ما كان حتى الأمس مجرد وجهة نظر تحوّل الى يقين خلال الأيام الماضية. السلاح منتشر على نطاق لبناني واسع، وهو متوافر لدى الكثير من الأطراف الداخلية، ولعناوين لا تتصل بمحاربة إسرائيل.

هذا ما ظهر بوضوح مدوٍّ في اشتباكات طرابلس الدامية، حيث قام المسلحون بعروض قوة صريحة، تحت الشمس، واحتاج الأمر الى أكثر من أسبوع لإقناعهم بالانكفاء وقبولهم بانتشار الجيش، ثم تكرّر المشهد مختزناً دلالات أشد خطورة في الطريق الجديدة في قلب بيروت، حيث دارت معركة حقيقية بين أنصار "تيار المستقبل" وأنصار "حزب التيار العربي" برئاسة شاكر البرجاوي، أستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الرشاشة والصاروخية وتسببت بأضرار فادحة وسقوط قتلى وجرحى وانتهت بخروج الأخير من المنطقة، فيحجز بذلك 20 أيار 2012 مكاناً متقدماً له في روزنامة التواريخ الفارقة.

والمفارقة أن أصحاب شعار رفض استعمال السلاح في الداخل، والذين لا يملّون من الدعوة الى نزعه، أينما وُجد، لم يترددوا - هم أنفسهم - باستعماله في عمق الداخل، وتحديداً في العاصمتين الأولى والثانية، بحيث بدا أن شعارهم المركزي الذي خاضوا على أساسه معاركهم السياسية والانتخابية، وما زالوا، قد أصيب بـ"نيران صديقة" جعلته ينزف الكثير من مصداقيته، ووضعت مطلقيه في زاوية ضيقة للغاية.

ومن راقب مجريات أحداث ليل الأحد ـ الاثنين الفائت في شوارع العاصمة، تبدّى أمامه مشهد سوريالي: ملثمون يقطعون الطرق بين نقطة عسكرية للجيش قبالة دار الطائفة الدرزية في فردان وبين سيار الدرك (ثكنة قوى الأمن الداخلي)، فيما كانت طرقات العاصمة تشهد حالة من التفلت، التي كان يمكن أن تودي الى سلسلة اشتباكات، خاصة في مناطق التماس التقليدية لولا وجود قرار مركزي من بعض قوى 8 آذار بعدم الانجرار الى أي اشتباك سني ـ شيعي.

وفي هذا السياق، يتوقف الرئيس نبيه بري أمام ما كشفته وقائع الأيام الماضية من انتشار كثيف للأسلحة في الشوارع واستخدامه في معارك حقيقية روّعت الناس، مشدداً على ان هذا النوع من السلاح العبثي هو الذي يشكل خطراً على السلم الاهلي والحياة السياسية، وليس سلاح المقاومة الذي لن يستخدم في الداخل، لأن صواريخ المقاومة موجودة لمواجهة إسرائيل وغير قابلة أصلاً للاستعمال في ميدان آخر. ويتساءل: ماذا سيقول الآن اصحاب نظرية "لا نسبية في ظل السلاح" بعد كل ما جرى مؤخراً؟

ويرى بري أن الأحداث المتلاحقة في عكار والطريق الجديدة أثبتت صوابية دعوته إلى التئام طاولة الحوار بشكل عاجل، بعد اشتباكات طرابلس، لافتاً الانتباه الى انه لو تم التجاوب مع دعوته، لأمكن ربما تفادي ما حصل لاحقاً، لأن خطر الفتنة لا يُواجه إلا بالحوار.

ولئن كانت مواقف الرئيس سعد الحريري وبيانات "تيار المستقبل" قد تجنبت تبني حملة السلاح وقاطعي الطرق، وتمسكت بالوقوف على مسافة منهم، إلا أن هذه المسافة الافتراضية بين القيادة والشارع تضع الحريري أمام احتمالين، أحلاهما مرّ:

الأول، ان تكون سيطرة الحريري على بيئته التقليدية قد ضعفت الى الحدّ الذي جعل الامور تفلت منه في مناطق محسوبة عليه، وصولاً الى عقر دار "المستقبل" في الطريق الجديدة، وذلك نتيجة ابتعاده الطويل عن ساحته او بفعل خلل تنظيمي وربما سياسي في ماكينته، وعندها تكون المصيبة كبيرة، لأنه ليس أمراً بسيطاً ان تتراجع قدرة الحريري على إدارة شارعه بهذا الشكل، فيصبح عاجزاً عن فتح طريق او منع إطلاق النار، بينما يُسجل في المقابل صعود واضح لاتجاهات سلفية وإسلامية بدا أنها باتت "شريكة" في القرار على الارض، كما اتضح من تجربة طرابلس الأخيرة.

ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن "المستقبل" سيدفع من كيسه ثمن لعبته مع السلفيين، لافتين الانتباه الى ان الولايات المتحدة والسعودية صنعتا أسامة بن لادن لمواجهة "الاتحاد السوفياتي" السابق في أفغانستان ثم ارتدّ عليهما لاحقاً فكانت هجمات 11 أيلول والعمليات الإرهابية في السعودية، وكذلك النظام السوري تواطأ مع "القاعدة" واستخدمها لمواجهة الأميركيين في العراق ثم ارتدت عليه الآن في عمق ساحته، ليأتي الدور على "تيار المستقبل" الذي تولى رعاية القوى السلفية في بداية ظهورها لتوظيفها ضد "حزب الله" ودمشق وها هي اليوم تأكل من رصيده وحجمه وتشكل خطراً عليه.

أما الاحتمال الثاني، فهو يقود الى افتراض ان يكون ما حصل في الطريق الجديدة وطرابلس ومناطق أخرى محسوبة على "المستقبل" قد تم بتغطية من الحريري، او بغض طرف منه، سعياً الى بلوغ الأهداف الآتية:

- تحقيق نوع من "التوازن التفاوضي" مع سلاح "حزب الله"، فيصبح سلاح الشمال وبيروت في مقابل سلاح الجنوب والضاحية، ما يعزز موقع الحريري و14 آذار في معركتهما ضد الحزب، ويضيف الى جعبتهما ورقة للمقايضة في حال انعقاد طاولة الحوار مجدداً.

- مضاعفة الضغط على الرئيس نجيب ميقاتي، وإظهاره مع حكومته بمظهر العاجز عن ضبط الأمن وحماية الناس، بما يؤدي الى تهشيم صورته، خصوصا في الساحة السنية، على بُعد عام من الانتخابات النيابية.

- توجيه رسالة الى الجيش بضرورة تغيير سلوكه على الأرض، ولاسيما في ما خص أسلوب مقاربته لملف تداعيات الازمة السورية على لبنان.

  • فريق ماسة
  • 2012-05-21
  • 8342
  • من الأرشيف

من طرابلس الى الطريق الجديدة: سلاح الداخل يجاهر بهويته

ما كان حتى الأمس مجرد وجهة نظر تحوّل الى يقين خلال الأيام الماضية. السلاح منتشر على نطاق لبناني واسع، وهو متوافر لدى الكثير من الأطراف الداخلية، ولعناوين لا تتصل بمحاربة إسرائيل. هذا ما ظهر بوضوح مدوٍّ في اشتباكات طرابلس الدامية، حيث قام المسلحون بعروض قوة صريحة، تحت الشمس، واحتاج الأمر الى أكثر من أسبوع لإقناعهم بالانكفاء وقبولهم بانتشار الجيش، ثم تكرّر المشهد مختزناً دلالات أشد خطورة في الطريق الجديدة في قلب بيروت، حيث دارت معركة حقيقية بين أنصار "تيار المستقبل" وأنصار "حزب التيار العربي" برئاسة شاكر البرجاوي، أستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الرشاشة والصاروخية وتسببت بأضرار فادحة وسقوط قتلى وجرحى وانتهت بخروج الأخير من المنطقة، فيحجز بذلك 20 أيار 2012 مكاناً متقدماً له في روزنامة التواريخ الفارقة. والمفارقة أن أصحاب شعار رفض استعمال السلاح في الداخل، والذين لا يملّون من الدعوة الى نزعه، أينما وُجد، لم يترددوا - هم أنفسهم - باستعماله في عمق الداخل، وتحديداً في العاصمتين الأولى والثانية، بحيث بدا أن شعارهم المركزي الذي خاضوا على أساسه معاركهم السياسية والانتخابية، وما زالوا، قد أصيب بـ"نيران صديقة" جعلته ينزف الكثير من مصداقيته، ووضعت مطلقيه في زاوية ضيقة للغاية. ومن راقب مجريات أحداث ليل الأحد ـ الاثنين الفائت في شوارع العاصمة، تبدّى أمامه مشهد سوريالي: ملثمون يقطعون الطرق بين نقطة عسكرية للجيش قبالة دار الطائفة الدرزية في فردان وبين سيار الدرك (ثكنة قوى الأمن الداخلي)، فيما كانت طرقات العاصمة تشهد حالة من التفلت، التي كان يمكن أن تودي الى سلسلة اشتباكات، خاصة في مناطق التماس التقليدية لولا وجود قرار مركزي من بعض قوى 8 آذار بعدم الانجرار الى أي اشتباك سني ـ شيعي. وفي هذا السياق، يتوقف الرئيس نبيه بري أمام ما كشفته وقائع الأيام الماضية من انتشار كثيف للأسلحة في الشوارع واستخدامه في معارك حقيقية روّعت الناس، مشدداً على ان هذا النوع من السلاح العبثي هو الذي يشكل خطراً على السلم الاهلي والحياة السياسية، وليس سلاح المقاومة الذي لن يستخدم في الداخل، لأن صواريخ المقاومة موجودة لمواجهة إسرائيل وغير قابلة أصلاً للاستعمال في ميدان آخر. ويتساءل: ماذا سيقول الآن اصحاب نظرية "لا نسبية في ظل السلاح" بعد كل ما جرى مؤخراً؟ ويرى بري أن الأحداث المتلاحقة في عكار والطريق الجديدة أثبتت صوابية دعوته إلى التئام طاولة الحوار بشكل عاجل، بعد اشتباكات طرابلس، لافتاً الانتباه الى انه لو تم التجاوب مع دعوته، لأمكن ربما تفادي ما حصل لاحقاً، لأن خطر الفتنة لا يُواجه إلا بالحوار. ولئن كانت مواقف الرئيس سعد الحريري وبيانات "تيار المستقبل" قد تجنبت تبني حملة السلاح وقاطعي الطرق، وتمسكت بالوقوف على مسافة منهم، إلا أن هذه المسافة الافتراضية بين القيادة والشارع تضع الحريري أمام احتمالين، أحلاهما مرّ: الأول، ان تكون سيطرة الحريري على بيئته التقليدية قد ضعفت الى الحدّ الذي جعل الامور تفلت منه في مناطق محسوبة عليه، وصولاً الى عقر دار "المستقبل" في الطريق الجديدة، وذلك نتيجة ابتعاده الطويل عن ساحته او بفعل خلل تنظيمي وربما سياسي في ماكينته، وعندها تكون المصيبة كبيرة، لأنه ليس أمراً بسيطاً ان تتراجع قدرة الحريري على إدارة شارعه بهذا الشكل، فيصبح عاجزاً عن فتح طريق او منع إطلاق النار، بينما يُسجل في المقابل صعود واضح لاتجاهات سلفية وإسلامية بدا أنها باتت "شريكة" في القرار على الارض، كما اتضح من تجربة طرابلس الأخيرة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن "المستقبل" سيدفع من كيسه ثمن لعبته مع السلفيين، لافتين الانتباه الى ان الولايات المتحدة والسعودية صنعتا أسامة بن لادن لمواجهة "الاتحاد السوفياتي" السابق في أفغانستان ثم ارتدّ عليهما لاحقاً فكانت هجمات 11 أيلول والعمليات الإرهابية في السعودية، وكذلك النظام السوري تواطأ مع "القاعدة" واستخدمها لمواجهة الأميركيين في العراق ثم ارتدت عليه الآن في عمق ساحته، ليأتي الدور على "تيار المستقبل" الذي تولى رعاية القوى السلفية في بداية ظهورها لتوظيفها ضد "حزب الله" ودمشق وها هي اليوم تأكل من رصيده وحجمه وتشكل خطراً عليه. أما الاحتمال الثاني، فهو يقود الى افتراض ان يكون ما حصل في الطريق الجديدة وطرابلس ومناطق أخرى محسوبة على "المستقبل" قد تم بتغطية من الحريري، او بغض طرف منه، سعياً الى بلوغ الأهداف الآتية: - تحقيق نوع من "التوازن التفاوضي" مع سلاح "حزب الله"، فيصبح سلاح الشمال وبيروت في مقابل سلاح الجنوب والضاحية، ما يعزز موقع الحريري و14 آذار في معركتهما ضد الحزب، ويضيف الى جعبتهما ورقة للمقايضة في حال انعقاد طاولة الحوار مجدداً. - مضاعفة الضغط على الرئيس نجيب ميقاتي، وإظهاره مع حكومته بمظهر العاجز عن ضبط الأمن وحماية الناس، بما يؤدي الى تهشيم صورته، خصوصا في الساحة السنية، على بُعد عام من الانتخابات النيابية. - توجيه رسالة الى الجيش بضرورة تغيير سلوكه على الأرض، ولاسيما في ما خص أسلوب مقاربته لملف تداعيات الازمة السورية على لبنان.

المصدر : عماد مرمل\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة