغربيين عن ابداء كل هذا القدر من العنصرية تجاه شعوب الشرق، فلا يحكمون عليها بالتخلف الدائم انطلاقاً من «مورثاتها» الشرقية، لكنّهم يضعون مساراً محدداً لتطورها. فإذا أردنا نحن شعوب الشرق «المتخلفة» أن نلحق بهم، أو أن ننجز تقدماً ما على أي صعيد، فكل ما علينا القيام به هو «الاحتذاء»، مما يعني قدراً اكبر من الخضوع والتبعية العمياء.

وتحيلنا هذه «الوصفة الثقافية» لتجاوز التخلف، إلى الوصفات الاقتصادية المخصصة لما يسمى «الدول النامية» من قبل صندوق النقد الدولي، والتي تتضمن الحرية الاقتصادية للقطاع الخاص، وعدم تدخل الدولة لصالح آليات السوق بما يؤدي الى تدعيم القطاع الخاص وتدمير القطاع العام. في هذا السياق يجري الترويج لضرورة الإيمان بالتجربة الاقتصادية الغربية، حيث الزعم بأنّ التفوّق هو ناتج تطبيق قوانينها العلمية التي تسري في كل زمان ومكان.

وهكذا يتحقق التناغم الضروري بين الثقافي والاقتصادي، ويكتمل تعريفنا أمام الشعوب الغربية كآخر متخلف يتحمل بنفسه المسؤولية عن وضعه البائس، في مقابل المثال الأعلى، اي شعوب الغرب المتمدنة وثقافتها الرفيعة. وتستنتج هذه النظرة الاستشراقية بأنّ لكلٍّ حسب ثقافته وجدوى اقتصاده!

وهكذا فنحن أمام اختراع شرق خرافي يتسم بسمات معاكسة لسمات الغرب، وهي نظرة عنصرية ولا تاريخية للأديان وللثقافة، لكنّها أيضاً نظرة ضرورية وذات دور حاسم في التعمية على آليات التراكم الرأسمالي، وعلى سمات هذا النظام شديد الاستقطابية، التي تسمح بنهب شعوب الاطراف وتثبيت بناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في حالة مستديمة من التخلف.

و للأسف فقد نجح هذا الخطاب نسبياً، وطال شرائح واسعة من الشعوب الغربية التي تأسف على وضع شعوبنا، وتدعوها لأن تتنازل عن التمسك بثقافة العنف ورفض الآخر والديكتاتورية واضطهاد المرأة... الخ. ذلك هو الشرط اللازم والكافي باعتقادها، لكي نرتقي إلى مصاف شعوب الغرب، وهذا حكم مريح جداً لمن لا يريد أن يعمل عقله في آليات عمل النظام العالمي الاقتصادية، التي تصادر خيارات شعوب الشرق وتهدد شعوباً بأكملها بالإبادة، فما بالنا بمن يجدون أنفسهم مستفيدين من مثل هذه الفجوة القائمة بين الغرب والشرق!

واذا كنا بصدد الاضاءة التاريخية على هذه الوحدة الاستعمارية بين الثقافي والاقتصادي والسياسي، فليس افضل من استحضار جزء من الخطاب الذي وجهه اللورد الشهير بلفور إلى مجلس العموم في بريطانيا العظمى، حول اغتصاب الحكم في مصر، إذ يبرر في خطابه الاحتلال الانكليزي لمصر بدعوى نشر الديموقراطية التي تفتقدها شعوب الشرق بحكم «طبيعتها» (ويستخدم تعبير «الحكم الذاتي» بدلاً من الديموقراطية): «تستطيعون أن تنظروا عبر تاريخ الشرقيين كله، فبصفة عامة لن تجدوا أثراً للحكم الذاتي في بلاد الشرق، فجميع عصورهم العظيمة مرت في ظل الاستبداد والحكم المطلق... وأعتقد أننا لو سألنا حكيماً شرقياً حقيقياً لقال إن عملية الحكم التي أخذناها على عاتقنا في مصر وغيرها ليست مهمة نبيلة، ولكنه عمل ضروري... هل هو أمر سيئ أم حسن بالنسبة لهذه الأمم العظيمة ــ وأنا أقر بعظمتها ــ أن نتولى نحن هذا الحكم المطلق؟ قناعتي انّه شيء حسن، والتجربة تدل على أنّ هذه الأمم حصلت في ظل حكمنا على حكم أفضل من أي حكم حصلت عليه في تاريخ العالم من قبل، وهو ليس مفيداً لها وحدها فقط، بل للغرب المتمدن كله».

إن هذا الكم من العنصرية والاحتقار لشعوبنا وثقافتها ومصادرة مصيرها، هو جوهر بعض الندوات والمسرحيات والافلام «المسيئة»، ولست بصدد تقييم ردود فعل الشارع العربي عليها وما اتصفت به من عنف كبير، لكن ثورات الشعوب العربية هي حالة تمرد على الشعور بالانتماء الى بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية منتقصة ومهمشة، وهي امل حقيقي في تغيير المجتمع وتلافي حالة التدهور المستمر في جميع مناحي الحياة. انّها ثورة على التخلف واسبابه ومسببيه، وهي بالتالي ترفع درجات الشعور بالذات لدى شعوبنا العربية، وهكذا فإنّ استصغار واحتقار ثقافتها لن يكون بدون رد فعل بعد اليوم.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-09-18
  • 9588
  • من الأرشيف

الفيلم المسيء والاستشراق الخبيث

أثار الفيلم المسيء لنبي الإسلام الضجة الاكبر منذ انطلاق مسلسل «الاساءة» والذي بدأ برسوم الكاريكاتير الشهيرة. وبعد مشاهدة المشاهد المنشورة من الفيلم، يمكنني تصنيفه من حيث المنظور الشكلي في سياق السينما الرديئة والمبتذلة، أما من حيث المضمون فإنّه يهتم بتحقير ثقافة المجتمعات الاسلامية في مقابل دعاية سافرة ومبتذلة للثقافة اليهودية (الصهيونية تحديداً). ربما يحيلنا هذا النوع المبتذل من الافلام والمصحوب بمسحة عنصرية كريهة، الى النظرة الاستشراقية لبعض النخب الغربية، والتي تعتبر انّ تخلف شعوب الشرق يعود الى الدين المتطرف، والى طرق التفكير والعادات السائدة في المجتمع، والبنية العقلية للسكان الذين يتسمون بالكسل وعدم الانضباط وغياب طبقة المنظمين وغياب نزعة الفردية...الخ. بينما يتسم العرق الأبيض بسمات معاكسة تماماً، وهذه السمات بالإضافة إلى أنّها تشكل شيفرة التقدم، لكنّها أيضاً مورثات خاصة بالعرق الأبيض. ولا نتكلف الكثير من العناء في الرد على مثل هذه الترهات التي هي وان كانت صحيحة في جانب منها، إلا أنّها نتاج التخلف وليست سبباً له، كما انّ الشرق وعبر التاريخ كان مهداً لحضارات إنسانية عريقة لعبت دوراً هاماً في تهيئة المناخ للحضارات الأوروبية التي كانت إبان ازدهار الحضارة الفرعونية والصينية والعربية خارج التاريخ البشري برمته. وهكذا ففي حضرة التاريخ سوف يتفتت هذا الخطاب العنصري جزءاً بعد آخر، كالخشب المتعفن. يتنازل بعض المثقفين الغربيين عن ابداء كل هذا القدر من العنصرية تجاه شعوب الشرق، فلا يحكمون عليها بالتخلف الدائم انطلاقاً من «مورثاتها» الشرقية، لكنّهم يضعون مساراً محدداً لتطورها. فإذا أردنا نحن شعوب الشرق «المتخلفة» أن نلحق بهم، أو أن ننجز تقدماً ما على أي صعيد، فكل ما علينا القيام به هو «الاحتذاء»، مما يعني قدراً اكبر من الخضوع والتبعية العمياء. وتحيلنا هذه «الوصفة الثقافية» لتجاوز التخلف، إلى الوصفات الاقتصادية المخصصة لما يسمى «الدول النامية» من قبل صندوق النقد الدولي، والتي تتضمن الحرية الاقتصادية للقطاع الخاص، وعدم تدخل الدولة لصالح آليات السوق بما يؤدي الى تدعيم القطاع الخاص وتدمير القطاع العام. في هذا السياق يجري الترويج لضرورة الإيمان بالتجربة الاقتصادية الغربية، حيث الزعم بأنّ التفوّق هو ناتج تطبيق قوانينها العلمية التي تسري في كل زمان ومكان. وهكذا يتحقق التناغم الضروري بين الثقافي والاقتصادي، ويكتمل تعريفنا أمام الشعوب الغربية كآخر متخلف يتحمل بنفسه المسؤولية عن وضعه البائس، في مقابل المثال الأعلى، اي شعوب الغرب المتمدنة وثقافتها الرفيعة. وتستنتج هذه النظرة الاستشراقية بأنّ لكلٍّ حسب ثقافته وجدوى اقتصاده! وهكذا فنحن أمام اختراع شرق خرافي يتسم بسمات معاكسة لسمات الغرب، وهي نظرة عنصرية ولا تاريخية للأديان وللثقافة، لكنّها أيضاً نظرة ضرورية وذات دور حاسم في التعمية على آليات التراكم الرأسمالي، وعلى سمات هذا النظام شديد الاستقطابية، التي تسمح بنهب شعوب الاطراف وتثبيت بناها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في حالة مستديمة من التخلف. و للأسف فقد نجح هذا الخطاب نسبياً، وطال شرائح واسعة من الشعوب الغربية التي تأسف على وضع شعوبنا، وتدعوها لأن تتنازل عن التمسك بثقافة العنف ورفض الآخر والديكتاتورية واضطهاد المرأة... الخ. ذلك هو الشرط اللازم والكافي باعتقادها، لكي نرتقي إلى مصاف شعوب الغرب، وهذا حكم مريح جداً لمن لا يريد أن يعمل عقله في آليات عمل النظام العالمي الاقتصادية، التي تصادر خيارات شعوب الشرق وتهدد شعوباً بأكملها بالإبادة، فما بالنا بمن يجدون أنفسهم مستفيدين من مثل هذه الفجوة القائمة بين الغرب والشرق! واذا كنا بصدد الاضاءة التاريخية على هذه الوحدة الاستعمارية بين الثقافي والاقتصادي والسياسي، فليس افضل من استحضار جزء من الخطاب الذي وجهه اللورد الشهير بلفور إلى مجلس العموم في بريطانيا العظمى، حول اغتصاب الحكم في مصر، إذ يبرر في خطابه الاحتلال الانكليزي لمصر بدعوى نشر الديموقراطية التي تفتقدها شعوب الشرق بحكم «طبيعتها» (ويستخدم تعبير «الحكم الذاتي» بدلاً من الديموقراطية): «تستطيعون أن تنظروا عبر تاريخ الشرقيين كله، فبصفة عامة لن تجدوا أثراً للحكم الذاتي في بلاد الشرق، فجميع عصورهم العظيمة مرت في ظل الاستبداد والحكم المطلق... وأعتقد أننا لو سألنا حكيماً شرقياً حقيقياً لقال إن عملية الحكم التي أخذناها على عاتقنا في مصر وغيرها ليست مهمة نبيلة، ولكنه عمل ضروري... هل هو أمر سيئ أم حسن بالنسبة لهذه الأمم العظيمة ــ وأنا أقر بعظمتها ــ أن نتولى نحن هذا الحكم المطلق؟ قناعتي انّه شيء حسن، والتجربة تدل على أنّ هذه الأمم حصلت في ظل حكمنا على حكم أفضل من أي حكم حصلت عليه في تاريخ العالم من قبل، وهو ليس مفيداً لها وحدها فقط، بل للغرب المتمدن كله». إن هذا الكم من العنصرية والاحتقار لشعوبنا وثقافتها ومصادرة مصيرها، هو جوهر بعض الندوات والمسرحيات والافلام «المسيئة»، ولست بصدد تقييم ردود فعل الشارع العربي عليها وما اتصفت به من عنف كبير، لكن ثورات الشعوب العربية هي حالة تمرد على الشعور بالانتماء الى بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية منتقصة ومهمشة، وهي امل حقيقي في تغيير المجتمع وتلافي حالة التدهور المستمر في جميع مناحي الحياة. انّها ثورة على التخلف واسبابه ومسببيه، وهي بالتالي ترفع درجات الشعور بالذات لدى شعوبنا العربية، وهكذا فإنّ استصغار واحتقار ثقافتها لن يكون بدون رد فعل بعد اليوم.  

المصدر : سلام السعدي \ الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة