دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
فجأة، حضرت الصين بقوة. استعملت حق النقض في مجلس الأمن، ووقفت خلف روسيا في دعم الحل السياسي للأزمة السورية، وفي رفض أي مساس أو تدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة..
نقول فجأة، لأن الصين ليست لاعبا سياسياً في الشرق الأوسـط. يصح ان يقــال فيــها عن جـد: «نأت بنفســها»، فلديـها من «البراغماتية» ما يجعـلها تدرك أن مصالحــها عابرة للعــقائد واللـغات والحدود، وقد حــطت بفعالية في قلب العالم الصناعي والمالي والاقتــصادي الدولي… انها عولمة صينية مختلفة قليلا، عن العولمة الأميركية.
لم تعد الصين المعاصرة تشبه ماو تسي تونغ. انها على صورة دينغ سياو بينغ، هذا، زوج الشيوعية للرأسمالية. فازت الثانية وتراجعت الأولى، لتستقر في بنية النظام السياسي «الأوتوقراطي» ولحمته. كانت الشيوعية مصدرة ومستهلكة أفكار. مع الصين الجديدة، صارت منتجة ومصدرة سلع، غزت القارات الخمس، وتحولت إلى قوة عظمى، تشارك بهدوء. في إعادة تكوين نظام دولي جديد، بلا مدافع ولا حروب ولا صراخ… الحكمة الصينية تدرس بصمت وعمق.
بعض هذا، وسواه من أفكار ومعلومات وحقائق، جاء في ندوة أقامها «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» قدم فيها الباحث الفرنسي ليونيل فيرون، مطالعة واسعة ومحيطة، تناولت «العلاقات الصينية الأميركية» و«الوضع الراهن، وآفاق التطور والاستراتيجيات». والباحث خبير ومختص وعلى صلة لصيغة بالأحداث والتطورات والسياسات الصينية، ويملك سجلاً من الاختصاصات والخبرات، في السلك الديبلوماسي الفرنسي، وفي معاهد التدريس السياسية والعسكرية إلى جانب معرفته باللغة الصينية ومهمة تدريسها ايضا… انه يعرف الصين بالصينية، وليس بالتواتر والنقل… وهنا أصالته.
النقاش، تناول ورقته البحثية، وكانت جولة حول العناوين والتفاصيل، لكن الأبرز فيها، كان حول الصين، و«الربيع العربي» وما استجد من سياسات بعد اندلاع الأزمة السورية، وموقف الصين منها.
لا مجال لاختصار الورقة أو التعليق عليها، أو التماس النقاش المعمق حولها، الذي أداره الزميل وليد شرارة. نستعيض عن ذلك، بسرد إشارات وعناوين بارزة، في صياغة غير متقطعة. من تلك الورقة والنـقاشات ما يلي:
الصين عملاق اقتصادي تصعد عالمياً بلا ضجيج. انه الصعود السلمي من ضمن الأطر الدولية المعتمدة، ومن دون الاصطدام المباشر بالعوائق، إلا إذا مست الأخطار أمنها الاقليمي ومصالحها الحيوية… لا تكتفي الصين بالتقيد بالقواعد بل تسعى إلى تعديلهـا. ولعــل ذلك عائد إلى كـون الولايات المتحــدة قد قررت ان تعــود إلى آسيا، عبر انتشار أساطيلها وافتـتاح قواعد عسكرية جديدة… الصين تدرك ان الولايات المتحدة تحاول ممارسة حصار من بعيد، كأنها تقول للصين: أنا هنا.
الجديد الذي يعوّل عليه، ان دول العالم الثالث النامية، بدأت تتجه إلى الصين لتخطي مشكلاتها ومصاعبها. هي دول جرّبت العلاجات الأوروبية والعمليات الجراحية الأميركية، فانهكت بالسموم الرأسمالية، وأثمانها الباهظة، وديونها الثقيلة… استغلال غربي استعماري، دفع هذه الدول لطلب «النمو» الحقيقي من الصين… والصين قادرة على ذلك… الدول النامية تسوّلت نمواً من الغرب، فغرقت في الديون والنهب المنظم. طبيعي ان تتجه إلى «الطب الصيني»، فهو غير مكلف وميسّر وبلا شروط سياسية. وساهم في هذا التوجه إلى الصين، امتلاء محفظتها بالتريليونات، وفقدان المناعة المالية الأوروبية والغربية، واعتلال صحة النظام المالي الغربي.
على أن الصين، ليست جمعية خيرية. انها تنافس، لكن ليس فوق ظهر الضعفاء، بل في عـقر دار الرأسمالية والنيوليبرالية… وقد بلغت الصين درجة من القوة دفعت عدداً غير قليل للاعتراف بأن لا اقتصاد أميركيا من دون الصين ومن دون مساعداتها. لذلك، ليس من مصلحة الصين انهيار النظام الاقتصادي الأميركي.
حكاية تروى في هذا السياق: أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، عن صفقة أسلحة لتايوان، التي تعتبرها الصين أرضا صينية وجزءا لا يتجزأ من امنها القومي والاقليمي. سكتت السياسة وتكلم الاقتصاد. لم يعلق أي مسؤول سياسي على هذا الخرق الأميركي للأمن القومي الصيني. تصدى لذلك، نائب مدير المصرف المركزي الصيني، معلنا خفض قيمة مساهمات الصين في بعض المنتجات المالية والمصرفية.
نتيجة لهذه الحركة التقنية المالية، اهتز الدولار الأميركي، ما ألزم بوش بالاتصال ليلا برئيس الحكومة الصينية، مقترحاً تعديل تصريح المسؤول المصرفي الصيني، ومطمئنا القيادة الى أن لا صفقة أسلحة لتايوان، إنما مباحثات فقط.
ديون الصين سلاح دمار شامل. محفظتها المالية، وفوائض المال، وتوظيفاتها في الأسواق المالية الأميركية، تجعلها في موقع المقرر وليس في رتبة التابع. لها حق النقض هنا وفي مجلس الأمن.
هذه الطاقة الاقتصادية والمالية المذهلة، جعلت الصين تعتمد على استراتيجية الربح من دون معارك.
وما بين الصين وأميركا، يختلف ما بينها وبين الشرق الأوسط. فأميركا تعتبر الشرق الأوسط ركيزة أساسية من ركائزها الدولية: النفط، اسرائيل، الموقع الاستراتيجي… الصين، منتشرة في آسيا وأوروبا وأميركا وافريقيا… الشرق الأوسط ليس من اهتماماتها الكبرى… انما لها اهتمامات مختصة بكل من ايران قديماً وسوريا راهنا.
لقد هجر العرب الصين من زمان. والعرب في الزمن المحتدم، كانوا عربين: عرب أميركا وعرب روسيا، ثم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، التحقت الأكثرية بأميركا، وغالت في موالاتها وتحالفاتها، حتى باتت بلاد العرب، منصة عسكرية للولايات المتحدة، وترسانة لجيوشها، ومواطن لدرعها الصاروخي.
الصين لم تكن موجودة. العقائد لا تطعم سياسة. مصالحها المنتشرة تؤمن لها نجاحات. ثم ان العرب، وتحديداً أهل الخليج، ليسوا مصدر ثقة. أما عرب فلسطين، فقد تغيبوا مراراً عن الصين، فيما حضرت اسرائيل في عمليات بيع الأسلحة والتقنيات العالية، وتبادل الخبرات. كانت فلسطين موجودة زمن ماو تسي تونغ… بعد ذلك، غابت وحضرت اسرائيل.
لماذا سوريا؟
يسرد ليونيل فيرون الأسباب التي دفعت الصين للوقوف إلى جانب روسيا في معالجة الأزمة السورية. تعتبر إيران شريكا أساسياً للصين، مثلها مثل الباكستان، بينما تعتبر سوريا، شريكا أساسيا للورس. وان سقوط نظام الأسد، يؤثر في الشريك الإيراني.
لروسيا مصلحة في بقاء إيران قوية. سقوط سوريا يضعف إيران ويعرضها لمخاطر كثيرة.
ثمة مسألة أخرى، وهو إحساس الصين بأنها تعرضت لخديعة أميركية في ليبيا. لقد صوتت الصين على القرار الدولي، لكن الغرب انتهك القرار الدولي بالكامل، ودفعت الصين ثمنا باهظاً من سمعتها وفقدت ماء وجهها أمام كثيرين… ثمة سبب آخر، له أهميته القصوى، وهو الرفض الجازم للتدخل الخارجي في أي بلد.
كأن الصين تقول للأميركيين في ما خص سوريا: لن ندعكم تدوسون على أقدامنا. لن تستطيعوا خديعتنا مرة أخرى. لن نسمح بأن يكون سقوط سوريا مقدمة لإسقاط إيران.
مصالح الصين تحدد سياساتها.
هل تخشى الصين «ربيعا صينيا»، يرث مظاهرات تيانان من؟ لا إشارات حتى الآن. النجاحات التي حققتها الصين، عبر توزيع الثروة، خففت كثيراً من نسبة الفقر، والحريات السياسية متاحة نسبياً، باستثناء ما يتصل بانتقاد النظام…
الصين اليوم، دولة عظمى في المرتبة الثانية. كلفة الصعود إلى الأولى باهظة وخطرة جداً.
السفير
المصدر :
السفير \ نصري الصايغ
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة