في الحلقات الأولى من غالبيّة مسلسلاتها، لم تتمكّن الدراما السورية من شدّ انتباه المشاهد وخلق استراحة قصيرة له بعيداً عن نشرات الأخبار، وخصوصاً تلك الأعمال التي تسير أحداثها كأنّ أبطالها هبطوا للتوّ من كوكب آخر أو أنّهم لم يسمعوا بعد بأحداث بلادهم.

مع ذلك، هناك استثناءات قليلة حقّقت جزءاً يسيراً من معادلة «لا يمكن أن تنفصل الدراما عن الواقع»، فخرجت هذه المسلسلات بقصص تدور أحداثها على خلفية ما يجري في عاصمة الأمويين... يردد النجم سامر المصري في «أبو جانتي 2» بعضاً مما يجري في بلاده بعدما اضطر للسفر إلى دبي للعمل هناك وعينه على ما يجري في الشام. فيما يدور لقاء الحبيبين وحديثهما في «موزاييك» حول ما يجري في سوريا. لكنّ المسلسل الذي يعرضه التلفزيون السوري (الساعة 4.50 مساء) غيّرت الرقابة اسمه بعدما كان يحمل عنوان «خلصت». إلا أنّ التغيير الذي فرضته الرقابة في المسلسل القصير، ليس سوى جزء بسيط مما يتعرض له مسلسل «بقعة ضوء 9» الذي كتب غالبية لوحاته وأشرف عليه درامياً الزميل حازم سليمان، وأخرجه عامر فهد، ويعرضه التلفزيون السوري و«الدنيا» و«المنار». العمل الذي يلامس الأزمة السورية في الكثير من لوحاته، يبدو الأكثر شعبية ومتابعة حتى الآن، لكنّ بعض لوحات المسلسل الساخر لم ترُق التلفزيون السوري وحلفاءه. هكذا، تعرّض «بقعة ضوء» لحذف بعض المقاطع والجمل على تلفزيون «المنار» الذي عرض لوحة بعنوان «كل شي تمام»، تبلغ مدتها نحو عشر دقائق. لكن بعدما تعرّضت للمقص الجائر الخاص بالمحطة اللبنانية، ظهرت اللوحة بمدة أربع دقائق. لم يكن ذلك مفاجئاً، بعدما عودتنا «المنار» عبر تاريخها على قبضة رقابية حديدية لا يفلت منها إلا كل طويل عمر. فيما قرر التلفزيون السوري الامتناع عن بث لوحة كاملة تحمل عنوان «غلاظة». تلقي الأخيرة الضوء على جرأة رجل بسيط (يؤدي دوره ببراعة النجم باسم ياخور) قرّر قراءة دستور الجمهورية العربية السورية الجديد وفهمه جيداً، وحمل نسخة منه في جيبه لمحاججة كل من يحاول التطفل على حقوق يضمنها له الدستور. هكذا راح يحكي جهاراً نهاراً عن الفساد والرشاوى والتجاوزات الأمنية في المقهى وعلى مسمع الجميع. وعندما يتدخّل عنصر الأمن الموجود في كل مكان ويعرفه السوريون باسم «صدى الشوارع»، يرد عليه بمادة من الدستور تضمن للمواطن حقه في التعبير عن رأيه. وعندما يحاول عنصر الأمن مراقبته، يطرده بحسب الدستور على اعتبار أنّه لا تجوز مراقبة أحد إلا بإذن قضائي. ثم يصرّ ياخور على أن يقود إضراباً في المعمل الذي يشتغل فيه ويطلب من صاحب المعمل بحسب الدستور منح جميع العمال أجراً يوفّر متطلبات العيش الكريم، ويقرن ذلك بمادة دستورية تضمن حق الاجتماع والإضراب... لكن الأمن ينزعج جداً من الرجل ويحاول اعتقاله بتهمة أنّه موجود في مكان مشبوه، فيرد عليه بحسب مواد الدستور التي تضمن للمواطن الحضور في أي مكان، والتنقل بحرية، ما لم يكن هناك أمر قضائي بالقبض عليه! هنا يخرج رجال الأمن عن طورهم ويعتقلونه وهو يردد مواد الدستور بصوت عال، بينما يرد عليه عنصر الأمن: «سنعتقلك بتهمة الغلاظة».

إذاً، على الرغم من ذكاء اللوحة وتكثيفها لأحد أسباب الأزمة في سوريا وعرضها كاملة على تلفزيون «الدنيا» الذي يبالغ في موالاته للنظام أكثر من التلفزيون الرسمي والمعروف أنّه ملك النائب محمد حمشو صاحب «شركة سوريا الدولية» التي أنتجت «بقعة ضوء»، إلا أنّه كان للمسؤولين في التلفزيون السوري رأي يؤمن ـــ بالحد الأدنى ـــ بنظرية المؤامرة، حتى بات هؤلاء يشكّون في أنفسهم... لا أحد يعلم كم تحتاج سوريا بعد من دماء وشهداء حتى يستطيع الرقيب قبول حلقة تلفزيونية درامية تنتقد بذكاء وهدوء تصلب العقلية الأمنية وتعنتها، رغم أن هذا الأمر أسهم بشكل رئيسي في خروج الشعب إلى الشارع.

  • فريق ماسة
  • 2012-07-24
  • 14630
  • من الأرشيف

باسم ياخور: رقابة بتهمة... "الغلاظة"

في الحلقات الأولى من غالبيّة مسلسلاتها، لم تتمكّن الدراما السورية من شدّ انتباه المشاهد وخلق استراحة قصيرة له بعيداً عن نشرات الأخبار، وخصوصاً تلك الأعمال التي تسير أحداثها كأنّ أبطالها هبطوا للتوّ من كوكب آخر أو أنّهم لم يسمعوا بعد بأحداث بلادهم. مع ذلك، هناك استثناءات قليلة حقّقت جزءاً يسيراً من معادلة «لا يمكن أن تنفصل الدراما عن الواقع»، فخرجت هذه المسلسلات بقصص تدور أحداثها على خلفية ما يجري في عاصمة الأمويين... يردد النجم سامر المصري في «أبو جانتي 2» بعضاً مما يجري في بلاده بعدما اضطر للسفر إلى دبي للعمل هناك وعينه على ما يجري في الشام. فيما يدور لقاء الحبيبين وحديثهما في «موزاييك» حول ما يجري في سوريا. لكنّ المسلسل الذي يعرضه التلفزيون السوري (الساعة 4.50 مساء) غيّرت الرقابة اسمه بعدما كان يحمل عنوان «خلصت». إلا أنّ التغيير الذي فرضته الرقابة في المسلسل القصير، ليس سوى جزء بسيط مما يتعرض له مسلسل «بقعة ضوء 9» الذي كتب غالبية لوحاته وأشرف عليه درامياً الزميل حازم سليمان، وأخرجه عامر فهد، ويعرضه التلفزيون السوري و«الدنيا» و«المنار». العمل الذي يلامس الأزمة السورية في الكثير من لوحاته، يبدو الأكثر شعبية ومتابعة حتى الآن، لكنّ بعض لوحات المسلسل الساخر لم ترُق التلفزيون السوري وحلفاءه. هكذا، تعرّض «بقعة ضوء» لحذف بعض المقاطع والجمل على تلفزيون «المنار» الذي عرض لوحة بعنوان «كل شي تمام»، تبلغ مدتها نحو عشر دقائق. لكن بعدما تعرّضت للمقص الجائر الخاص بالمحطة اللبنانية، ظهرت اللوحة بمدة أربع دقائق. لم يكن ذلك مفاجئاً، بعدما عودتنا «المنار» عبر تاريخها على قبضة رقابية حديدية لا يفلت منها إلا كل طويل عمر. فيما قرر التلفزيون السوري الامتناع عن بث لوحة كاملة تحمل عنوان «غلاظة». تلقي الأخيرة الضوء على جرأة رجل بسيط (يؤدي دوره ببراعة النجم باسم ياخور) قرّر قراءة دستور الجمهورية العربية السورية الجديد وفهمه جيداً، وحمل نسخة منه في جيبه لمحاججة كل من يحاول التطفل على حقوق يضمنها له الدستور. هكذا راح يحكي جهاراً نهاراً عن الفساد والرشاوى والتجاوزات الأمنية في المقهى وعلى مسمع الجميع. وعندما يتدخّل عنصر الأمن الموجود في كل مكان ويعرفه السوريون باسم «صدى الشوارع»، يرد عليه بمادة من الدستور تضمن للمواطن حقه في التعبير عن رأيه. وعندما يحاول عنصر الأمن مراقبته، يطرده بحسب الدستور على اعتبار أنّه لا تجوز مراقبة أحد إلا بإذن قضائي. ثم يصرّ ياخور على أن يقود إضراباً في المعمل الذي يشتغل فيه ويطلب من صاحب المعمل بحسب الدستور منح جميع العمال أجراً يوفّر متطلبات العيش الكريم، ويقرن ذلك بمادة دستورية تضمن حق الاجتماع والإضراب... لكن الأمن ينزعج جداً من الرجل ويحاول اعتقاله بتهمة أنّه موجود في مكان مشبوه، فيرد عليه بحسب مواد الدستور التي تضمن للمواطن الحضور في أي مكان، والتنقل بحرية، ما لم يكن هناك أمر قضائي بالقبض عليه! هنا يخرج رجال الأمن عن طورهم ويعتقلونه وهو يردد مواد الدستور بصوت عال، بينما يرد عليه عنصر الأمن: «سنعتقلك بتهمة الغلاظة». إذاً، على الرغم من ذكاء اللوحة وتكثيفها لأحد أسباب الأزمة في سوريا وعرضها كاملة على تلفزيون «الدنيا» الذي يبالغ في موالاته للنظام أكثر من التلفزيون الرسمي والمعروف أنّه ملك النائب محمد حمشو صاحب «شركة سوريا الدولية» التي أنتجت «بقعة ضوء»، إلا أنّه كان للمسؤولين في التلفزيون السوري رأي يؤمن ـــ بالحد الأدنى ـــ بنظرية المؤامرة، حتى بات هؤلاء يشكّون في أنفسهم... لا أحد يعلم كم تحتاج سوريا بعد من دماء وشهداء حتى يستطيع الرقيب قبول حلقة تلفزيونية درامية تنتقد بذكاء وهدوء تصلب العقلية الأمنية وتعنتها، رغم أن هذا الأمر أسهم بشكل رئيسي في خروج الشعب إلى الشارع.

المصدر : الاخبار/وسام كنعان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة