دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
خطف مسلحون 13 شرطياً وسائقاً من السويداء أثناء ذهابهم إلى عملهم في درعا. دبّ القلق بين الأهالي، وتحوّل إلى ردّ فعل قاسٍ، فخطفوا 240 مواطناً من قرى درعا ومزارعها. تفاوض وجهاء المحافظتين على مدى يومين متتاليين. تجاوبت الدولة سريعاً مع أي حلّ يراه الجميع مناسباً لوقف النزف. بعد ظهر أمس، جرى تبادل للمخطوفين، وأبرم اتفاق على ألا يتعرّض أحد للمدنيين، وأن الفتنة بين سهل حوران وجبله لا تخدم أحداً، لا بل تعوق حياة المواطنين، وتعرّض وحدة الأراضي السورية للخطر
الأحد يوم عمل عادي في سوريا. الأحد الماضي لم يكن كذلك بالنسبة إلى 13 شرطيّاً من أبناء محافظة السويداء. السادسة صباحاً، في بلدة خربا القريبة من الصنمين، خطفهم مسلّحون وسائق «الميكروباص» الذي يقلّهم إلى مراكز عملهم في مخافر درعا. خطف المسلحون معهم أنفاس أمهات وزوجات وأقارب. منذ اندلاع الأحداث السورية، قدمت السويداء 107 شهداء من الجيش السوري. قُتل 36 منهم في درعا، 5 في المواجهات مع المسلّحين و31 في كمائن فرديّة. خُطف المساعد أول نشأت العاقل، شقيق العميد نايف العاقل، في بلدة المليحة وقُتل. خُطف اثنان آخران وذبحا أيضاً.
عيّبهما «الجلادون» بأنّهما من المحافظة، وتناقلت الأصابع «فيديو» ذبحهم على الهواتف الجوّالة. صبرت السويداء وعضّت على الجرح، «كرمى لسوريا ووحدتها، لكنّ هؤلاء لهم أمهات تبكي عليهم» تقولها العيون قبل الألسن. «ما يهمّنا الآن سلامة أبنائنا» يقول شقيق أحد المخطوفين. التجارب السابقة سيّئة ودمويّة. لا يزال 8 من أبناء المحافظة العسكريين مجهولي المصير حتى الآن، أرياف حلب وحماة وحمص باتت «ثقوباً سوداء» بنظر أبناء السويداء، يختفي شبابهم فيها، كالرقيب أول يامن التقي، الذي اختفى قبل شهر ونصف الشهر ولم يعرف عن مصيره شيء حتى الساعة.
انفجرت مئة قرية في المحافظة غضباً هذه المرّة. ما لبث الخبر أن انتشر في القرى، حتى استنفر الشباب والشيوخ. كمين هنا وحاجز هناك، حوصرت كلّ الطرق المؤدية إلى درعا. وصلت الحواجز إلى قرية أذرع. دهم أهالي المخطوفين المزارع القريبة من المساحة الفاصلة بين المحافظتين. أوقفوا وسائط النقل العمومي بحثاً عن أبناء سهل حوران. حكم الجنون المحافظة ليومين متتاليين. لم تفلح نداءات المشايخ والمرجعيات في الهدوء، بقي الصراخ والخطف سيّدي الموقف. سرعان ما بدأ يرتفع عدد المختطفين من درعا: 50، 60، 100. رست الحصيلة النهائية على أكثر من 240 درعاويّاً مختطفاً. تعهّد الخاطفون أمام المشايخ والدولة والفعاليات بحفظ مخطوفيهم «بالحفظ والصون».
«شو درعا وشو السويداء؟ هاي اسمها حوران، سهل وجبل. نحن أهل، وطول عمرنا عايشين مع بعض بهالبلاد». يسود الصمت في حضرة الشيخ أبو وائل حمد الحنّاوي في خلوته في السهوة. يرتفع صوته رصانةً من جديد: «على أهالي السويداء تسليم جميع المخطوفين من درعا، ما ذنب الناس الأبرياء إذا فعل خارجون على القانون فعلتهم؟ من خطف الشباب ليسوا أهل حوران، هؤلاء المسلّحون غريبون عن أرضنا وديننا وثقافتنا، ودرعا لا تُقيّم بالمسيئين. الخطف لا يقابل بالخطف».
يعدّد الشيخ الحنّاوي سقف التحركات: سوريا فوق الجميع، حقن الدماء ووقف العنف، دعم الإصلاح السياسي الذي أعلنه الرئيس بشار الأسد، و«نحن طائفة المسلمين الموحدين». يهزّ الوزير السابق وئام وهّاب رأسه إيجاباً، «توجيهات الشيخ ومشايخ العقل أوامر». وهّاب أعطته السويداء ما لم ولن يعطيه الشوف إيّاه. حمله المتظاهرون وساروا به في الشوارع، استمعوا إليه يخبّرهم عن الفتنة التي يريدها أعداء سوريا أن تقع، تحديداً بين الدروز والسنّة. أخبرهم وهّاب كيف قامت «ثورةٌ عظيمة» في جبل العرب، كيف طرد أجدادهم المستعمر الفرنسي عن أرض سوريا. الثورة كان فتيلها أن ضيفاً نزيلاً على «بطلهم» سلطان باشا الأطرش اسمه أدهم خنجر «ثائر جبل عامل في زمانه»، اعتقله الفرنسيون من بيت الأطرش. «قامت ثورة لأن ضيفاً خُطف. علينا أن نحافظ على هؤلاء الناس، هم أمانة في أعناقكم»، سمع المعتصمون وهّاب، صوّروه بهواتفهم وأنصتوا إليه بقليل من الرضّى «عليكم إطلاق سراح المخطوفين، هؤلاء لا ذنب لهم». لو ترشّح وهّاب في السويداء لحصد أصوات المحافظة جميعها دون منازع. الناس هنا تريد من يقودها. هتفت السويداء باسمه «ما منخطي خطوة لأمام، من دونك أستاذ وئام». هتفت لحياة سوريا، صور الرئيسين حافظ وبشار ليست معلّقةً فقط في بيت شيخ العقل، معلّقة في الساحات أيضاً. حتى حين غضبت السويداء وقطعت الطرقات واعتصمت أمام المحافظة: «نحن رجالك يا بشّار» يتردّد صدى الهتاف فوق سهول القمح الأصفر والزيتون.
في قنوات، كان الشيخ الهجري يخبّر زوّاره الآتين من جرمانا (إحدى ضواحي دمشق) بما آلت إليه المفاوضات مع الخاطفين. الشيخ أرخى لحيته حديثاً بعد وفاة شقيقه الشيخ الراحل أحمد سلمان الهجري، وبات هو شيخ العقل الأول الجديد. في دارة الشيخ أيضاً صورة للشيخ أحمد، وفي الوسط صورة للرئيس بشار الأسد. «ما جينا للفزعة، جينا نشوفك يا شيخ ونطّمن» يقولها الرجل. فـ«الفزعة» هي آخر ما يفكّر فيه أبناء جبل العرب «ما دام هناك الجيش السوري والدولة السوريّة». تحدّث الشيخ عن أواصر المحبّة التي تربط أبناء سوريا بعضهم ببعض. حديث الوطنية عنده يطول «نحن سوريون أولاً وأخيراً».
الشيخ حسين جربوع له حديث في «الاستراتيجيا الدوليّة». يقتنع الشيخ بأن «الاستعمار هو نفسه، لكنّه أخذ شكلاً جديداً». «الناتو بات يقاتل بالمرتزقة، لم يعد يفرّط بجنوده. يأتينا بظاهرة الأفغان العرب الجدد لتدمير بلادنا». صوت «الحدى والأغاني الشعبيّة» يطرق مسامع الشيخ حسين. المتظاهرون تحت شرفته. يخرج إليهم هو وضيفه وهّاب أيضاً. «يا شباب النخوة، اطّمنوا ولادنا بخير، رح يرجعوا بكرا». يجهد لامتصاص نقمة الغاضبين. الغاضبون لا يسمعون صوت تهدئة. هم فقدوا أعزاء لهم في مرات سابقة. باتت السويداء بشيبها وشبابها تريد السلاح. ترك أبناؤها الحقول والمصانع في صلخد وشهبا وشفا و«استادين رياضيَين» وطلبوا السلاح «نريد الدفاع عن أنفسنا». فجأة، تحوّل المسالمون الراكنون في بساتين الزيتون والكرز والمشمش وكروم العنب والتين إلى غاضبين يقطعون الطرقات ويرغبون السلاح: «لم نرَ بيوتنا منذ الأحد، صرلنا يومين على الطريق، مش طالعين ليرجعوا، سلّحونا سلّحونا» يصرخ الشباب دون كلل أو ملل.
صور الرئيسين حافظ وبشار معلقة في بيت شيخ العقل والساحات أيضاً
تحت طبقة الصياح، كان الشيخ الحناوي يقود مفاوضات عسيرة مع المسلحين في درعا. أدهم عبّود، أو «أبو الهيجة»، على الخطّ المقابل من الهاتف. «يا شيخ، بدنا جثث تحتجزها الدولة» يقول أبو الهيجة إن سبب الخطف لا يتعلّق بطائفة الجنود أو قراهم. هم بنظره جنود بشّار الأسد، وعلى أهالي السويداء الضغط على الدولة السوريّة لتسليم الجثث. يجتمع المشايخ ويتناقشون في ما بينهم. يمتد الاجتماع لأكثر من ساعتين. على مقلب الدولة، يعتقد القيّمون والمحافظ أن هذه حجّة واهية. لا سبب لدى الدولة لتحتجز الجثث. هي طلبت من الأهالي التعرّف إلى جثث أبنائهم لتسلّمهم إياها. والجثث هي لمسلحين قتلوا في المواجهات مع الجيش. يقدّر المشايخ ووجهاء المحافظة ما قامت به الدولة. هي تجاوبت سريعاً للعمل على إطلاق الشرطيين المخطوفين. سلّمت يوم الاثنين خمس جثث كبادرة حسن نيّة، وتابعت التسليم في اليوم التالي.
التململ في درعا نفسها كان كبيراً أيضاً. ما جناه المسلّحون على المحافظة هو أكثر ممّا تحتمل. فاعليات المدينة والقرى لا ترى طائلاً من الخطف. ما ذنب الأبرياء في المحافظتين؟ «الجنود جنود وعليهم البقاء في وظائفهم، فكيف حال عناصر الشرطة الذين لا حول لهم ولا قوّة في ظلّ الفوضى؟» يشتكي أهالي درعا أيضاً من المسلحين القادمين عبر الحدود الأردنية. هناك في «جبال اللجى» ينتشر المقاتلون الليبيون وبعض العرب من جنسيات أخرى.
مضت ليلتان وحوران تغلي. المفاوضات بين الشيخ الحناوي وأبو الهيجة أثمرت. عند الثالثة من بعد ظهر أمس، التقى وجهاء من المحافظتين في منطقة قريبة من قرية بصرى. تبادل الطرفان المخطوفين. لم تسقط قطرة دم واحدة. «عسى أن تكون هذه تجربة للمستقبل. لا نريد للفتنة أن تقع، ولن تقع» ينادي أحد المشاركين في عمليّة التسلّم والتسليم. التجربة أفرزت اتفاقاً بين الوجهاء في المحافظتين: المساس بأي مدني ممنوع. الخطف والخطف المقابل مرفوض، وثقافة غريبة عن أهل السهل والجبل، ومن يخرق الاتفاق أولاً يحمّل مسؤولية المضاعفات كاملة، «تمّ ضبط الشارع هذه المرّة، من يضمن الضبط في المرّة المقبلة؟».
على هامش عمليّة التبادل، يدور النقاش بين الدولة وفاعليات محافظة السويداء. بين المحافظتين وحدة حياة ووحدة مصالح. الموظفون الرسميون وأصحاب المصالح يحتاجون إلى وحدة الحياة هذه. يعمل في درعا أكثر من 1000 شرطي و600 مدرّس ومدرّسة. من يكفل ألا يتعرّض المسلّحون لهم وتقوم الدنيا ولا تقعد؟ هناك من يقترح نقل المدرسين وعناصر الشرطة إلى دمشق وريفها، واستبدالهم بدمشقيين، إلى أن تمرّ الأزمة. الحلّ يبدو «منطقيّاً» لتفادي الفتنة في ظلّ وجود مسلحين وغرباء في محافظة درعا. أليس في الواقع تكريساً للانقسام؟ يردّ المعنيون: «الذي رماك على المرّ، الأمرّ منه».
من قال إن البلاد في حرب؟ شمس السابعة صباحاً تكسر البرد. عمّال التنظيفات يلتقطون النفايات الصغيرة في ساحة دوّار المحافظة ويعيدون إلى المدينة نقاءها. هناك على الكورنيش الغربي من يسقي الشتول والزهور . «قساطل المياه» الضخمة على جوانب الطرق، وأعمال التحسين تسير بشكلها الطبيعي. هناك من ينقل أعمدة كهرباء جديدة ويضعها قرب الطريق العام حيث حفر لها. هي موجات جنون تأتي وتروح. قد لا يمرّ كل يومٍ على خير. ففي خضمّ الألم في السويداء كانت مجموعة مسلحة تقطع الطريق بين المحافظة والشام في قرية اسمها خريبة الشيات.
المصدر :
الاخبار/فراس الشوفي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة