كثيرة وغزيرة كانت التعليقات الشامتة حيال "11 أيلول الثالث" الذي تعرضت له الولايات المتحدة في بنغازي قبل يومين، والذي لا يزال متمادياً متداعياً في أكثر من بلد إسلامي، من البلدان المفترضة صديقة لواشنطن. الإسلامويون ملأوا صفحاتهم بتعليقات من نوع مباشر مبسط يختزل كل فكرهم: "الموت لأمريكا". غير الإسلامويين، خصوصاً الذين كانوا حتى ما قبل الربيع الإسلاموي الذي رعته واشنطن وباركته وحضنته، من أصدقاء أميركا والمتّكلين على ثقافتها ومبادئها، كان لهم انطباع مختلف في المضمون، متقارب في الشكل، على طريقة: اللهم لا شماتة. لكن مع خوف وذعر ورعب، فإذا كان الإسلامويون قادرين على توجيه رسائل من هذا النوع إلى واشنطن نفسها، وفي موقع ليس من أكثر معاقلهم قوة، مثل ليبيا، فأي مصير ينتظر الآخرين من أبناء هذا الشرق، من مسلمين ليبراليين أو معتدلين أو منفتحين، وصولاً إلى غير المسلمين؟؟

الذين دأبوا منذ مطلع العام 2011 على تحذير واشنطن من مغبات سياستها الإسلاموية، كانوا يقولون لقادتها منذ يومين: أما قلنا لكم؟ هل فهمتم الآن ما كنا نصرخ به طوال عشرين شهراً؟ هل أدركتم الآن أن ثمة بعداً مقدساً مطلقاً في الصراع الذي تنزلقون إليه، لا تفهمونه ولا تفقهون عواقب انفلاته في السياسة والأنظمة؟ هل اقتنعتم الآن أن المسألة في هذا الشرق ليست قصة حريات وحسب، ولا مجرد تنمية، ولا حتى جماعات مختلفة بالمعنى السوسيولوجي أو التاريخي؟ هل تيقنتم، بثمن دمائكم مرة أخرى، أن الحرب هنا هي حرب آلهة لا غير، وبالتالي فكل مقارباتكم لها عاجزة قاصرة وفاشلة؟ هل بات بإمكانكم أن تفهموا كيف يمكن لسفيركم المسحور بليبيا وثورتها وثوارها وبنغازها، ذلك العاشق لناسها وشرابها وطعامها، كيف له هو نفسه أن يموت ببربرية مطلقة على أيدي هؤلاء أنفسهم، ولا يُسمع صوت رسمي جدي مرجعي واحد، من كوسوفو إلى مينداناو، يستنكر مقتله، إلا ضمن حدود الحاشية الهامشية لموقف يحملكم أنتم مسؤولية مصرعه الوحشي؟ هل اكتشفت السيدة كلينتون سخافة "قوتها الذكية" وتفاهة إيمانها الفارغ بفصل إسلاموي جديد، بعد "الفصل" الذي تعرضت له؟؟

حتى أن بعض المغالين في الشماتة كان يسأل قبل يومين: هل بدأتم تترحمون على القذافي، كما صرتم منذ أعوام تفهمون صدام، وكما ذهبتم أخيراً تفاوضون طالبان، وكما بدأتم ربما تتفهمون بشار؟

شريحة أخرى من الشامتين غلّفت ردود فعلها بشيء من الأكاديمية، فتذكرت، وذكرت واشنطن، بغباء قيادة ألمانيا مطلع القرن الماضي. يومها كانت برلين على عداء تاريخي مع موسكو. وكان ثمة ثورة بلشفية تنشأ على حفافي النظام القيصري. وكان الشيوعيون أخصاماً للحكام في العاصمتين، حتى نقل عن لينين أنه يدرك حشرته بين "نيكي" و"ويلي"، أي بين القيصر الروسي نيكولا والامبراطور الألماني ويلهلم. لكن بعض المتذاكين في برلين فكر خلافاً لذلك. قرر أن يدعم الحمر ليتخلص من عدوه القيصر. هكذا جاء ربيع موسكو سنة 1917، سقط القيصر وهللت برلين. لكن بعد أقل من ثلاثين عاماً كانت العاصمة الألمانية نفسها تسقط تحت دبابات خليفة لينين...

الأكيد ان ردود فعل الشماتة تلك، ليست الجواب الأفضل على تحدي ما يحصل من لعبة دم في هذه الأرض. ولا هي حتى الجواب الصحيح. وإن كانت قد ملأت فراغ الصمت. فيما شهامة اللحظة تقضي أن تخرج المرجعيات الإسلامية كلها، في صوت واحد، معلنة رفضها أن تظل جماعات غوغائية عمياء، قادرة على زج كل الإسلام في أزمة مع كل العالم، اياً كانت الأسباب والمؤامرات والاستدراجات. وأن تعلن تمسكها بالإسلام الحقيقي، ذاك الذي لا مشكلة له حتى مع حرية الضمير، وصولاً إلى الكفر نفسه. بدليل تأكيده أنه "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، و"ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا، ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شيء شهيد". ما يعني أن الإسلام الأصيل جعل محكمة الضمير في السماء، لا على الأرض، وجعل قاضيها الله، لا البشر. شهامة اللحظة والعصر والزمان، تقضي أن تعلن المرجعيات الروحية كلها، رفضها دوامة القتل باسم الله، والعنف والدم باسم الغيب. وأن تؤكد أن الله قادر على حماية ذاته والدفاع عن قدسيته ونصرة ألوهيته. فيما واجب البشر، وفي طليعتهم مرجعيات الدين، أن يدافعوا عن قدسية الحياة البشرية، وأن يكفلوا حقها المطلق، والحق في السلامة الجسدية، والحق في ألا يموت إنسان بريء، أياً كانت التبريرات والتسويغات والتخرصات. شهامة الواجب الديني والإنساني والأخلاقي، تفرض أن تصرخ تلك المرجعيات، مذكرة من يجب تذكيره، بأن مواجهة أي إساءة، أكانت شريطاً سخيفاً مثل "براءة المسلمين" أو إنتاجاً هوليوودياً كبيراً كالتي تُنتج دوماً ضد يسوع، لا تكون إلا بموجب الحديث: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه، ولا تثرثروا فينتبه الشامتون".

 

  • فريق ماسة
  • 2012-09-16
  • 9679
  • من الأرشيف

واشنطن في بنغازي: الشماتة والشهامة

كثيرة وغزيرة كانت التعليقات الشامتة حيال "11 أيلول الثالث" الذي تعرضت له الولايات المتحدة في بنغازي قبل يومين، والذي لا يزال متمادياً متداعياً في أكثر من بلد إسلامي، من البلدان المفترضة صديقة لواشنطن. الإسلامويون ملأوا صفحاتهم بتعليقات من نوع مباشر مبسط يختزل كل فكرهم: "الموت لأمريكا". غير الإسلامويين، خصوصاً الذين كانوا حتى ما قبل الربيع الإسلاموي الذي رعته واشنطن وباركته وحضنته، من أصدقاء أميركا والمتّكلين على ثقافتها ومبادئها، كان لهم انطباع مختلف في المضمون، متقارب في الشكل، على طريقة: اللهم لا شماتة. لكن مع خوف وذعر ورعب، فإذا كان الإسلامويون قادرين على توجيه رسائل من هذا النوع إلى واشنطن نفسها، وفي موقع ليس من أكثر معاقلهم قوة، مثل ليبيا، فأي مصير ينتظر الآخرين من أبناء هذا الشرق، من مسلمين ليبراليين أو معتدلين أو منفتحين، وصولاً إلى غير المسلمين؟؟ الذين دأبوا منذ مطلع العام 2011 على تحذير واشنطن من مغبات سياستها الإسلاموية، كانوا يقولون لقادتها منذ يومين: أما قلنا لكم؟ هل فهمتم الآن ما كنا نصرخ به طوال عشرين شهراً؟ هل أدركتم الآن أن ثمة بعداً مقدساً مطلقاً في الصراع الذي تنزلقون إليه، لا تفهمونه ولا تفقهون عواقب انفلاته في السياسة والأنظمة؟ هل اقتنعتم الآن أن المسألة في هذا الشرق ليست قصة حريات وحسب، ولا مجرد تنمية، ولا حتى جماعات مختلفة بالمعنى السوسيولوجي أو التاريخي؟ هل تيقنتم، بثمن دمائكم مرة أخرى، أن الحرب هنا هي حرب آلهة لا غير، وبالتالي فكل مقارباتكم لها عاجزة قاصرة وفاشلة؟ هل بات بإمكانكم أن تفهموا كيف يمكن لسفيركم المسحور بليبيا وثورتها وثوارها وبنغازها، ذلك العاشق لناسها وشرابها وطعامها، كيف له هو نفسه أن يموت ببربرية مطلقة على أيدي هؤلاء أنفسهم، ولا يُسمع صوت رسمي جدي مرجعي واحد، من كوسوفو إلى مينداناو، يستنكر مقتله، إلا ضمن حدود الحاشية الهامشية لموقف يحملكم أنتم مسؤولية مصرعه الوحشي؟ هل اكتشفت السيدة كلينتون سخافة "قوتها الذكية" وتفاهة إيمانها الفارغ بفصل إسلاموي جديد، بعد "الفصل" الذي تعرضت له؟؟ حتى أن بعض المغالين في الشماتة كان يسأل قبل يومين: هل بدأتم تترحمون على القذافي، كما صرتم منذ أعوام تفهمون صدام، وكما ذهبتم أخيراً تفاوضون طالبان، وكما بدأتم ربما تتفهمون بشار؟ شريحة أخرى من الشامتين غلّفت ردود فعلها بشيء من الأكاديمية، فتذكرت، وذكرت واشنطن، بغباء قيادة ألمانيا مطلع القرن الماضي. يومها كانت برلين على عداء تاريخي مع موسكو. وكان ثمة ثورة بلشفية تنشأ على حفافي النظام القيصري. وكان الشيوعيون أخصاماً للحكام في العاصمتين، حتى نقل عن لينين أنه يدرك حشرته بين "نيكي" و"ويلي"، أي بين القيصر الروسي نيكولا والامبراطور الألماني ويلهلم. لكن بعض المتذاكين في برلين فكر خلافاً لذلك. قرر أن يدعم الحمر ليتخلص من عدوه القيصر. هكذا جاء ربيع موسكو سنة 1917، سقط القيصر وهللت برلين. لكن بعد أقل من ثلاثين عاماً كانت العاصمة الألمانية نفسها تسقط تحت دبابات خليفة لينين... الأكيد ان ردود فعل الشماتة تلك، ليست الجواب الأفضل على تحدي ما يحصل من لعبة دم في هذه الأرض. ولا هي حتى الجواب الصحيح. وإن كانت قد ملأت فراغ الصمت. فيما شهامة اللحظة تقضي أن تخرج المرجعيات الإسلامية كلها، في صوت واحد، معلنة رفضها أن تظل جماعات غوغائية عمياء، قادرة على زج كل الإسلام في أزمة مع كل العالم، اياً كانت الأسباب والمؤامرات والاستدراجات. وأن تعلن تمسكها بالإسلام الحقيقي، ذاك الذي لا مشكلة له حتى مع حرية الضمير، وصولاً إلى الكفر نفسه. بدليل تأكيده أنه "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، و"ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا، ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شيء شهيد". ما يعني أن الإسلام الأصيل جعل محكمة الضمير في السماء، لا على الأرض، وجعل قاضيها الله، لا البشر. شهامة اللحظة والعصر والزمان، تقضي أن تعلن المرجعيات الروحية كلها، رفضها دوامة القتل باسم الله، والعنف والدم باسم الغيب. وأن تؤكد أن الله قادر على حماية ذاته والدفاع عن قدسيته ونصرة ألوهيته. فيما واجب البشر، وفي طليعتهم مرجعيات الدين، أن يدافعوا عن قدسية الحياة البشرية، وأن يكفلوا حقها المطلق، والحق في السلامة الجسدية، والحق في ألا يموت إنسان بريء، أياً كانت التبريرات والتسويغات والتخرصات. شهامة الواجب الديني والإنساني والأخلاقي، تفرض أن تصرخ تلك المرجعيات، مذكرة من يجب تذكيره، بأن مواجهة أي إساءة، أكانت شريطاً سخيفاً مثل "براءة المسلمين" أو إنتاجاً هوليوودياً كبيراً كالتي تُنتج دوماً ضد يسوع، لا تكون إلا بموجب الحديث: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه، ولا تثرثروا فينتبه الشامتون".  

المصدر : جان عزيز\ الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة