يعدّ صاحب «الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر» (1989)، الباحث والمؤرخ التونسي، هشام جعيّط، من أهم المختصين بتاريخ الفكر الإسلامي، هو الذي يدرس ويبحث منذ سنوات في مسألة العالمين العربي والإسلامي وعلاقتهما بالحداثة. وبعد سنوات قضاها بين التعليم والكتابة والبحث والتأريخ، كرمت تونس الثورة مؤرخها الأهم ربما، إذ عيّنت وزارة الثقافة جعيّط مديراً لـ«المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ـــ بيت الحكمة»، في 17 شباط الماضي، بعدما عانى التضييق من قبل النظام التونسي السابق. وفي هذه المناسبة، تنشر «الأخبار» حواراً أجرته معه جريدة «المغرب» التونسيّة، في ١٢ و١٤ شباط الماضي

زهرة فضلي, زياد كريشان, الهاشمي الطرودي

 

■ كيف تقوّم وضع البلاد بعد مرور سنة على الثورة، وأشهرٍ على الانتخابات؟

في الجانب المؤسساتي، يمكن القول إنّ تونس نجحت في تركيز مؤسسات قوية. ووقع الاتفاق بين أطراف متعددة وأصبح لدينا مجلس تأسيسي ورئيس جمهورية ورئيس حكومة، لقد تم إرساء هذه المؤسسات بعد أقل من سنة من اندلاع الثورة. وهذا أمر إيجابي ... ولو أنّني كنتُ أفضّل لو حصل هذا في فترة أوجز، ومع ذلك فهذا جيد مقارنةً بما يحصل الآن في مصر. لقد تزامنت ثورتها مع ثورتنا، لكن الشباب المصري والثوريين اضطروا عدة مرات إلى التظاهر والاحتجاج من أجل الضغط على الحكم العسكري، إلى أن تمكنوا أخيراً من انتخاب برلمان ... أما ثورة ليبيا فلا يمكن أن نقارنها بثورتنا لأنّها كانت ثورة مسلحة. أما سوريا، فذاك شأن آخر ... لقد كان من لطف الله أنّ ثورتنا لم تخلّف وراءها خسائر بشرية كبيرة. كما أن الرئيس السابق فرّ إلى الخارج وهذا أفضل.

 

هذه حصيلة إيجابية إذا أخذنا بعين الاعتبار الاضطرابات التي شهدتها السنة الأولى من عمر الثورة. لقد تمكّن السيد الباجي قائد السبسي من طمأنة المواطنين والسيطرة على الوضع، وقد نجح إلى حد ما وهو يشكر على ذلك ... لكن رغم وجود حكومة جديدة ودولة جديدة ـــــ إلا أن الثورة مستمرة. فالانفلات الأمني، وتواصل العنف، وتراجع الاقتصاد، والاضطرابات الاجتماعية مستمرة ويمكن أن يتواصل هذا الوضع لسنوات طويلة إنْ لم تتخذ إجراءات حازمة وصارمة.

 

■ استمرار الثورة، رغم وجود مؤسسات شرعية، هل يعود إلى الجدلية التاريخية أم أنّه متأتٍّ من ضعف أداء السلطة الجديدة؟

يعود إلى السببين، فالثورة لا يمكن أن تنتهي بسرعة لأنّ الناس اكتشفوا حرياتهم وكأنّهم يريدون أن يجربوا حرياتهم كما يشاؤون ولو بإفساد الأمور، يعتبرون أنفسهم أحراراً وهم لا يعرفون معنى الحرية لأنّهم لم يجربوها في عهد بن علي ولا في عهد بورقيبة، ولا في عهد الاحتلال الفرنسي ولا حتى في عهد البايات. إذاً هذا شعور جديد يشعر به الشعب التونسي الذي يعيش نشوة الحرية، يفعل ما يشاء. من الصعب، في الحقيقة، نهيه عن ذلك ـــــ انظر إلى الثورة الفرنسية مثلاً، فقد استمرت عشر سنوات إلى حين قدوم نابوليون بونابرت، وإيقافها، نحن لا نريد أن يأتي نابوليون، نحن نريد أن نقيم دولة حقوق ونقيم ديموقراطية حقيقية، وهذه الديموقراطية تتطلّب من المواطنين والحكام ومن جميع الأطراف الانضباط والخضوع للقوانين، وهذا غير ممكن الآن ... لكن في المستقبل قد يكون ممكناً، يخامرنا الشعور أحياناً بأنّ الشعوب العربية غير مستعدة الآن للديموقراطية، وبخاصة الفئات الشعبية الفقيرة والعاطلون من العمل. فالأولوية لدى هذه الفئات هي القوت اليومي. ثم إنّ ثقافة الديموقراطية تقوم على الحرية وعلى الخضوع للقوانين، وبما أنّ الحكومة الحالية منتخبة، فلا بد لها من الإيفاء بالوعود التي من أجلها قامت الثورة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نحمّل الشعب بمفرده مسؤولية ما يحصل الآن من اضطرابات وانفلات أمني واعتصامات وإيقاف للعجلة الاقتصادية.

 

■ مَن يتحمّل مع الشعب المسؤولية؟

بعض العناصر من إدارة الأمن والداخلية مثلاً، هذا بالإضافة إلى عدم تفهّم المؤسسات الحاكمة للوضع الحالي، فهي تتعامل مع الأوضاع بتراخٍ ولم تبدِ استعداداً للقيام بتغييرات جذرية إلا أخيراً وبعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء حمادي الجبالي ... ظهر التراخي مثلاً في القضاء، إذ لم يتحسن ولم يصدر أحكاماً حقيقية. ينسحب هذا أيضاً على المحكمة العسكرية التي لم تبتّ إلى حد الآن أمر بن علي وعائلته وأصهاره. وفي كل مرة، يتم تأجيل إصدار الأحكام ... ولكن الأرجح أن ما يحصل في تونس هو اضطراب وعدم مقدرة على التحكّم بالأوضاع. الشيء نفسه ينسحب على الأمن، فإلى أحد الآن لم يحلّ البوليس السياسي، كما لاحظنا أنّ إدارة الأمن تقف ضد القرارات التي يصدرها وزير الداخلية. وفي المقابل تخشى الحكومة من أن تُتّهم بالقمع، بيد أنّ القمع ضروري الآن وإلى أن تستقيم أحوال البلاد.

 

■ ما معنى أن القمع ضروري؟

يعني أنّ مَن لا يستجيب للأوامر الصادرة عن الحكومة في الإدارات مثلاً يزاح من مكان، وإنْ احتجّ يوضع في السجن. ما دامت الدولة تحتكم إلى القانون ـــــ ولا أقصد هنا القوانين المدنية ـــــ فلا بد إذاً من التطبيق ... وأرى من المهم جداً أن يتم إيقاف المعتدين أمام المحكمة العسكرية، على غرار ما فعله الجيش المصري الذي حاكم بسرعة فائقة كل العناصر المشتبه فيها.

 

■ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى الاعتقاد بأن الحكام الجدد ينتقمون من خصومهم؟

من المفترض عدم فهم ذلك بصورة خاطئة، فالخصم الوحيد هو البوليس السياسي. أما الأشخاص الذين يقومون بقطع الطرق فهم من عامة الناس وليسوا من البوليس السياسي أو من الأعداء.

 

■ ألا يمكن أن ينجم عن ذلك غليان شعبي، أو عصيان مدني؟

يمكن المدينةَ أن تدخل في إضراب، ومع ذلك يمكن محاكمة 200 أو 300 شخص من المعتدين على القانون. وإلى جانب القمع، هناك عمل آخر يجب القيام به، وهو الإسراع في إصلاح أوضاع البلاد. وأعتقد أنّ أسباب ضعف الحكومة أو بالأحرى ضعف النخبة الحاكمة أنّها ما تزال تفكّر في الاقتصاد بصفة كلاسيكية، فعن أي استثمارات وتنمية يتحدثون؟ التنمية مسألة قديمة تم الخوض فيها بعد الاستقلال، كما أنّ الحديث عن جلب الاستثمار الخارجي في مثل هذه المرحلة أمر لا يجدي نفعاً. لا يمكن جلب الاستثمارات ولا حتى القروض لأنه لا يمكن التعويل على أوروبا ولا على الولايات المتحدة، ولكن هناك دولاً أخرى مهمة مثل تركيا، إذ بإمكانها أن تقرض تونس مبلغاً هاماً نحن في حاجة إليه الآن. كما يمكن أن نتجه إلى اليابان أو البنك الأفريقي. أما دول أوروبا فلا يمكن أن يعوّل عليها في الوقت الراهن ومن الأفضل ألا نعوّل عليها. نظراً أولاً إلى الأزمة الاقتصادية، وثانياً لأنّني أعتبر أن الاستنجاد بفرنسا وأوروبا ليس بالجيد، رغم أن علاقتنا التجارية قوية بها ويجب الإبقاء عليها. لقد بقينا إلى حد الآن دولة تابعة لأوروبا ولم ننجح في الاستقلال عنها، هذا لا يعني أن نقطع علاقتنا تماماً بأوروبا، هذا صعب لأننا لسنا بلداً ثرياً، كما لا يمكن في الآن نفسه أن نفقد معنى الاستقلال. وهذا ما يطالب به السلفيون والذي يترجم عبر تمسكهم بالحجاب ورفضهم للعلمانيين. فهم يعتبرونهم خونة وأتباعاً لفرنسا. والحقيقة أن حزب فرنسا موجود في تونس وحزب أوروبا موجود وحزب أميركا موجود أيضاً.

 

■ وماذا عن البقية، هل تعتبرهم حزب تونس أم حزب السعودية أم حزب قطر؟

قطر هي حزب النهضة والتي بدورها هي حزب أميركا، فقطر ما هي إلا حصان تروّضه أميركا.

 

■ الجميع يتحدث عن ربيع إسلامي، ويعني أنّ هذه الثورات ساهمت في صعود الإسلاميين إلى الحكم، فهل سيكون لذلك انعكاسات على مستقبل العالم العربي والإسلامي؟

التيار الإسلامي اشتغل أكثر من ثلاثين سنة وصارت له شعبية، ولئن كنتُ أعتبرها محدودة، لكن مع ذلك فهو الأقدر على مسك زمام الحكم، وهذا خيار تاريخي. يبقى السؤال إن كان سيتواصل حكمهم أو لا، أما في تونس فالمسألة رهن بسنة فقط ثم ننتظر. كما أنني أرفض أن تقع حرب بين العلمانيين والإسلاميين، لأنّها ستكون حرباً أهلية ولن نجني منها شيئاً. الحديث عن حرب بين العلمانيين والإسلاميين لا ينمّ إلا عن تفكير بسيط. هؤلاء الإسلاميون يريدون أن يلبسوا على طريقتهم، فما المانع من ذلك؟ الإسلاميون لن يبقوا في الحكم سوى سنة واحدة فقط، أي إلى حين إجراء الانتخابات. وعلى كلٍّ فهم لا يستطيعون أن يقوموا بإجراءات تنعكس عليهم سلباً كالمسّ بمطالب الثورة. هذا علاوة على أنّ الفكر الديموقراطي انغرس في الشعب التونسي، ومن المستحيل العودة مجدداً إلى الديكتاتورية ... وأعتقد أنّ هذا التخوّف من الغول الكبير الذي اسمه الإسلاميّون والسلفيّون تخوّف محدود.

 

■ كيف تفسّر نجاح حزب حركة النهضة بـ 37% من أصوات الناخبين وغياب التوازن بين الأحزاب، رغم أنّ الإسلاميين يمثلون الثلث فقط؟

من الجيّد أنّ الإسلاميين لا يمثلون سوى الثلث، وأهم دليل على ذلك أنّهم أجبروا على التحالف مع أحزاب أخرى، ولولا هذا التحالف لما استطاعوا أن يحصلوا على أغلبية الأصوات في المجلس التأسيسي، وهذا من لطف الله، ليس لأنّ الإسلاميين سيحكمون بالشريعة وسيقطعون الأيدي والأرجل، وإنما لأنّنا لا نرغب في أن يتكرر ما عشناه طوال 50 سنة وهو وجود حزب واحد يحكم البلاد.

 

■ وهل سيحتكمون فعلاً إلى الشريعة وما يتطلّبه ذلك من قطع للأيدي والأرجل؟

إنها مجرد تخوّفات. ولن يتأثر بالدعوات إلى تطبيق الشريعة سوى الشباب الغبي والجاهل، مثلما أنّ هنالك شباباً غبياً يتأثر بتيار آخر ... المشكل يتمثل في أنّ الحركة الإسلامية هي حركة شعبوية على غرار حزب بورقيبة. لقد كان في الظاهر حزباً شعبوياً، لكنّه في الواقع يتكوّن من نخبة مثقفة درست في فرنسا. فالنهضة هي شعبوية إلى حد ما، لأنّها لو كانت بمثل شعبوية حزب بورقيبة لحصلت على 60 أو 70% من الأصوات في الانتخابات، إلا أنّها لم تحصل إلا على نسبة 37%، وهذا يعني أنّ قسماً فقط من الشعب في صفها، والبعض منه قد يتراجع عن مساندة هذا الحزب لأنّ القسم الذي صوّت له يمثّل فئات من البورجوازية الصغيرة تؤمن بالمبادئ الإسلامية، وقسماً آخر من الفقراء كان ينتظر من النهضة أن تقدم له مساعدات مالية، وهو ما لم يحصل، وهذا قد يؤثر بدوره على نتائج الانتخابات المقبلة. أما في ما يتعلق بكون حركة النهضة نخبوية أو لا، فلا أعتقد. على كلٍّ، لم يعجبني تشكيل الحكومة، فالحركة استأثرت بعدة مناصب وزارية، ما أعطى انطباعاً بأنّها متعطّشة للحكم. كان من الأفضل أن تتصرف بغير هذا الأسلوب.

 

■ وكيف تفسّر تعطّشها للحكم؟

الحكم مرض تونسي، ما دام المجتمع لا يتمتع بالقوة الكافية. لكنّني أعتقد أن قوة المجتمع بدأت تبرز، فقد أصبح يراقب الحكام، كما أنّ الصحافة اليوم أصبحت حرة وتقوم بدورها التقويمي وهو ما لم يحدث في تاريخ بلادنا مطلقاً، ما أعيبه على الصحافة أنّها تقوّم دون الارتكاز إلى أفكار واضحة، إنّها تكتب ما تريد.

 

■ يدّعي الإسلاميون الذين وصلوا إلى السلطة في بلادنا أنّهم قادرون على إنتاج النموذج الديموقراطي التركي، فهل يتمتعون بالمؤهلات التي تخوّلهم تحقيق ذلك؟

ممكن، لكن الفرق هو أنّ تركيا عرفت نظاماً علمانياً شديداً لم نعرفه نحن حتى في زمن بورقيبة. إنّ الإصلاحات التي قام بها بورقيبة في ما يخص المرأة ليست إصلاحات عميقة، إذ لم يزح الشريعة كما فعل كمال أتاتورك، ورغم ذلك أعتبر بورقيبة علمانياً في حياته الشخصية وفي أفكاره. بن علي من جهته أراد أن ينسج على منوال نظام بورقيبة، لكنّه فهم أنّ الشعب التونسي لا يقبل بإصلاحات علمانية كبيرة، فأمر بالأذان في التلفاز وأنشأ المجلس الإسلامي، وفي الوقت نفسه قام بضرب الإسلاميين وقمعهم. لذلك أرى أنّ النهضويين، ونظراً إلى اختلاف التجربتين، غير قادرين على خلق نموذج ديموقراطي على غرار النموذج التركي.

 

■ إذاً، ما هو البديل؟

سيسيّرون البلاد لسنة فقط. وسيصوغون، خلال هذه السنة، الدستور ثم تنتهي مهمتهم. وأعتقد أنّه لا يجب أن تتجاوز مهمتهم تلك فترة السنة. وهذا ما أكده رئيس الوزراء حمادي الجبالي في حواره الأخير، وأنا لديّ رأي خاص في هذه الانتخابات. إذ يجب أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب وأن تسند له صلاحيات الدفاع والخارجية، بالإضافة إلى وزارة الداخلية، رغم أنّ هناك تخوّفاً من الانزلاق مجدداً نحو الديكتاتورية، لأنّ الأمن تم تطويعه في عهد بن علي، وللأسف لخدمة النظام، لكن أعتقد أنّ الرئيس المقبل ستتوافر له القدرة على تغيير الأمور نحو تفعيل مبادئ حقوق الإنسان لأنّه رئيس منتخب شرعياً.

 

■ باعتبارك مفكراً ودارساً لتاريخ الحركات الإسلامية، هل ترى أنّ النهضة تحوّلت فعلاً إلى حزب ديموقراطي، أم أنّ المسافة التي تفصلها عن الديموقراطية ما تزال بعيدة؟

لا أملك المعلومات الكافية حول حزب النهضة وحول كيفية تشكّله من الداخل، لكن أعتقد أنّه ينقسم إلى شقين، شق متطرف وشق معتدل، وما يهمني ليس حزب النهضة، بل تركيبة الحكومة الحالية التي تضم ثلاثة أحزاب.

 

■ لكن النهضة لديها الحقائب الوزارية السيادية على غرار وزارتي الداخلية والخارجية؟

هم يفتقرون إلى التجربة، ولكن لا ينبغي أن نحكم عليهم بقسوة.

 

■ لقد طلب منهم تشكيل حكومة كفاءات، إلا أنّهم رفضوا ذلك.

أمر طبيعي لأنّ النهضويين أهينوا طوال 30 سنة وهم الآن متعطشون إلى الحكم، كما أعتقد أنّ هذه الحكومة مدنية ولا يمكنها الانحراف عن هذا المنحى.

 

■ ما هي الخطوات المهمة التي ترى أنّها ضرورية للاتجاه نحو الديموقراطية؟

نحن الآن نعيش ديموقراطية، فالسلطة الجديدة تخشى معاقبة العناصر الإجرامية كي لا تتهم بالديكتاتورية، إضافة إلى وجود مؤسسات انتخبت لأول مرة من الشعب، هذا إضافة إلى حرية الصحافة والإعلام، فعندما همّت الحكومة بتغيير رؤساء تحرير في بعض مؤسسات الإعلام العمومي وقف الجميع ضد قرارها، وأعتقد أنّها كلما ارتكبت خطأ وجدت أمامها مَن يحاول حملها على تغيير قرارها.

■ وكيف تفسّر ظاهرة السلفية في تونس؟

ليس لهم أي وزن في تونس، ففي مصر حصلوا على 165 مقعداً في المجلس، بينما في تونس لم ينالوا أي مقعد. كما أنّ التيار السلفي ليس حزباً معترفاً به، هو فقط تيار موجود في العالم الإسلامي، والظاهرة لم تتطوّر إلى حد القيام بعمليات تفجيرية. هناك فقط بعض المشادات حول ظاهرة النقاب.

 

■ ما هي معالجة هذه الظاهرة؟

لندعهم يفعلون ما يشاؤون شرط ألا يخالفوا القانون وألا يضرّوا بمؤسسات الدولة كالاعتصام في الكليات وتعطيل الدروس.

 

■ لكن السلفيين لا يعترفون بالقوانين الوضعية؟

يجب أن يطبق القانون على الجميع، لكن يبدو أنّ النهضة تتعامل بمحاباة مع السلفيين، ربما بقصد احتوائهم وربما خشية منهم.

 

■ لماذا تخشاهم؟

النهضة تخشى كل شيء. تخشى السلفيين والبوليس وغيرهما ... هنالك مجموعة كبيرة من التونسيين يرفضون النهضة ولم يمنحوها الشرعية الحقيقية، منحوها شرعية قانونية، ومعلوم أنّ الشرعية ليست فقط شرعية قانونية، فالشرعية أيضاً في القلوب والنفوس.

 

■ هل تخشى النهضة السلفيين، أم تخشى الصراع على جبهتين: صراع مع السلفيين وآخر مع العلمانيين؟

سياسياً، لها الحق في ذلك، لكن السلفيين ليس لهم أي وزن في تونس ولا أية قيمة. قيمتهم تتمثّل في أنّ جزءاً من قواعد النهضة متأثر بالخطاب السلفي.

 

■ وما عسانا نفعل لهم؟

ربما النهضة ترفض الدخول معهم في صدام حتى لا تخسر جزءاً من قواعدها. هذا ممكن، ثم إنّ القضية اختزلت في ظاهرة النقاب، والمنقّبات عددهنّ قليل جداً لا يؤبه به. أعتقد أنّ من الأفضل أن تزاول المنقّبات تعليمهن في الجامعة، وعند إجراء الامتحان يجب عليهن أن يكشفن عن وجوههن ويستظهرن ببطاقات التعريف.

 

■ لنأتِ إلى الدستور، هل تتوقع أن تقع معركة بين العلمانيين والإسلاميين حول الدستور؟

قد تحدث بعض النزاعات، وهذا يندرح ضمن إطار الحرية. لكني أعتقد أنّهم، في آخر المطاف، سيحسمون المسألة وسيتوصلون إلى اتفاق، وأرى أنّ هذه النزاعات ستكون حول المسائل الأساسية في الدستور كالهوية على سبيل المثال، فقد جاء في دستور بورقيبة: «تونس دولة مستقلة» لأنّ تونس في تلك الفترة خرجت من الاستعمار، أما الآن فليس هنالك داعٍ لنؤكد أنّنا دولة مستقلة.

 

■ لكن الخلاف سيكون على الجزء الثاني من البند الأول في دستور 1959: « ... دينها الإسلام ولغتها العربية»؟

المقصود هو أنّ دين الدولة هو الإسلام، وهذا التوصيف لا يقصد تطبيق الشريعة. الخشية الحقيقية في نظري هي أن ينص الدستور على ضمان كل الحريات العامة والفردية ولا يقع تجسيد ذلك على أرض الواقع.

 

■ المشروع الذي أعدّته حركة النهضة عن طريق لجانها الجهوية ينص على أنّ الشريعة مصدر أساسي للتشريع، ماذا يعني ذلك؟

الشريعة هي مصدر التشريع بالأمس واليوم، فالفصل الذي ينص مثلاً على الميراث مأخوذ من الشريعة، لكن أن نعيد تشريع القوانين من جديد، انطلاقاً من الشريعة، فهذا غير ممكن، ولو أنّ الشريعة مقدسة. فمن غير الممكن مثلاً اليوم إقامة الحدود كقطع الأيدي والأرجل، لأنّ هذه الآيات نصّت على هذه الأحكام في وقت معيّن وفي سياق محدد، وبعد ذلك تكوّنت إمبراطورية إسلامية شاسعة، وكان حرص العلماء والفقهاء هو إدماج الشعوب والأمم التي اعتنقت الإسلام ولم يكن لهم سبيل إلا تقنين الشريعة وتشكيل هوية دينية وثقافية لهذه الشعوب المختلفة، وبعملهم هذا استمرت الشريعة طوال 14 قرناً وكان القانون المعتمد والمنظّم لحياة المسلمين وغير المسلمين في كل البلدان الإسلامية. وهذا له دلالة تاريخية، لكن اليوم لم يبق له أي دلالة تاريخية، فالدولة الإسلامية صارت دولاً وكل بلد له قانونه الذي يتماشى مع القيم الجديدة التي جاء بها الحداثيون، وهي قيم ذات معنى كبير، وإن كان مأتاها الغرب، ومع ذلك تبقى ذات قيمة كبرى، فهي تسعى إلى حماية حقوق الإنسان والمواطن، وهذا هو هدف الدولة الحديثة الذي يتمثّل في إعطاء المواطن قسطه من السعادة.

 

■ كيف ترى الانتخابات المقبلة؟

كل ما أخشاه هو أن يجري تأجيلها، لأنّ الديكتاتورية لا تتأسس إلا عندما تؤجّل الانتخابات، ثم تقع تحويرات في الدستور، ويواصل الرئيس الحكم لخمس سنوات، ثم تقع مرة أخرى تحويرات في الدستور، إلى أن يصبح الحكم مدى الحياة.

 

■ وهل تعتقد أنّ موازين القوى قد تشكلت؟

كنت أتمنى لو توحّدت الأحزاب الأخرى اليسارية والمستقلون ... أرى أنّ المستقبل سيكون للعلمانيين واليساريين الذين سيشكلون المعارضة.

 

■ وهل سيكونون بديلاً جدياً؟

لا نعلم كيف ستتشكل الخريطة السياسية في المستقبل، قد يخرج حزبا المرزوقي وبن جعفر من الائتلاف وتصبح بذلك النهضة حزب الأقلية ... لكن من الأفضل أن تبقى الأمور على حالها حتى لا تنتقل الاضطرابات داخل المعارضة إلى داخل الائتلاف الحكومي. ولو حصل ذلك ستزداد الأوضاع تأزّماً: مجتمع منهار ودولة منهارة ... الأفضل أن تبقى الأمور على حالها خلال هذه السنة، لكن على الحكومة في المقابل أن تتخذ الإجراءات السريعة والعاجلة لإصلاح القضاء والأمن وتدبّر الشؤون المالية، إذ يجب في اعتقادي أن يتم وضع سياسة اقتصادية مرتبطة بالوضع السياسي الراهن تعكس وتستجيب لتحدياته، إذ لا جدوى من السياسة المالية والاقتصادية التي يقترحها التكنوقراط.

 

تنقّل صاحب «أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة» (1978) بين أرقى وأهم جامعات فرنسا (كولاج دو فرانس) وكندا (جامعة ماكغيل) والولايات المتحدة (بيركلي) وكان في الفترة الأخيرة أستاذاً شرفياً في جامعة تونس. حصل جعيّط على شهادة الدكتوراه من فرنسا، وكانت حول التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى.

  • فريق ماسة
  • 2012-03-14
  • 9665
  • من الأرشيف

هشام جعيّط: «النهضة» حزب قطر في تونس

يعدّ صاحب «الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر» (1989)، الباحث والمؤرخ التونسي، هشام جعيّط، من أهم المختصين بتاريخ الفكر الإسلامي، هو الذي يدرس ويبحث منذ سنوات في مسألة العالمين العربي والإسلامي وعلاقتهما بالحداثة. وبعد سنوات قضاها بين التعليم والكتابة والبحث والتأريخ، كرمت تونس الثورة مؤرخها الأهم ربما، إذ عيّنت وزارة الثقافة جعيّط مديراً لـ«المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ـــ بيت الحكمة»، في 17 شباط الماضي، بعدما عانى التضييق من قبل النظام التونسي السابق. وفي هذه المناسبة، تنشر «الأخبار» حواراً أجرته معه جريدة «المغرب» التونسيّة، في ١٢ و١٤ شباط الماضي زهرة فضلي, زياد كريشان, الهاشمي الطرودي   ■ كيف تقوّم وضع البلاد بعد مرور سنة على الثورة، وأشهرٍ على الانتخابات؟ في الجانب المؤسساتي، يمكن القول إنّ تونس نجحت في تركيز مؤسسات قوية. ووقع الاتفاق بين أطراف متعددة وأصبح لدينا مجلس تأسيسي ورئيس جمهورية ورئيس حكومة، لقد تم إرساء هذه المؤسسات بعد أقل من سنة من اندلاع الثورة. وهذا أمر إيجابي ... ولو أنّني كنتُ أفضّل لو حصل هذا في فترة أوجز، ومع ذلك فهذا جيد مقارنةً بما يحصل الآن في مصر. لقد تزامنت ثورتها مع ثورتنا، لكن الشباب المصري والثوريين اضطروا عدة مرات إلى التظاهر والاحتجاج من أجل الضغط على الحكم العسكري، إلى أن تمكنوا أخيراً من انتخاب برلمان ... أما ثورة ليبيا فلا يمكن أن نقارنها بثورتنا لأنّها كانت ثورة مسلحة. أما سوريا، فذاك شأن آخر ... لقد كان من لطف الله أنّ ثورتنا لم تخلّف وراءها خسائر بشرية كبيرة. كما أن الرئيس السابق فرّ إلى الخارج وهذا أفضل.   هذه حصيلة إيجابية إذا أخذنا بعين الاعتبار الاضطرابات التي شهدتها السنة الأولى من عمر الثورة. لقد تمكّن السيد الباجي قائد السبسي من طمأنة المواطنين والسيطرة على الوضع، وقد نجح إلى حد ما وهو يشكر على ذلك ... لكن رغم وجود حكومة جديدة ودولة جديدة ـــــ إلا أن الثورة مستمرة. فالانفلات الأمني، وتواصل العنف، وتراجع الاقتصاد، والاضطرابات الاجتماعية مستمرة ويمكن أن يتواصل هذا الوضع لسنوات طويلة إنْ لم تتخذ إجراءات حازمة وصارمة.   ■ استمرار الثورة، رغم وجود مؤسسات شرعية، هل يعود إلى الجدلية التاريخية أم أنّه متأتٍّ من ضعف أداء السلطة الجديدة؟ يعود إلى السببين، فالثورة لا يمكن أن تنتهي بسرعة لأنّ الناس اكتشفوا حرياتهم وكأنّهم يريدون أن يجربوا حرياتهم كما يشاؤون ولو بإفساد الأمور، يعتبرون أنفسهم أحراراً وهم لا يعرفون معنى الحرية لأنّهم لم يجربوها في عهد بن علي ولا في عهد بورقيبة، ولا في عهد الاحتلال الفرنسي ولا حتى في عهد البايات. إذاً هذا شعور جديد يشعر به الشعب التونسي الذي يعيش نشوة الحرية، يفعل ما يشاء. من الصعب، في الحقيقة، نهيه عن ذلك ـــــ انظر إلى الثورة الفرنسية مثلاً، فقد استمرت عشر سنوات إلى حين قدوم نابوليون بونابرت، وإيقافها، نحن لا نريد أن يأتي نابوليون، نحن نريد أن نقيم دولة حقوق ونقيم ديموقراطية حقيقية، وهذه الديموقراطية تتطلّب من المواطنين والحكام ومن جميع الأطراف الانضباط والخضوع للقوانين، وهذا غير ممكن الآن ... لكن في المستقبل قد يكون ممكناً، يخامرنا الشعور أحياناً بأنّ الشعوب العربية غير مستعدة الآن للديموقراطية، وبخاصة الفئات الشعبية الفقيرة والعاطلون من العمل. فالأولوية لدى هذه الفئات هي القوت اليومي. ثم إنّ ثقافة الديموقراطية تقوم على الحرية وعلى الخضوع للقوانين، وبما أنّ الحكومة الحالية منتخبة، فلا بد لها من الإيفاء بالوعود التي من أجلها قامت الثورة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نحمّل الشعب بمفرده مسؤولية ما يحصل الآن من اضطرابات وانفلات أمني واعتصامات وإيقاف للعجلة الاقتصادية.   ■ مَن يتحمّل مع الشعب المسؤولية؟ بعض العناصر من إدارة الأمن والداخلية مثلاً، هذا بالإضافة إلى عدم تفهّم المؤسسات الحاكمة للوضع الحالي، فهي تتعامل مع الأوضاع بتراخٍ ولم تبدِ استعداداً للقيام بتغييرات جذرية إلا أخيراً وبعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء حمادي الجبالي ... ظهر التراخي مثلاً في القضاء، إذ لم يتحسن ولم يصدر أحكاماً حقيقية. ينسحب هذا أيضاً على المحكمة العسكرية التي لم تبتّ إلى حد الآن أمر بن علي وعائلته وأصهاره. وفي كل مرة، يتم تأجيل إصدار الأحكام ... ولكن الأرجح أن ما يحصل في تونس هو اضطراب وعدم مقدرة على التحكّم بالأوضاع. الشيء نفسه ينسحب على الأمن، فإلى أحد الآن لم يحلّ البوليس السياسي، كما لاحظنا أنّ إدارة الأمن تقف ضد القرارات التي يصدرها وزير الداخلية. وفي المقابل تخشى الحكومة من أن تُتّهم بالقمع، بيد أنّ القمع ضروري الآن وإلى أن تستقيم أحوال البلاد.   ■ ما معنى أن القمع ضروري؟ يعني أنّ مَن لا يستجيب للأوامر الصادرة عن الحكومة في الإدارات مثلاً يزاح من مكان، وإنْ احتجّ يوضع في السجن. ما دامت الدولة تحتكم إلى القانون ـــــ ولا أقصد هنا القوانين المدنية ـــــ فلا بد إذاً من التطبيق ... وأرى من المهم جداً أن يتم إيقاف المعتدين أمام المحكمة العسكرية، على غرار ما فعله الجيش المصري الذي حاكم بسرعة فائقة كل العناصر المشتبه فيها.   ■ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى الاعتقاد بأن الحكام الجدد ينتقمون من خصومهم؟ من المفترض عدم فهم ذلك بصورة خاطئة، فالخصم الوحيد هو البوليس السياسي. أما الأشخاص الذين يقومون بقطع الطرق فهم من عامة الناس وليسوا من البوليس السياسي أو من الأعداء.   ■ ألا يمكن أن ينجم عن ذلك غليان شعبي، أو عصيان مدني؟ يمكن المدينةَ أن تدخل في إضراب، ومع ذلك يمكن محاكمة 200 أو 300 شخص من المعتدين على القانون. وإلى جانب القمع، هناك عمل آخر يجب القيام به، وهو الإسراع في إصلاح أوضاع البلاد. وأعتقد أنّ أسباب ضعف الحكومة أو بالأحرى ضعف النخبة الحاكمة أنّها ما تزال تفكّر في الاقتصاد بصفة كلاسيكية، فعن أي استثمارات وتنمية يتحدثون؟ التنمية مسألة قديمة تم الخوض فيها بعد الاستقلال، كما أنّ الحديث عن جلب الاستثمار الخارجي في مثل هذه المرحلة أمر لا يجدي نفعاً. لا يمكن جلب الاستثمارات ولا حتى القروض لأنه لا يمكن التعويل على أوروبا ولا على الولايات المتحدة، ولكن هناك دولاً أخرى مهمة مثل تركيا، إذ بإمكانها أن تقرض تونس مبلغاً هاماً نحن في حاجة إليه الآن. كما يمكن أن نتجه إلى اليابان أو البنك الأفريقي. أما دول أوروبا فلا يمكن أن يعوّل عليها في الوقت الراهن ومن الأفضل ألا نعوّل عليها. نظراً أولاً إلى الأزمة الاقتصادية، وثانياً لأنّني أعتبر أن الاستنجاد بفرنسا وأوروبا ليس بالجيد، رغم أن علاقتنا التجارية قوية بها ويجب الإبقاء عليها. لقد بقينا إلى حد الآن دولة تابعة لأوروبا ولم ننجح في الاستقلال عنها، هذا لا يعني أن نقطع علاقتنا تماماً بأوروبا، هذا صعب لأننا لسنا بلداً ثرياً، كما لا يمكن في الآن نفسه أن نفقد معنى الاستقلال. وهذا ما يطالب به السلفيون والذي يترجم عبر تمسكهم بالحجاب ورفضهم للعلمانيين. فهم يعتبرونهم خونة وأتباعاً لفرنسا. والحقيقة أن حزب فرنسا موجود في تونس وحزب أوروبا موجود وحزب أميركا موجود أيضاً.   ■ وماذا عن البقية، هل تعتبرهم حزب تونس أم حزب السعودية أم حزب قطر؟ قطر هي حزب النهضة والتي بدورها هي حزب أميركا، فقطر ما هي إلا حصان تروّضه أميركا.   ■ الجميع يتحدث عن ربيع إسلامي، ويعني أنّ هذه الثورات ساهمت في صعود الإسلاميين إلى الحكم، فهل سيكون لذلك انعكاسات على مستقبل العالم العربي والإسلامي؟ التيار الإسلامي اشتغل أكثر من ثلاثين سنة وصارت له شعبية، ولئن كنتُ أعتبرها محدودة، لكن مع ذلك فهو الأقدر على مسك زمام الحكم، وهذا خيار تاريخي. يبقى السؤال إن كان سيتواصل حكمهم أو لا، أما في تونس فالمسألة رهن بسنة فقط ثم ننتظر. كما أنني أرفض أن تقع حرب بين العلمانيين والإسلاميين، لأنّها ستكون حرباً أهلية ولن نجني منها شيئاً. الحديث عن حرب بين العلمانيين والإسلاميين لا ينمّ إلا عن تفكير بسيط. هؤلاء الإسلاميون يريدون أن يلبسوا على طريقتهم، فما المانع من ذلك؟ الإسلاميون لن يبقوا في الحكم سوى سنة واحدة فقط، أي إلى حين إجراء الانتخابات. وعلى كلٍّ فهم لا يستطيعون أن يقوموا بإجراءات تنعكس عليهم سلباً كالمسّ بمطالب الثورة. هذا علاوة على أنّ الفكر الديموقراطي انغرس في الشعب التونسي، ومن المستحيل العودة مجدداً إلى الديكتاتورية ... وأعتقد أنّ هذا التخوّف من الغول الكبير الذي اسمه الإسلاميّون والسلفيّون تخوّف محدود.   ■ كيف تفسّر نجاح حزب حركة النهضة بـ 37% من أصوات الناخبين وغياب التوازن بين الأحزاب، رغم أنّ الإسلاميين يمثلون الثلث فقط؟ من الجيّد أنّ الإسلاميين لا يمثلون سوى الثلث، وأهم دليل على ذلك أنّهم أجبروا على التحالف مع أحزاب أخرى، ولولا هذا التحالف لما استطاعوا أن يحصلوا على أغلبية الأصوات في المجلس التأسيسي، وهذا من لطف الله، ليس لأنّ الإسلاميين سيحكمون بالشريعة وسيقطعون الأيدي والأرجل، وإنما لأنّنا لا نرغب في أن يتكرر ما عشناه طوال 50 سنة وهو وجود حزب واحد يحكم البلاد.   ■ وهل سيحتكمون فعلاً إلى الشريعة وما يتطلّبه ذلك من قطع للأيدي والأرجل؟ إنها مجرد تخوّفات. ولن يتأثر بالدعوات إلى تطبيق الشريعة سوى الشباب الغبي والجاهل، مثلما أنّ هنالك شباباً غبياً يتأثر بتيار آخر ... المشكل يتمثل في أنّ الحركة الإسلامية هي حركة شعبوية على غرار حزب بورقيبة. لقد كان في الظاهر حزباً شعبوياً، لكنّه في الواقع يتكوّن من نخبة مثقفة درست في فرنسا. فالنهضة هي شعبوية إلى حد ما، لأنّها لو كانت بمثل شعبوية حزب بورقيبة لحصلت على 60 أو 70% من الأصوات في الانتخابات، إلا أنّها لم تحصل إلا على نسبة 37%، وهذا يعني أنّ قسماً فقط من الشعب في صفها، والبعض منه قد يتراجع عن مساندة هذا الحزب لأنّ القسم الذي صوّت له يمثّل فئات من البورجوازية الصغيرة تؤمن بالمبادئ الإسلامية، وقسماً آخر من الفقراء كان ينتظر من النهضة أن تقدم له مساعدات مالية، وهو ما لم يحصل، وهذا قد يؤثر بدوره على نتائج الانتخابات المقبلة. أما في ما يتعلق بكون حركة النهضة نخبوية أو لا، فلا أعتقد. على كلٍّ، لم يعجبني تشكيل الحكومة، فالحركة استأثرت بعدة مناصب وزارية، ما أعطى انطباعاً بأنّها متعطّشة للحكم. كان من الأفضل أن تتصرف بغير هذا الأسلوب.   ■ وكيف تفسّر تعطّشها للحكم؟ الحكم مرض تونسي، ما دام المجتمع لا يتمتع بالقوة الكافية. لكنّني أعتقد أن قوة المجتمع بدأت تبرز، فقد أصبح يراقب الحكام، كما أنّ الصحافة اليوم أصبحت حرة وتقوم بدورها التقويمي وهو ما لم يحدث في تاريخ بلادنا مطلقاً، ما أعيبه على الصحافة أنّها تقوّم دون الارتكاز إلى أفكار واضحة، إنّها تكتب ما تريد.   ■ يدّعي الإسلاميون الذين وصلوا إلى السلطة في بلادنا أنّهم قادرون على إنتاج النموذج الديموقراطي التركي، فهل يتمتعون بالمؤهلات التي تخوّلهم تحقيق ذلك؟ ممكن، لكن الفرق هو أنّ تركيا عرفت نظاماً علمانياً شديداً لم نعرفه نحن حتى في زمن بورقيبة. إنّ الإصلاحات التي قام بها بورقيبة في ما يخص المرأة ليست إصلاحات عميقة، إذ لم يزح الشريعة كما فعل كمال أتاتورك، ورغم ذلك أعتبر بورقيبة علمانياً في حياته الشخصية وفي أفكاره. بن علي من جهته أراد أن ينسج على منوال نظام بورقيبة، لكنّه فهم أنّ الشعب التونسي لا يقبل بإصلاحات علمانية كبيرة، فأمر بالأذان في التلفاز وأنشأ المجلس الإسلامي، وفي الوقت نفسه قام بضرب الإسلاميين وقمعهم. لذلك أرى أنّ النهضويين، ونظراً إلى اختلاف التجربتين، غير قادرين على خلق نموذج ديموقراطي على غرار النموذج التركي.   ■ إذاً، ما هو البديل؟ سيسيّرون البلاد لسنة فقط. وسيصوغون، خلال هذه السنة، الدستور ثم تنتهي مهمتهم. وأعتقد أنّه لا يجب أن تتجاوز مهمتهم تلك فترة السنة. وهذا ما أكده رئيس الوزراء حمادي الجبالي في حواره الأخير، وأنا لديّ رأي خاص في هذه الانتخابات. إذ يجب أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب وأن تسند له صلاحيات الدفاع والخارجية، بالإضافة إلى وزارة الداخلية، رغم أنّ هناك تخوّفاً من الانزلاق مجدداً نحو الديكتاتورية، لأنّ الأمن تم تطويعه في عهد بن علي، وللأسف لخدمة النظام، لكن أعتقد أنّ الرئيس المقبل ستتوافر له القدرة على تغيير الأمور نحو تفعيل مبادئ حقوق الإنسان لأنّه رئيس منتخب شرعياً.   ■ باعتبارك مفكراً ودارساً لتاريخ الحركات الإسلامية، هل ترى أنّ النهضة تحوّلت فعلاً إلى حزب ديموقراطي، أم أنّ المسافة التي تفصلها عن الديموقراطية ما تزال بعيدة؟ لا أملك المعلومات الكافية حول حزب النهضة وحول كيفية تشكّله من الداخل، لكن أعتقد أنّه ينقسم إلى شقين، شق متطرف وشق معتدل، وما يهمني ليس حزب النهضة، بل تركيبة الحكومة الحالية التي تضم ثلاثة أحزاب.   ■ لكن النهضة لديها الحقائب الوزارية السيادية على غرار وزارتي الداخلية والخارجية؟ هم يفتقرون إلى التجربة، ولكن لا ينبغي أن نحكم عليهم بقسوة.   ■ لقد طلب منهم تشكيل حكومة كفاءات، إلا أنّهم رفضوا ذلك. أمر طبيعي لأنّ النهضويين أهينوا طوال 30 سنة وهم الآن متعطشون إلى الحكم، كما أعتقد أنّ هذه الحكومة مدنية ولا يمكنها الانحراف عن هذا المنحى.   ■ ما هي الخطوات المهمة التي ترى أنّها ضرورية للاتجاه نحو الديموقراطية؟ نحن الآن نعيش ديموقراطية، فالسلطة الجديدة تخشى معاقبة العناصر الإجرامية كي لا تتهم بالديكتاتورية، إضافة إلى وجود مؤسسات انتخبت لأول مرة من الشعب، هذا إضافة إلى حرية الصحافة والإعلام، فعندما همّت الحكومة بتغيير رؤساء تحرير في بعض مؤسسات الإعلام العمومي وقف الجميع ضد قرارها، وأعتقد أنّها كلما ارتكبت خطأ وجدت أمامها مَن يحاول حملها على تغيير قرارها. ■ وكيف تفسّر ظاهرة السلفية في تونس؟ ليس لهم أي وزن في تونس، ففي مصر حصلوا على 165 مقعداً في المجلس، بينما في تونس لم ينالوا أي مقعد. كما أنّ التيار السلفي ليس حزباً معترفاً به، هو فقط تيار موجود في العالم الإسلامي، والظاهرة لم تتطوّر إلى حد القيام بعمليات تفجيرية. هناك فقط بعض المشادات حول ظاهرة النقاب.   ■ ما هي معالجة هذه الظاهرة؟ لندعهم يفعلون ما يشاؤون شرط ألا يخالفوا القانون وألا يضرّوا بمؤسسات الدولة كالاعتصام في الكليات وتعطيل الدروس.   ■ لكن السلفيين لا يعترفون بالقوانين الوضعية؟ يجب أن يطبق القانون على الجميع، لكن يبدو أنّ النهضة تتعامل بمحاباة مع السلفيين، ربما بقصد احتوائهم وربما خشية منهم.   ■ لماذا تخشاهم؟ النهضة تخشى كل شيء. تخشى السلفيين والبوليس وغيرهما ... هنالك مجموعة كبيرة من التونسيين يرفضون النهضة ولم يمنحوها الشرعية الحقيقية، منحوها شرعية قانونية، ومعلوم أنّ الشرعية ليست فقط شرعية قانونية، فالشرعية أيضاً في القلوب والنفوس.   ■ هل تخشى النهضة السلفيين، أم تخشى الصراع على جبهتين: صراع مع السلفيين وآخر مع العلمانيين؟ سياسياً، لها الحق في ذلك، لكن السلفيين ليس لهم أي وزن في تونس ولا أية قيمة. قيمتهم تتمثّل في أنّ جزءاً من قواعد النهضة متأثر بالخطاب السلفي.   ■ وما عسانا نفعل لهم؟ ربما النهضة ترفض الدخول معهم في صدام حتى لا تخسر جزءاً من قواعدها. هذا ممكن، ثم إنّ القضية اختزلت في ظاهرة النقاب، والمنقّبات عددهنّ قليل جداً لا يؤبه به. أعتقد أنّ من الأفضل أن تزاول المنقّبات تعليمهن في الجامعة، وعند إجراء الامتحان يجب عليهن أن يكشفن عن وجوههن ويستظهرن ببطاقات التعريف.   ■ لنأتِ إلى الدستور، هل تتوقع أن تقع معركة بين العلمانيين والإسلاميين حول الدستور؟ قد تحدث بعض النزاعات، وهذا يندرح ضمن إطار الحرية. لكني أعتقد أنّهم، في آخر المطاف، سيحسمون المسألة وسيتوصلون إلى اتفاق، وأرى أنّ هذه النزاعات ستكون حول المسائل الأساسية في الدستور كالهوية على سبيل المثال، فقد جاء في دستور بورقيبة: «تونس دولة مستقلة» لأنّ تونس في تلك الفترة خرجت من الاستعمار، أما الآن فليس هنالك داعٍ لنؤكد أنّنا دولة مستقلة.   ■ لكن الخلاف سيكون على الجزء الثاني من البند الأول في دستور 1959: « ... دينها الإسلام ولغتها العربية»؟ المقصود هو أنّ دين الدولة هو الإسلام، وهذا التوصيف لا يقصد تطبيق الشريعة. الخشية الحقيقية في نظري هي أن ينص الدستور على ضمان كل الحريات العامة والفردية ولا يقع تجسيد ذلك على أرض الواقع.   ■ المشروع الذي أعدّته حركة النهضة عن طريق لجانها الجهوية ينص على أنّ الشريعة مصدر أساسي للتشريع، ماذا يعني ذلك؟ الشريعة هي مصدر التشريع بالأمس واليوم، فالفصل الذي ينص مثلاً على الميراث مأخوذ من الشريعة، لكن أن نعيد تشريع القوانين من جديد، انطلاقاً من الشريعة، فهذا غير ممكن، ولو أنّ الشريعة مقدسة. فمن غير الممكن مثلاً اليوم إقامة الحدود كقطع الأيدي والأرجل، لأنّ هذه الآيات نصّت على هذه الأحكام في وقت معيّن وفي سياق محدد، وبعد ذلك تكوّنت إمبراطورية إسلامية شاسعة، وكان حرص العلماء والفقهاء هو إدماج الشعوب والأمم التي اعتنقت الإسلام ولم يكن لهم سبيل إلا تقنين الشريعة وتشكيل هوية دينية وثقافية لهذه الشعوب المختلفة، وبعملهم هذا استمرت الشريعة طوال 14 قرناً وكان القانون المعتمد والمنظّم لحياة المسلمين وغير المسلمين في كل البلدان الإسلامية. وهذا له دلالة تاريخية، لكن اليوم لم يبق له أي دلالة تاريخية، فالدولة الإسلامية صارت دولاً وكل بلد له قانونه الذي يتماشى مع القيم الجديدة التي جاء بها الحداثيون، وهي قيم ذات معنى كبير، وإن كان مأتاها الغرب، ومع ذلك تبقى ذات قيمة كبرى، فهي تسعى إلى حماية حقوق الإنسان والمواطن، وهذا هو هدف الدولة الحديثة الذي يتمثّل في إعطاء المواطن قسطه من السعادة.   ■ كيف ترى الانتخابات المقبلة؟ كل ما أخشاه هو أن يجري تأجيلها، لأنّ الديكتاتورية لا تتأسس إلا عندما تؤجّل الانتخابات، ثم تقع تحويرات في الدستور، ويواصل الرئيس الحكم لخمس سنوات، ثم تقع مرة أخرى تحويرات في الدستور، إلى أن يصبح الحكم مدى الحياة.   ■ وهل تعتقد أنّ موازين القوى قد تشكلت؟ كنت أتمنى لو توحّدت الأحزاب الأخرى اليسارية والمستقلون ... أرى أنّ المستقبل سيكون للعلمانيين واليساريين الذين سيشكلون المعارضة.   ■ وهل سيكونون بديلاً جدياً؟ لا نعلم كيف ستتشكل الخريطة السياسية في المستقبل، قد يخرج حزبا المرزوقي وبن جعفر من الائتلاف وتصبح بذلك النهضة حزب الأقلية ... لكن من الأفضل أن تبقى الأمور على حالها حتى لا تنتقل الاضطرابات داخل المعارضة إلى داخل الائتلاف الحكومي. ولو حصل ذلك ستزداد الأوضاع تأزّماً: مجتمع منهار ودولة منهارة ... الأفضل أن تبقى الأمور على حالها خلال هذه السنة، لكن على الحكومة في المقابل أن تتخذ الإجراءات السريعة والعاجلة لإصلاح القضاء والأمن وتدبّر الشؤون المالية، إذ يجب في اعتقادي أن يتم وضع سياسة اقتصادية مرتبطة بالوضع السياسي الراهن تعكس وتستجيب لتحدياته، إذ لا جدوى من السياسة المالية والاقتصادية التي يقترحها التكنوقراط.   تنقّل صاحب «أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة» (1978) بين أرقى وأهم جامعات فرنسا (كولاج دو فرانس) وكندا (جامعة ماكغيل) والولايات المتحدة (بيركلي) وكان في الفترة الأخيرة أستاذاً شرفياً في جامعة تونس. حصل جعيّط على شهادة الدكتوراه من فرنسا، وكانت حول التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى.

المصدر : الاخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة