الحياة اليومية في شوارع دمشق لا توحي بصخب الصيف ولا باقتراب شهر رمضان، حيث تشهد أسواق الشام عادةً، نشاطاً لافتاً. ثمة ما يشغل بال السوريين أكثر من حرارة فاقت الأربعين، ولهيب أسعار لا يحتاج إلى قرب شهر الصوم كي يلسع السكان أكثر، فأصوات الرصاص باتت تصل دمشق، وأحيانا تكون في قلب العاصمة، فيما يصبح ريف الشام ويمسي في حضرة الموت والقذائف، وهو ما ينسحب على معظم المدن السورية.

هي كما وصفها الرئيس بشار الأسد حالة حرب تسيطر على البلاد، ولكنها حرب من الطرفين، فمن جهة معارضة مسلحة غير منظمة، تعمل وفق الحماسة أكثر من التكتيك العسكري، بالرغم من عديد السلاح الذي يتدفق بشكل هائل استعداداً لمعركة «تحرير دمشق» هذه المرة أو ما يتعارف عليه باسم ساعة الصفر.

وفي المقابل، لن يتردّد الجيش النظامي في تحرير أي منطقة سيعلن المنشقون سيطرتهم عليها لتكون النتيجة في كلتا الحالتين دماراً ودماء يرتفع منسوبها يوماً تلو الآخر.

وبين هذا وذاك تقف المعارضة السياسية بين ترددات ما يدور في مكاتب العواصم الكبرى من باريس إلى موسكو فواشنطن وجنيف، فيتحرك بعض أطيافها في اتجاه الداعم الأول للبلاد طيلة عقود، أي روسيا، فيما يصمم آخرون على البدائل الغربية.

ويتجاهل غيرهم كل هذا معولاً على شارع ثائر، ومن خلفه معارضة مسلحة يتمنى أن يتكرر النموذج الليبي في سوريا، على أن القاسم المشترك بين مجمل هذه التيارات هو ضعف التنسيق.

الشعب يريد والمعارضة تريد

يخطئ من يعتبر أن المعارضة السورية قد خرجت موحدة من اجتماعها الأخير في القاهرة، فالواقع يكشف أن الهوة بين الشارع والمعارضة السياسية من جهة، وبين فئات المعارضة نفسها من جهة أخرى، تتسع أكثر فأكثر.

وفي وقت تعلن فيه «هيئة التنسيق الوطنية»، وهي أحد أبرز فصائل معارضة الداخل تمسكها بدعم خطة كوفي أنان والانتقال السلمي للسلطة، بعيداً عن التسلح والاتجاه نحو العسكرة، معتمدة على تدعيم قوى الانتفاضة السورية من خلال وحدة المعارضة، لا تمانع في المقابل إجراء مفاوضات مع شخصيات لم تتلطخ أيديها بدماء الشعب، وفق ما تشير إليه بيانات الهيئة.

أما «المجلس الوطني»، وهو أبرز فصائل معارضة الخارج فيعتبر أن أولوياته تتجسّد في الفترة الحالية بشقين.

الأول، هو العمل على تعزيز صفوف المعارضة المسلحة وإمدادها بالسلاح والمال. والثاني، بالضغط لاستصدار قرار دولي وفق الفصل السابع، يجيز التدخل وإسقاط النظام في دمشق، بعدما أطلق أعضاء المجلس تصريحات عديدة أشارت بوضوح إلى ضرورة استخدام القوة للتعاطي مع السلطة، التي لا يمانع قادة المجلس في إجراء حوار مع بعض أركانها ممن لم يتورطوا في الدماء، على أن يكون هدف هذا الحوار هو رحيل الرئيس الأسد.

وبين الفريقين السابقين تبرز اتجاهات أخرى للمعارضة تعطي إشارات لأولويات مختلفة كتيار «بناء الدولة» الذي يتزعمه لؤي حسين، حيث يشير التيار إلى أهمية وقف إطلاق النار وتهدئة النزاع المسلح باعتباره شرطاً لازماً ولكنه غير كاف لبدء عملية سياسية تقود البلاد لمرحلة انتقالية، معتبراً أن أطرافاً عديدة لا تريد للسلطة أن توقف إطلاق النار باعتبارها ستفقد الكثير، وفي المقابل، لا تريد السلطة أن يتوقف إطلاق الرصاص عليها.

وانفردت قوى المعارضة الكردية بتوحيد صفوفها، مشكلة المجلس الكردي الأعلى، ومؤكدة أولوياتها في رسم السياسة العامة والانخراط في الحراك المسلح.

وإذا كانت المعارضة السياسية قد تباينت أولوياتها، فيؤكد الشارع السوري شعاره الذي رفعه في بداية الاحتجاجات: «الشعب السوري عارف طريقه»، ذلك أن مطالبة «المجلس الوطني» بقرار تحت الفصل السابع، هو ليس إلا كلاماً للاستهلاك الإعلامي كما يؤكد نشطاء كثر، فالفيتو الروسي الصيني جاهز بالمرصاد لقرارات كهذه وقد سبقت تجربتها مما يفرغ كلام المجلس من أي قيمة له، ليعول الشارع في المقابل على دعم «الجيش الحر» أكثر من أي أمر آخر، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها مقاتلوه في معاركهم الأخيرة، والتي كشفت افتقارهم لعنصري السلاح الجوي والسلاح الثقيل ومع ذلك لا يتردد أهالي حمص وحماه ودير الزور ممن نزحوا إلى عاصمة الأمويين في الحديث عن مساندتهم للمعارضة المسلحة القادرة على إسقاط النظام، وفق قولهم.

وفي المقابل، يضع ناشطو دمشق وحلب نصب أعينهم مهمة تعطيل الوسط التجاري من خلال العمل على الإضرابات والعصيان المدني في قلب المدينة، وهو ما نجحوا فيه لمرتين، ما فتح الباب على ضرورة استقطاب تجار المدينتين وسحبهم لصفوف المعارضة، بهدف زيادة الضغط على النظام.

المعارضة السورية

والحلول الروسية

لا تزال روسيا حتى اليوم الداعم الأبرز للنظام السوري، رافضة أي حل يقود إلى مغادرة الأسد السلطة أو إسقاط النظام كما فعل الغرب في ليبيا. وإذا كان الروس يصرون على أنهم يسعون للحفاظ على سوريا متماسكة لكونها آخر موطئ قدم لهم في المتوسط، فإن التشدد كان سمة الموقف الروسي في دعم السلطة حتى النهاية. وهو ما سبب نقمة شعبية كبيرة على حكام موسكو.

ولكن موسكو لا تنفك عن تقديم اقتراحات وحلول تقود لعملية انتقالية في البلاد، ولكن بقيادة السلطة الحالية، من دون أن يخلو الموقف الروسي من انتقادات لاذعة بين الحين والآخر لنظام دمشق وتأخره في القيام بإصلاحات، كان من الممكن أن تسهم في تهدئة الوضع.

وفي المقابل، لا تتوقف تصريحات المسؤولين عن انتقاد المعارضة المسلحة ودورها في زعزعة الاستقرار في البلاد، على أن الفترة الماضية قد شهدت تسارعاً في اللقاءات بين دبلوماسيي «ميد» (الاسم المختصر لمقر الخارجية الروسية)، ومعارضي البلاد في الداخل والخارج، كان آخرها زيارة وفد المجلس الوطني لموسكو.

وفي المحصلة، فقد أكد معظم زوار العاصمة الروسية أن مسؤوليها يتحدّثون بلغة تختلف عن تلك التي يقولونها في الإعلام وأن القوة العظمى لن تدخل في حرب لمصلحة نظام دمشق. ولكن النتيجة بقيت على حالها، فلم تغيّر روسيا موقفها من النظام ولم تنجح هي بدورها في إقناع المعارضة بالتنازل أو الجلوس مع النظام على طاولة الحوار، باعتبار أن ما تطرحه موسكو هو القيادة السورية للحل، لتبرز هنا هوة جديدة بين الشارع والمعارضة.

وبينما تعلن المعارضة، وتحديداً «هيئة التنسيق» و«المنبر الوطني»، ضرورة التواصل والتنسيق مع الجانب الروسي القادر بحسب رأي البعض على الضغط على النظام، وبالتالي حمله على القبول بوقف لإطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين وتهيئة بيئة مناسبة للمرحلة الانتقالية، يكتفي «المجلس الوطني»، بشرح حقيقة موقفه، والطلب منهم لعب دور أكثر فاعلية يتجسّد في الابتعاد عن دعم النظام، بل ويصرّ على أن روسيا هي بشكل أو بآخر شريكة في عمليات النظام.

أما الشارع المحتج في الداخل فيرفض تماماً اعتبار روسيا شريكة في الحل، بل أن اللافتات المرفوعة في التظاهرات اليومية تعطي إشارة، بأن القطيعة مع وريث الاتحاد السوفياتي أصبحت أمراً لا مفر منه، وترفض أي حل تطرحه روسيا. لتصل إلى أن يرفع عدد من الناشطين في مؤتمر المعارضة في القاهرة لافتات تدين روسيا خلال إلقاء السفير كلمته، وتهدد المعارضة المسلحة باستهداف المصالح الروسية.

فتبدو النتيجة رفض الشارع للمقترحات التي لم تنجح حتى الآن بجمع النظام والمعارضة على طاولة واحدة، فيما المعارضة نفسها منقسمة بين مصمّم على دور روسي وخطط تقدمها موسكو للانتقال بالبلاد إلى عهد جديد، وعليه ليكن التنسيق والتواصل وربما الانخراط في الحلول الروسية، وبين مَن فقد الأمل في أي خطوة إيجابية من المعسكر الشرقي، وبالتالي الأفضل له هو التوجه للبديل الغربي – العربي.

الخيار البديل:

التحالف الغربي العربي

لعل مواقف الولايات المتحدة وأوروبا ـ ومن خلفهما العرب ـ المتشددة حيال الأزمة السورية، قد دفعت جانباً كبيراً من المعارضة للتوجّه حيال الغرب واقتراح حلّ يشابه إلى حد ما النموذج الليبي، من خلال خلق مناطق عازلة أو حظر جوي، فيما ذهب البعض للمطالبة بحل التدخل العسكري أو على الأقل لضربات جوية محددة الأهداف وهو ما صرّح به علناً عدد من الناشطين.

ولكن تجري رياحهم بغير ما تشتهي سفن الغرب، فالخيار الأمثل غربياً هو تسليح المعارضة، على الرغم مما فيه من مخاطر انفلات الوضع أكثر مما هو عليه. هو الخيار الذي يتمسك به تيار كبير من المعارضين، أبرزهم «المجلس الوطني»، مع قيام الدول الخليجية بالتسليح عبر الأراضي التركية مع حالة من غض النظر الغربي عن المسألة باعتبارها الخيار البديل عن غطاء مجلس الأمن وبشكل لا يرهق الأوروبيين ولا الأميركيين بتكاليف باهظة، في ظل التخبط المالي الذي تغرق به هذه الدول، ويسهل وفق رأي المعارضة عملية إسقاط النظام بطريقة تشبه ما حصل في ليبيا.

فيما يرى معارضون آخرون أن مثل هذا العمل لن يقود سوى لتأجيج الصراع في البلاد أو هو بمعنى آخر بمثابة الوقود لاستمرار القتل، حتى حسم الموقف الدولي من النظام في ظل انشغال واشنطن بانتخاباتها الرئاسية.

وهو ما يعني استمرار تدفق السلاح لخلق حالة مؤقتة من عدم الاستقرار ريثما تنضج التسوية الدولية. ويعتبر ناشطون على الأرض أن الخيار الغربي بغض النظر عن التسليح أو حتى فرض العقوبات الاقتصادية على النظام، لا يجسّد أكثر من حالة مراوحة في المكان. فعلى الأرض لم يتضرر النظام من العقوبات الغربية قدر تضرّر الشعب وطبقة التجار ورجال الأعمال. وهو ما أبقاهم في المنطقة الرمادية. أما بالنسبة للتسليح، فما زال الخليج هو الواجهة الأولى للتصدير إلى المقاتلين، فيما يمكن للغرب التحرك أكثر لو أراد ذلك.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-07-13
  • 9540
  • من الأرشيف

سورية: حراك الشارع في وادٍ... والمعارضات في وديان

الحياة اليومية في شوارع دمشق لا توحي بصخب الصيف ولا باقتراب شهر رمضان، حيث تشهد أسواق الشام عادةً، نشاطاً لافتاً. ثمة ما يشغل بال السوريين أكثر من حرارة فاقت الأربعين، ولهيب أسعار لا يحتاج إلى قرب شهر الصوم كي يلسع السكان أكثر، فأصوات الرصاص باتت تصل دمشق، وأحيانا تكون في قلب العاصمة، فيما يصبح ريف الشام ويمسي في حضرة الموت والقذائف، وهو ما ينسحب على معظم المدن السورية. هي كما وصفها الرئيس بشار الأسد حالة حرب تسيطر على البلاد، ولكنها حرب من الطرفين، فمن جهة معارضة مسلحة غير منظمة، تعمل وفق الحماسة أكثر من التكتيك العسكري، بالرغم من عديد السلاح الذي يتدفق بشكل هائل استعداداً لمعركة «تحرير دمشق» هذه المرة أو ما يتعارف عليه باسم ساعة الصفر. وفي المقابل، لن يتردّد الجيش النظامي في تحرير أي منطقة سيعلن المنشقون سيطرتهم عليها لتكون النتيجة في كلتا الحالتين دماراً ودماء يرتفع منسوبها يوماً تلو الآخر. وبين هذا وذاك تقف المعارضة السياسية بين ترددات ما يدور في مكاتب العواصم الكبرى من باريس إلى موسكو فواشنطن وجنيف، فيتحرك بعض أطيافها في اتجاه الداعم الأول للبلاد طيلة عقود، أي روسيا، فيما يصمم آخرون على البدائل الغربية. ويتجاهل غيرهم كل هذا معولاً على شارع ثائر، ومن خلفه معارضة مسلحة يتمنى أن يتكرر النموذج الليبي في سوريا، على أن القاسم المشترك بين مجمل هذه التيارات هو ضعف التنسيق. الشعب يريد والمعارضة تريد يخطئ من يعتبر أن المعارضة السورية قد خرجت موحدة من اجتماعها الأخير في القاهرة، فالواقع يكشف أن الهوة بين الشارع والمعارضة السياسية من جهة، وبين فئات المعارضة نفسها من جهة أخرى، تتسع أكثر فأكثر. وفي وقت تعلن فيه «هيئة التنسيق الوطنية»، وهي أحد أبرز فصائل معارضة الداخل تمسكها بدعم خطة كوفي أنان والانتقال السلمي للسلطة، بعيداً عن التسلح والاتجاه نحو العسكرة، معتمدة على تدعيم قوى الانتفاضة السورية من خلال وحدة المعارضة، لا تمانع في المقابل إجراء مفاوضات مع شخصيات لم تتلطخ أيديها بدماء الشعب، وفق ما تشير إليه بيانات الهيئة. أما «المجلس الوطني»، وهو أبرز فصائل معارضة الخارج فيعتبر أن أولوياته تتجسّد في الفترة الحالية بشقين. الأول، هو العمل على تعزيز صفوف المعارضة المسلحة وإمدادها بالسلاح والمال. والثاني، بالضغط لاستصدار قرار دولي وفق الفصل السابع، يجيز التدخل وإسقاط النظام في دمشق، بعدما أطلق أعضاء المجلس تصريحات عديدة أشارت بوضوح إلى ضرورة استخدام القوة للتعاطي مع السلطة، التي لا يمانع قادة المجلس في إجراء حوار مع بعض أركانها ممن لم يتورطوا في الدماء، على أن يكون هدف هذا الحوار هو رحيل الرئيس الأسد. وبين الفريقين السابقين تبرز اتجاهات أخرى للمعارضة تعطي إشارات لأولويات مختلفة كتيار «بناء الدولة» الذي يتزعمه لؤي حسين، حيث يشير التيار إلى أهمية وقف إطلاق النار وتهدئة النزاع المسلح باعتباره شرطاً لازماً ولكنه غير كاف لبدء عملية سياسية تقود البلاد لمرحلة انتقالية، معتبراً أن أطرافاً عديدة لا تريد للسلطة أن توقف إطلاق النار باعتبارها ستفقد الكثير، وفي المقابل، لا تريد السلطة أن يتوقف إطلاق الرصاص عليها. وانفردت قوى المعارضة الكردية بتوحيد صفوفها، مشكلة المجلس الكردي الأعلى، ومؤكدة أولوياتها في رسم السياسة العامة والانخراط في الحراك المسلح. وإذا كانت المعارضة السياسية قد تباينت أولوياتها، فيؤكد الشارع السوري شعاره الذي رفعه في بداية الاحتجاجات: «الشعب السوري عارف طريقه»، ذلك أن مطالبة «المجلس الوطني» بقرار تحت الفصل السابع، هو ليس إلا كلاماً للاستهلاك الإعلامي كما يؤكد نشطاء كثر، فالفيتو الروسي الصيني جاهز بالمرصاد لقرارات كهذه وقد سبقت تجربتها مما يفرغ كلام المجلس من أي قيمة له، ليعول الشارع في المقابل على دعم «الجيش الحر» أكثر من أي أمر آخر، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها مقاتلوه في معاركهم الأخيرة، والتي كشفت افتقارهم لعنصري السلاح الجوي والسلاح الثقيل ومع ذلك لا يتردد أهالي حمص وحماه ودير الزور ممن نزحوا إلى عاصمة الأمويين في الحديث عن مساندتهم للمعارضة المسلحة القادرة على إسقاط النظام، وفق قولهم. وفي المقابل، يضع ناشطو دمشق وحلب نصب أعينهم مهمة تعطيل الوسط التجاري من خلال العمل على الإضرابات والعصيان المدني في قلب المدينة، وهو ما نجحوا فيه لمرتين، ما فتح الباب على ضرورة استقطاب تجار المدينتين وسحبهم لصفوف المعارضة، بهدف زيادة الضغط على النظام. المعارضة السورية والحلول الروسية لا تزال روسيا حتى اليوم الداعم الأبرز للنظام السوري، رافضة أي حل يقود إلى مغادرة الأسد السلطة أو إسقاط النظام كما فعل الغرب في ليبيا. وإذا كان الروس يصرون على أنهم يسعون للحفاظ على سوريا متماسكة لكونها آخر موطئ قدم لهم في المتوسط، فإن التشدد كان سمة الموقف الروسي في دعم السلطة حتى النهاية. وهو ما سبب نقمة شعبية كبيرة على حكام موسكو. ولكن موسكو لا تنفك عن تقديم اقتراحات وحلول تقود لعملية انتقالية في البلاد، ولكن بقيادة السلطة الحالية، من دون أن يخلو الموقف الروسي من انتقادات لاذعة بين الحين والآخر لنظام دمشق وتأخره في القيام بإصلاحات، كان من الممكن أن تسهم في تهدئة الوضع. وفي المقابل، لا تتوقف تصريحات المسؤولين عن انتقاد المعارضة المسلحة ودورها في زعزعة الاستقرار في البلاد، على أن الفترة الماضية قد شهدت تسارعاً في اللقاءات بين دبلوماسيي «ميد» (الاسم المختصر لمقر الخارجية الروسية)، ومعارضي البلاد في الداخل والخارج، كان آخرها زيارة وفد المجلس الوطني لموسكو. وفي المحصلة، فقد أكد معظم زوار العاصمة الروسية أن مسؤوليها يتحدّثون بلغة تختلف عن تلك التي يقولونها في الإعلام وأن القوة العظمى لن تدخل في حرب لمصلحة نظام دمشق. ولكن النتيجة بقيت على حالها، فلم تغيّر روسيا موقفها من النظام ولم تنجح هي بدورها في إقناع المعارضة بالتنازل أو الجلوس مع النظام على طاولة الحوار، باعتبار أن ما تطرحه موسكو هو القيادة السورية للحل، لتبرز هنا هوة جديدة بين الشارع والمعارضة. وبينما تعلن المعارضة، وتحديداً «هيئة التنسيق» و«المنبر الوطني»، ضرورة التواصل والتنسيق مع الجانب الروسي القادر بحسب رأي البعض على الضغط على النظام، وبالتالي حمله على القبول بوقف لإطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين وتهيئة بيئة مناسبة للمرحلة الانتقالية، يكتفي «المجلس الوطني»، بشرح حقيقة موقفه، والطلب منهم لعب دور أكثر فاعلية يتجسّد في الابتعاد عن دعم النظام، بل ويصرّ على أن روسيا هي بشكل أو بآخر شريكة في عمليات النظام. أما الشارع المحتج في الداخل فيرفض تماماً اعتبار روسيا شريكة في الحل، بل أن اللافتات المرفوعة في التظاهرات اليومية تعطي إشارة، بأن القطيعة مع وريث الاتحاد السوفياتي أصبحت أمراً لا مفر منه، وترفض أي حل تطرحه روسيا. لتصل إلى أن يرفع عدد من الناشطين في مؤتمر المعارضة في القاهرة لافتات تدين روسيا خلال إلقاء السفير كلمته، وتهدد المعارضة المسلحة باستهداف المصالح الروسية. فتبدو النتيجة رفض الشارع للمقترحات التي لم تنجح حتى الآن بجمع النظام والمعارضة على طاولة واحدة، فيما المعارضة نفسها منقسمة بين مصمّم على دور روسي وخطط تقدمها موسكو للانتقال بالبلاد إلى عهد جديد، وعليه ليكن التنسيق والتواصل وربما الانخراط في الحلول الروسية، وبين مَن فقد الأمل في أي خطوة إيجابية من المعسكر الشرقي، وبالتالي الأفضل له هو التوجه للبديل الغربي – العربي. الخيار البديل: التحالف الغربي العربي لعل مواقف الولايات المتحدة وأوروبا ـ ومن خلفهما العرب ـ المتشددة حيال الأزمة السورية، قد دفعت جانباً كبيراً من المعارضة للتوجّه حيال الغرب واقتراح حلّ يشابه إلى حد ما النموذج الليبي، من خلال خلق مناطق عازلة أو حظر جوي، فيما ذهب البعض للمطالبة بحل التدخل العسكري أو على الأقل لضربات جوية محددة الأهداف وهو ما صرّح به علناً عدد من الناشطين. ولكن تجري رياحهم بغير ما تشتهي سفن الغرب، فالخيار الأمثل غربياً هو تسليح المعارضة، على الرغم مما فيه من مخاطر انفلات الوضع أكثر مما هو عليه. هو الخيار الذي يتمسك به تيار كبير من المعارضين، أبرزهم «المجلس الوطني»، مع قيام الدول الخليجية بالتسليح عبر الأراضي التركية مع حالة من غض النظر الغربي عن المسألة باعتبارها الخيار البديل عن غطاء مجلس الأمن وبشكل لا يرهق الأوروبيين ولا الأميركيين بتكاليف باهظة، في ظل التخبط المالي الذي تغرق به هذه الدول، ويسهل وفق رأي المعارضة عملية إسقاط النظام بطريقة تشبه ما حصل في ليبيا. فيما يرى معارضون آخرون أن مثل هذا العمل لن يقود سوى لتأجيج الصراع في البلاد أو هو بمعنى آخر بمثابة الوقود لاستمرار القتل، حتى حسم الموقف الدولي من النظام في ظل انشغال واشنطن بانتخاباتها الرئاسية. وهو ما يعني استمرار تدفق السلاح لخلق حالة مؤقتة من عدم الاستقرار ريثما تنضج التسوية الدولية. ويعتبر ناشطون على الأرض أن الخيار الغربي بغض النظر عن التسليح أو حتى فرض العقوبات الاقتصادية على النظام، لا يجسّد أكثر من حالة مراوحة في المكان. فعلى الأرض لم يتضرر النظام من العقوبات الغربية قدر تضرّر الشعب وطبقة التجار ورجال الأعمال. وهو ما أبقاهم في المنطقة الرمادية. أما بالنسبة للتسليح، فما زال الخليج هو الواجهة الأولى للتصدير إلى المقاتلين، فيما يمكن للغرب التحرك أكثر لو أراد ذلك.  

المصدر : طارق العبد \ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة