«إن الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية، لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة».

أنطون سعادة

بينما تتزايد الدعوات، خصوصاً من جانب المسلمين، إلى جعل زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان حدثاً تاريخياً تتجلى فيه الوحدة بين اللبنانيين، تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة اعتداءً على احد المواقع المسيحية الأثرية في مدينة القدس، هو دير اللطرون غرب المدينة. فقد أقدم مستوطنون صهاينة أول أمس على إضرام النار في احد مداخل الدير، انتقاماً من المسيحيين على إخلاء السلطات الإسرائيلية المختصة مجموعة من المستوطنين الصهاينة من إحدى المستعمرات العشوائية. ولم يكتفوا بالنار، بل كتبوا عبارات في مدخل الدير مسيئة إلى السيد المسيح.

وأثار هذا الحادث استياءً كبيراً في الأوساط المسيحية والإسلامية، إذ هو يحصل على مسافة عشرة أيام من وصول البابا إلى لبنان من أجل توقيع إرشاد رسولي موجه إلى مسيحيي الشرق الذين تحولوا في فلسطين، مهد المسيحية وفي المدينة التي صلب فيها السيد المسيح، الى كبش فداء، في حملة حاقدة أطلق عليها شعار «دفع الثمن».

وقد عبّرت ردود الفعل على هذا الحادث، وخصوصاً من جانب المسلمين، عن روح التضامن بين فئات الشعب الفلسطيني، الذي لا يميّز الإسرائيليون في اعتداءاتهم عليه بين المسيحيين والمسلمين، نظراً إلى ان هدفهم واحد هو الاستيلاء على أراضي فلسطين بكاملها، بما فيها الأماكن المقدسة، وتهجير أهلها العرب تمهيداً لإقامة دولة يهودية صافية العنصر والدين.

إن ما يحصل في فلسطين يفترض أن يعطي زيارة البابا لبنان أهمية خاصة بالنسبة إلى اللبنانيين جميعاً، علماً أن المسيحيين بينهم، سبق لهم ان طووا الإرشاد الرسولي الخاص بهم الذي قدمه إليهم البابا يوحنا بولس الثاني أواخر التسعينيات ومضوا في انقساماتهم ونزاعاتهم، بل حروبهم الداخلية، ما افقدهم الوزن في الشأن الداخلي، كما همّش دورهم في الحياة السياسية وجعلهم تابعين للزعامات الرئيسية في الطوائف الاخرى، وأدخل اليأس إلى نفوسهم من إمكان استمرار العيش المشترك، فتقوقعوا في ما يشبه المنابذ الجغرافية. وثمة من يطرح في الغرب، وخصوصاً في أوروبا، مشاريع «استيطانية» لهم شبيهة بنظام الكانتونات في سويسرا. وقد قوي هذا الاتجاه أخيراً، وخرج من الهمس إلى العلن على لسان بعض المسؤولين الأوروبيين الكبار، كما تضمنته تقارير أوروبية رسمية.

وهذا جرح موجع للبنانيين، المسلمين قبل المسيحيين، وكذلك للعرب الذين يشهدون مدى تعاظم النفوذ الإسرائيلي لدى بعضهم، والأذى الذي يصيب فلسطين، من خلال الدعم الذي يلقاه المشروع الصهيوني لتقسيم المنطقة وتفتيتها تمهيداً للسيطرة عليها.

وما يجري حالياً في سوريا، والقوى التي تتصارع على ساحتها، وقد تجاوز النزاع هناك الإطار الإصلاحي إلى الحرب الصغيرة، يكشف تورط بعض العرب في مشروع يهدف إلى إحكام إسرائيل قبضتها على المنطقة.

من هنا أهمية كلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله الأخير في المقابلة التي أجرتها معه قناة «الميادين» التلفزيونية حول إعادة ترتيب الأولويات في العالم العربي، وخصوصاً في الأنظمة ذات التوجه الإسلامي، في تونس ومصر وليبيا، بحيث تبقى فلسطين قمة الأولويات في هذه الأنظمة، محذراً من المحاولات الأميركية والإسرائيلية لجعل «القضية الفلسطينية خارج أولويات الشعوب العربية وخارج الاهتمام، وقد وقعت الحروب والفتن والمنازعات الحدودية على رؤوس الشعوب العربية، لتبقى فلسطين آخر همّ». واعتبر ان «فلسطين والقدس مسؤولية عقائدية وأخلاقية. وفلسطين هي توحيد لأي حركة مقاومة، ولا يجوز ان تمس أي تباينات اصل هذا الاتجاه».

وفي هذا الإطار، يبدو مسيحيو لبنان الحلقة الأضعف، لأنهم اضاعوا البوصلة بعدما كانوا الحلقة الأقوى، وتاهوا وراء مشاريع وهمية استنزفت قواهم في حروب عبثية، مرة في مواجهة الفلسطينيين والمسلمين، ومرة اخرى في ما بينهم، ما ادى إلى تدمير المناطق التي بنوها بعرق الجبين. وقد دفعوا ثمن هذا الضياع حرماناً لمواقع مهمة داخل السلطة. كما اكتشفوا متأخرين، في حرب الجبل تحديداً، أنهم وقعوا في فخ نصبته لهم إسرائيل.

إن المسيحيين في لبنان، في حاجة من البابا والبطريرك، إلى ثقافة جديدة، تميّز بين الصهيونية واليهودية، وتضع أسس عقد اجتماعي جديد يشمل الحياة الوطنية في كل نواحيها، في الأرض والدولة والوطن، على قاعدة المساواة والعدالة والمواطنة وحكم القانون... حياة لا يهزها سجود طلاب مسلمين في جامعة مسيحية للصلاة، واعتبار ذلك تحدياً للمسيحية والمسيحيين، وكذلك شراء مسلمين أرضاً من مسيحيين من أجل إقامة مجمع سكني مشترك.

كذلك يجب جعل القدس في قلب بيروت، حيث سيصلي البابا ويقيم الذبيحة الإلهية، بل في قلب كل مؤمن بالله، أمسيحياً كان أم مسلماً.

 

 

 

  • فريق ماسة
  • 2012-09-05
  • 11723
  • من الأرشيف

إرشاد بابوي ... إلى القدس

  «إن الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية، لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة». أنطون سعادة بينما تتزايد الدعوات، خصوصاً من جانب المسلمين، إلى جعل زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان حدثاً تاريخياً تتجلى فيه الوحدة بين اللبنانيين، تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة اعتداءً على احد المواقع المسيحية الأثرية في مدينة القدس، هو دير اللطرون غرب المدينة. فقد أقدم مستوطنون صهاينة أول أمس على إضرام النار في احد مداخل الدير، انتقاماً من المسيحيين على إخلاء السلطات الإسرائيلية المختصة مجموعة من المستوطنين الصهاينة من إحدى المستعمرات العشوائية. ولم يكتفوا بالنار، بل كتبوا عبارات في مدخل الدير مسيئة إلى السيد المسيح. وأثار هذا الحادث استياءً كبيراً في الأوساط المسيحية والإسلامية، إذ هو يحصل على مسافة عشرة أيام من وصول البابا إلى لبنان من أجل توقيع إرشاد رسولي موجه إلى مسيحيي الشرق الذين تحولوا في فلسطين، مهد المسيحية وفي المدينة التي صلب فيها السيد المسيح، الى كبش فداء، في حملة حاقدة أطلق عليها شعار «دفع الثمن». وقد عبّرت ردود الفعل على هذا الحادث، وخصوصاً من جانب المسلمين، عن روح التضامن بين فئات الشعب الفلسطيني، الذي لا يميّز الإسرائيليون في اعتداءاتهم عليه بين المسيحيين والمسلمين، نظراً إلى ان هدفهم واحد هو الاستيلاء على أراضي فلسطين بكاملها، بما فيها الأماكن المقدسة، وتهجير أهلها العرب تمهيداً لإقامة دولة يهودية صافية العنصر والدين. إن ما يحصل في فلسطين يفترض أن يعطي زيارة البابا لبنان أهمية خاصة بالنسبة إلى اللبنانيين جميعاً، علماً أن المسيحيين بينهم، سبق لهم ان طووا الإرشاد الرسولي الخاص بهم الذي قدمه إليهم البابا يوحنا بولس الثاني أواخر التسعينيات ومضوا في انقساماتهم ونزاعاتهم، بل حروبهم الداخلية، ما افقدهم الوزن في الشأن الداخلي، كما همّش دورهم في الحياة السياسية وجعلهم تابعين للزعامات الرئيسية في الطوائف الاخرى، وأدخل اليأس إلى نفوسهم من إمكان استمرار العيش المشترك، فتقوقعوا في ما يشبه المنابذ الجغرافية. وثمة من يطرح في الغرب، وخصوصاً في أوروبا، مشاريع «استيطانية» لهم شبيهة بنظام الكانتونات في سويسرا. وقد قوي هذا الاتجاه أخيراً، وخرج من الهمس إلى العلن على لسان بعض المسؤولين الأوروبيين الكبار، كما تضمنته تقارير أوروبية رسمية. وهذا جرح موجع للبنانيين، المسلمين قبل المسيحيين، وكذلك للعرب الذين يشهدون مدى تعاظم النفوذ الإسرائيلي لدى بعضهم، والأذى الذي يصيب فلسطين، من خلال الدعم الذي يلقاه المشروع الصهيوني لتقسيم المنطقة وتفتيتها تمهيداً للسيطرة عليها. وما يجري حالياً في سوريا، والقوى التي تتصارع على ساحتها، وقد تجاوز النزاع هناك الإطار الإصلاحي إلى الحرب الصغيرة، يكشف تورط بعض العرب في مشروع يهدف إلى إحكام إسرائيل قبضتها على المنطقة. من هنا أهمية كلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله الأخير في المقابلة التي أجرتها معه قناة «الميادين» التلفزيونية حول إعادة ترتيب الأولويات في العالم العربي، وخصوصاً في الأنظمة ذات التوجه الإسلامي، في تونس ومصر وليبيا، بحيث تبقى فلسطين قمة الأولويات في هذه الأنظمة، محذراً من المحاولات الأميركية والإسرائيلية لجعل «القضية الفلسطينية خارج أولويات الشعوب العربية وخارج الاهتمام، وقد وقعت الحروب والفتن والمنازعات الحدودية على رؤوس الشعوب العربية، لتبقى فلسطين آخر همّ». واعتبر ان «فلسطين والقدس مسؤولية عقائدية وأخلاقية. وفلسطين هي توحيد لأي حركة مقاومة، ولا يجوز ان تمس أي تباينات اصل هذا الاتجاه». وفي هذا الإطار، يبدو مسيحيو لبنان الحلقة الأضعف، لأنهم اضاعوا البوصلة بعدما كانوا الحلقة الأقوى، وتاهوا وراء مشاريع وهمية استنزفت قواهم في حروب عبثية، مرة في مواجهة الفلسطينيين والمسلمين، ومرة اخرى في ما بينهم، ما ادى إلى تدمير المناطق التي بنوها بعرق الجبين. وقد دفعوا ثمن هذا الضياع حرماناً لمواقع مهمة داخل السلطة. كما اكتشفوا متأخرين، في حرب الجبل تحديداً، أنهم وقعوا في فخ نصبته لهم إسرائيل. إن المسيحيين في لبنان، في حاجة من البابا والبطريرك، إلى ثقافة جديدة، تميّز بين الصهيونية واليهودية، وتضع أسس عقد اجتماعي جديد يشمل الحياة الوطنية في كل نواحيها، في الأرض والدولة والوطن، على قاعدة المساواة والعدالة والمواطنة وحكم القانون... حياة لا يهزها سجود طلاب مسلمين في جامعة مسيحية للصلاة، واعتبار ذلك تحدياً للمسيحية والمسيحيين، وكذلك شراء مسلمين أرضاً من مسيحيين من أجل إقامة مجمع سكني مشترك. كذلك يجب جعل القدس في قلب بيروت، حيث سيصلي البابا ويقيم الذبيحة الإلهية، بل في قلب كل مؤمن بالله، أمسيحياً كان أم مسلماً.      

المصدر : السفير /ادمون صعب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة