العلاقة بين النظام السعودي ورجال الدين في حالة غليان. الصدام بينهما ليس جديداً. بدأ منذ فترة بالتفاعل، مع سلسلة الإقالات التي نفذها الملك عبد الله بحق أحد مستشاري الديوان الملكي ورئيس المطاوعين وغيرهم. لكنه اليوم يأخذ منحى أكثر خطورة وحساسية، فاقمه تحول الأزمة السورية إلى عنصر مركزي في الصراع بين الطرفين. اللافت في الأمر أن الجهتين تقفان على المسافة ذاتها من الصراع، حيث العدو واحد، لكنه في الوقت ذاته سبب تفجير الوضع. في التفاصيل: دعا عدد من رجال الدين، الذين يتمتعون بوجاهة ونفوذ واسعين، إلى الجهاد من أجل سورية ملتمسين التبرعات بشكل غير رسمي، في المقابل ثارت حفيظة الملك عبد الله الذي، وإن كان منخرطاً في الصراع ضد الخصم نفسه، اعتبر أن الدعوات غير الرسمية إلى التدخل تتجاوز الحدود المتاحة لاستقلالية رجال الدين، التي تمت قوننتها في مرسوم أصدره في العام 2010. في الواقع، يعود سبب تخوف النظام السعودي من الحملات الأخيرة لرجال الدين، رغم توغله إلى حدّ بعيد في استنهاض القوى الدولية للتدخل في سورية، من تجاوز هؤلاء للحدود، الأمر الذي بات يهدّد شرعية العائلة الحاكمة والأمن السعودي. وفي هذا الصدد يفنّد الباحث فريدريك ويهري في تقرير نشره معهد "كارنيغي" جوانب هذه العلاقة بين السلطة الملكية والسلطة الدينية، فضلاً عن خلفيات تأزمها وتداعيات هذا التأزم.

وكانت الصحافة العربية والأجنبية تناولت خبر استدعاء الملك عبد الله لعشرين شيخاً سلفياً بارزاً إلى الرياض، لإبلاغهم قرار منع التماس التبرّعات للمواطنين السوريين، في وقت أعلن عدد من هؤلاء من على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم ("تويتر" بشكل أساسي) تجاوبهم مع طلب السلطات.

ووفقاً للتقرير، تأتي هذه التحركات في مرحلة بالغة الحساسية تطبع العلاقات بين النظام ورجال الدين، حيث يحتدم الصراع بين الملك ورجال الدين المتشددين الذين يقفون في وجه الجهود الإصلاحية للنظام.

وفي إطار الحديث عن النشاط السياسي المتنامي لرجال الدين، يعتبر ويهري أن خطاب هؤلاء، المتعاطفين مع الأزمة السورية، ينسجم إلى حدّ بعيد مع السياسة السعودية الرسمية إزاء سوريا، وهو ما يساعد في إسباغ الشرعية الدينية على هذه السياسة. إذ يعمد هؤلاء إلى شيطنة نظام الأسد والعلويين عبر تصريحاتهم على "تويتر" و"فايسبوك"، وينادون بتدخل خليجي أكبر بما فيه زيادة تسليح المعارضة. ولكن ما سبق لا يشفع لهم لدى النظام. لقد ذهبوا بعيداً وتمادوا في الانحراف عن الخط الرسمي، فلم تعد تكفيهم الخطابات بل وصلوا إلى حدّ المطالبة المتشددة بالجهاد وتقديم المساعدة الإنسانية لإنقاذ السوريين، في دعوات تتجاهل الخطاب الرسمي. أما الخط الأحمر، فقد تجاوزته إحدى المجموعات وتسمى "لجنة العلماء لدعم سورية" حين أعلنت عن تشكلها عبر "فايسبوك" ووضعت أرقاما لحسابات مصرفية ليستخدمها المانحون المحتملون، كما نظمت حملة لجمع التبرعات في مسجد البواردي في الرياض. ويتولى رئاسة هذه المجموعة سبعة رجال دين من غير المؤيدين للنظام والمعروفين بدعواتهم السابقة للقتال في العراق، ومن بينهم سليمان العمر عبد الرحمن صلاح محمود وعبد العزيز بن مرزوق الطريفي.

أما سبب غضب النظام فيعود إلى أن الدعوات غير الرسمية إلى التدخل تخالف مرسوم العام 2010 الذي حصر مهمة إصدار الفتاوى بهيئة كبار العلماء المجازة رسمياً.

النظام الملكي يرسم الخط الأحمر

هكذا، بعد يومين من تشكلها، يتابع تقرير "كارنيغي"، أعلنت "لجنة العلماء لدعم سورية" على "فايسبوك" أنها توقفت عن قبول الهبات، وأن السلطات أوقفت حملة جمع التبرعات، كما نشر بعض المشايخ التابعين للجنة إعلاناً مشابهاً على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. الشيخ ناصر العمر أعلن أنه لم يعد يستقبل الهبات نتيجة لـ"تدخل ملكي"، في وقت أقر عبد العزيز الطريفي بـ"وقف الهبات حتى إشعار آخر". وتتسع اللائحة لتضم الشيخ محمد العريفي، الذي يحظى بشهرة واسعة وبأكبر عدد من المتتبعين على "تويتر" في المملكة، حيث قال إنه أجبر على "توقيع تعهد بالكف عن جمع التبرعات". كما كشف الشيخ حسن حامد أن جهاز المباحث زاره لهدف يتعلّق بهذا الموضوع. ونشر الشيخ سلمان العودة تعليقات على "تويتر" انتقد فيها قرار المنع انتقاداً واضحاً، واعتبر أن التبرّعات لسوريا لا تعتمد على قناة محدّدة، وأن الملتزمين إرسال الأموال سيجدون وسيلة أخرى لفعل ذلك".

من جهتها، اعتبرت صحيفة "الجزيرة" السعودية أن رجال الدين يستخدمون وجاهتهم لالتماس الأموال من مناصريهم لأهداف غير واضحة. وحذرت، في هذا الإطار، من أن "التاريخ سيعيد نفسه"، موضحة نقاط التشابه بين التجربة السعودية في البوسنة وأفغانستان والعراق. هناك، شكلت التبرعات باباً لتجنيد شبان سعوديين للانخراط في الصراع وانتهى بهم المطاف في يد "القاعدة" الذي شنّ هجمات على المملكة في وقت لاحق.

وفي هذا الإطار، يُشار إلى تأييد عدد من الصحف، المستقلة والموالية للنظام، لقرار المنع إما للوقوف دون وصول الأموال إلى الجهات الجهادية المتشددة وإما لضرورة التأكيد على احترام "القنوات الرسمية" التي ينبغي أن تكون المنفذ الوحيد للمواقف السعودية من سورية.

وفي وقت أشادت مصادر تابعة لوزارة الداخلية على "تويتر" بـ"اندفاع الشيوخ لعمل الخير"، ذهب النظام إلى التشدد في قراره أكثر، حيث أصدر مرسوماً عن هيئة كبار العلماء يمنع بوضوح الدعوات للجهاد في سوريا من خارج القنوات الرسمية.

سلطة رجال الدين تكبر؟

يعود التقرير ليؤكد أن "المخاوف من رجال الدين قد تكون في محلّها"، لكن ما يظهر أن هناك مسائل أكبر تدخل على الخط في هذه القضية. فهذه الأخيرة جزءٌ من صراع أشمل بين الملك عبد الله المناصر للإصلاح، وبين علماء الدين المتشدّدين الذين يعارضون جهوده. أما الجدير ذكره هو أن الشخصيات الدينية المناهضة للإصلاح تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي أكثر فأكثر، بهدف الالتفاف على القرارات الحكومية المانعة للفتاوى. وينظر النظام إلى تحرك رجال الدين الأخير على انه محاولة للتهرب من سلطة الملك عبر جذب الانتباه إلى قضية تحرك مشاعر السعوديين.

  • فريق ماسة
  • 2012-06-15
  • 5434
  • من الأرشيف

الأزمة السورية تثير صداما بين الملك السعودي ورجال الدين

العلاقة بين النظام السعودي ورجال الدين في حالة غليان. الصدام بينهما ليس جديداً. بدأ منذ فترة بالتفاعل، مع سلسلة الإقالات التي نفذها الملك عبد الله بحق أحد مستشاري الديوان الملكي ورئيس المطاوعين وغيرهم. لكنه اليوم يأخذ منحى أكثر خطورة وحساسية، فاقمه تحول الأزمة السورية إلى عنصر مركزي في الصراع بين الطرفين. اللافت في الأمر أن الجهتين تقفان على المسافة ذاتها من الصراع، حيث العدو واحد، لكنه في الوقت ذاته سبب تفجير الوضع. في التفاصيل: دعا عدد من رجال الدين، الذين يتمتعون بوجاهة ونفوذ واسعين، إلى الجهاد من أجل سورية ملتمسين التبرعات بشكل غير رسمي، في المقابل ثارت حفيظة الملك عبد الله الذي، وإن كان منخرطاً في الصراع ضد الخصم نفسه، اعتبر أن الدعوات غير الرسمية إلى التدخل تتجاوز الحدود المتاحة لاستقلالية رجال الدين، التي تمت قوننتها في مرسوم أصدره في العام 2010. في الواقع، يعود سبب تخوف النظام السعودي من الحملات الأخيرة لرجال الدين، رغم توغله إلى حدّ بعيد في استنهاض القوى الدولية للتدخل في سورية، من تجاوز هؤلاء للحدود، الأمر الذي بات يهدّد شرعية العائلة الحاكمة والأمن السعودي. وفي هذا الصدد يفنّد الباحث فريدريك ويهري في تقرير نشره معهد "كارنيغي" جوانب هذه العلاقة بين السلطة الملكية والسلطة الدينية، فضلاً عن خلفيات تأزمها وتداعيات هذا التأزم. وكانت الصحافة العربية والأجنبية تناولت خبر استدعاء الملك عبد الله لعشرين شيخاً سلفياً بارزاً إلى الرياض، لإبلاغهم قرار منع التماس التبرّعات للمواطنين السوريين، في وقت أعلن عدد من هؤلاء من على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم ("تويتر" بشكل أساسي) تجاوبهم مع طلب السلطات. ووفقاً للتقرير، تأتي هذه التحركات في مرحلة بالغة الحساسية تطبع العلاقات بين النظام ورجال الدين، حيث يحتدم الصراع بين الملك ورجال الدين المتشددين الذين يقفون في وجه الجهود الإصلاحية للنظام. وفي إطار الحديث عن النشاط السياسي المتنامي لرجال الدين، يعتبر ويهري أن خطاب هؤلاء، المتعاطفين مع الأزمة السورية، ينسجم إلى حدّ بعيد مع السياسة السعودية الرسمية إزاء سوريا، وهو ما يساعد في إسباغ الشرعية الدينية على هذه السياسة. إذ يعمد هؤلاء إلى شيطنة نظام الأسد والعلويين عبر تصريحاتهم على "تويتر" و"فايسبوك"، وينادون بتدخل خليجي أكبر بما فيه زيادة تسليح المعارضة. ولكن ما سبق لا يشفع لهم لدى النظام. لقد ذهبوا بعيداً وتمادوا في الانحراف عن الخط الرسمي، فلم تعد تكفيهم الخطابات بل وصلوا إلى حدّ المطالبة المتشددة بالجهاد وتقديم المساعدة الإنسانية لإنقاذ السوريين، في دعوات تتجاهل الخطاب الرسمي. أما الخط الأحمر، فقد تجاوزته إحدى المجموعات وتسمى "لجنة العلماء لدعم سورية" حين أعلنت عن تشكلها عبر "فايسبوك" ووضعت أرقاما لحسابات مصرفية ليستخدمها المانحون المحتملون، كما نظمت حملة لجمع التبرعات في مسجد البواردي في الرياض. ويتولى رئاسة هذه المجموعة سبعة رجال دين من غير المؤيدين للنظام والمعروفين بدعواتهم السابقة للقتال في العراق، ومن بينهم سليمان العمر عبد الرحمن صلاح محمود وعبد العزيز بن مرزوق الطريفي. أما سبب غضب النظام فيعود إلى أن الدعوات غير الرسمية إلى التدخل تخالف مرسوم العام 2010 الذي حصر مهمة إصدار الفتاوى بهيئة كبار العلماء المجازة رسمياً. النظام الملكي يرسم الخط الأحمر هكذا، بعد يومين من تشكلها، يتابع تقرير "كارنيغي"، أعلنت "لجنة العلماء لدعم سورية" على "فايسبوك" أنها توقفت عن قبول الهبات، وأن السلطات أوقفت حملة جمع التبرعات، كما نشر بعض المشايخ التابعين للجنة إعلاناً مشابهاً على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. الشيخ ناصر العمر أعلن أنه لم يعد يستقبل الهبات نتيجة لـ"تدخل ملكي"، في وقت أقر عبد العزيز الطريفي بـ"وقف الهبات حتى إشعار آخر". وتتسع اللائحة لتضم الشيخ محمد العريفي، الذي يحظى بشهرة واسعة وبأكبر عدد من المتتبعين على "تويتر" في المملكة، حيث قال إنه أجبر على "توقيع تعهد بالكف عن جمع التبرعات". كما كشف الشيخ حسن حامد أن جهاز المباحث زاره لهدف يتعلّق بهذا الموضوع. ونشر الشيخ سلمان العودة تعليقات على "تويتر" انتقد فيها قرار المنع انتقاداً واضحاً، واعتبر أن التبرّعات لسوريا لا تعتمد على قناة محدّدة، وأن الملتزمين إرسال الأموال سيجدون وسيلة أخرى لفعل ذلك". من جهتها، اعتبرت صحيفة "الجزيرة" السعودية أن رجال الدين يستخدمون وجاهتهم لالتماس الأموال من مناصريهم لأهداف غير واضحة. وحذرت، في هذا الإطار، من أن "التاريخ سيعيد نفسه"، موضحة نقاط التشابه بين التجربة السعودية في البوسنة وأفغانستان والعراق. هناك، شكلت التبرعات باباً لتجنيد شبان سعوديين للانخراط في الصراع وانتهى بهم المطاف في يد "القاعدة" الذي شنّ هجمات على المملكة في وقت لاحق. وفي هذا الإطار، يُشار إلى تأييد عدد من الصحف، المستقلة والموالية للنظام، لقرار المنع إما للوقوف دون وصول الأموال إلى الجهات الجهادية المتشددة وإما لضرورة التأكيد على احترام "القنوات الرسمية" التي ينبغي أن تكون المنفذ الوحيد للمواقف السعودية من سورية. وفي وقت أشادت مصادر تابعة لوزارة الداخلية على "تويتر" بـ"اندفاع الشيوخ لعمل الخير"، ذهب النظام إلى التشدد في قراره أكثر، حيث أصدر مرسوماً عن هيئة كبار العلماء يمنع بوضوح الدعوات للجهاد في سوريا من خارج القنوات الرسمية. سلطة رجال الدين تكبر؟ يعود التقرير ليؤكد أن "المخاوف من رجال الدين قد تكون في محلّها"، لكن ما يظهر أن هناك مسائل أكبر تدخل على الخط في هذه القضية. فهذه الأخيرة جزءٌ من صراع أشمل بين الملك عبد الله المناصر للإصلاح، وبين علماء الدين المتشدّدين الذين يعارضون جهوده. أما الجدير ذكره هو أن الشخصيات الدينية المناهضة للإصلاح تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي أكثر فأكثر، بهدف الالتفاف على القرارات الحكومية المانعة للفتاوى. وينظر النظام إلى تحرك رجال الدين الأخير على انه محاولة للتهرب من سلطة الملك عبر جذب الانتباه إلى قضية تحرك مشاعر السعوديين.

المصدر : الماسة السورية/ هيفاء زعيتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة