دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
"نعم سنضرب لبنان بدعم أميركي غربي خليجي، ولهذا تمّ تحذيرهم (أي اللبنانيين) .... وقبل أن تسألي المزيد أنظري إلى خارطة العالم الجديدة، فلا يوجد دولة بهذا الاسم (أي لبنان)". هذا الكلام التهويلي الذي ورد في مقابلة أجرتها معه صحيفة ألمانية قبل أسابيع ليس لرئيس الوزراء القطري ـ نابليون الخليج حمد بن جاسم آل ثاني، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، بل هو لزميله رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو. بينما كان "مؤتمر أصدقاء سورية" ينعقد في تونس بحثاً عن وسائل ممكنة للالتفاف على الفيتو الروسي ـ الصيني والتحضير لضربة عسكرية ضدّ سورية دون المرور بمجلس الأمن الدولي، كان نتنياهو الغائب الحاضر عن مؤتمر الأصدقاء يتوعّد بإزالة لبنان عن خارطة الشرق الأوسط. هذا الربط "المنهجي" بين إصرار خليجي متواصل على عزل سورية وضربها بأسلحة حلف شمال الأطلسي، وتهديد "إسرائيلي" بعزل لبنان وضربه "بدعم أميركي غربي خليجي"، يعكس تناغماً في العزف الخليجي ـ "الإسرائيلي" ما بعده تناغم.
هذه التهديدات "الإسرائيلية" ألا تستفزّ "ثوار" 14 آذار الحريصين على حرية واستقلال وسيادة لبنان، والمتحالفين مع حمد بن جاسم القطري وسعود الفيصل السعودي؟
إن التهديدات "الإسرائيلية" بإزالة لبنان عن الخارطة تحيلنا مجدداً إلى تلك الخارطة التي نشرها الضابط الأميركي المتقاعد رالف بيترز في مجلة القوات المسلَّحة الأميركية "Armed forces" قبيل حرب تموز 2006 بأسابيع قليلة. في هذه الخارطة، خارطة "الشرق الأوسط الجديد" المرفقة بدراسة مفصّلة حول دول المنطقة ومستقبلها السياسي، يتناول الكاتب واقع الحدود السياسية الحالية في الشرق الأوسط وضرورة تعديلها وتغييرها بما يتلاءم والوقائع السياسية والعسكرية والاقتصادية التي فرضتها موازين القوة الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفياتي، والتي جعلت من الولايات المتحدة القوة الأولى في العالم في عصر ما بعد الحرب الباردة.
تطرح الدراسة خطة تقسيمية :متكاملة: لمنطقة الشرق الأوسط. ولم يكن مفاجئاً أن يتناول مشرط التقسيم دولاً "معادية" مثل إيران وسورية والعراق تحت عناوين دينية وطائفية وعرقيّة ولغوية. أما المفاجئ في الأمر فهو أن يصل مشرط الجرَّاح بيترز إلى دول بارزة صديقة لأميركا، مثل السعودية وتركيا وباكستان.
قد يجوز أن تكون هذه الدراسة ـ الخارطة هلوسة شخصية لعسكري أميركي متقاعد لا قيمة سياسية لها. وقد تكون أيضاً بمثابة بالون اختبار يسعى من خلاله العقل السياسي والعسكري والمخابراتي الأميركي معرفة ردود أفعال حكام المنطقة. وإذا كان أعداء "الشرق الأوسط الأميركي" يعتبرون أنفسهم غير معنيين بالمشاريع والأفكار الأميركية الجديدة، وهم في ذلك مصيبون، فكيف ينظر "أصدقاء" أميركا من سعوديين وأتراك وغيرهم إلى هذه المسألة، خاصة وأنّ الجميع يعلم أنّ المجلة التي نشرت دراسة بيترز هي المجلة الرسمية للجيش الأميركي.
ولعلّ السعودية الطامحة إلى الإطاحة بالنظام السوري مهما كلّف الثمن، هي أولى الدول العربية المدعوّة إلى التمعُّن جيداً في المخطّطات الأميركية الجديدة للمنطقة، وكذلك في الخرائط الجديدة، المشكوف منها والمستور.
فالسعودية التي يزيلها مشروع بيترز الأميركي عن الخارطة، تشارك واشنطن في سياستها العدائية تجاه سورية، بل وتستغيثها للمضيّ في خطة ضرب سورية دولةً وشعباً. فيوحي السعوديون بذلك وكأنهم "مطمئنّون" إلى أن ما يصيب سورية والعراق لن يصيبهم لا هم ولا سائر "حلفاء" أميركا رغم "القيل والقال" و"حكي الجرايد". ولا نشكُّ لحظة واحدة في أن هذه "الطمأنة" مصدرها أميركي، مع العلم أن الأفكار التقسيمية الجديدة منشأها أميركي أيضاً، سواء صدرت عن رالف بيترز أو عن المؤرخ الشهير برنارد لويس أو عمّن سيأتي بعدهما.
عندما استولى البلاشفة الروس على السلطة عام 1917، أرادت روسيا تقديم خدمة مجانية إلى "عرب بريطانيا" آنذاك، عرب "الثورة العربية الكبرى" بقيادة شريف مكة الحسين بن علي ملك دولة الحجاز. فكشفت للعالم اتفاقيات سايكس ـ بيكو السريّة، التي تنصُّ على تقاسم مناطق السلطنة العثمانية المتهالكة بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا. وقامت قيامة الشريف حسين الذي كان موعوداً بدعم بريطاني مطلق لمشروع إقامة مملكة عربية كبرى على أنقاض السلطنة تضمّ الحجاز وسائر الجزيرة العربية، إضافة إلى فلسطين ولبنان وسورية والعراق. وتكشف لنا مراسلات حسين ـ مكماهون السرية الشهيرة كيف نجح البريطانيون في إقناع شريف مكة بأن الروس كان يروّجون شائعات كاذبة ضد الإنكليز والفرنسيين بعد خروج روسيا القيصرية من الحرب العالمية الأولى. وبعد نهاية الحرب، أطبقت اتفاقيات سايكس ـ بيكو على منطقة المشرق العربي بكاملها من بلاد الشام والعراق إلى الجزيرة العربية، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا المنطقة، وولدت دولة "إسرائيل" لاحقاً... وطارت مملكة الشريف حسين العربية الموعودة المنشودة أدراج الرياح.
إنّ الدهاء والخبث الدبلوماسي البريطاني عاد ينبعث هذه الأيام في حلّة أميركية. هل يتذكَّر آل سعود ملك الحجاز شريف مكّة الذي أطاحوه بدعم غربي في منتصف القرن الماضي؟ فقد يكون قد حان دورهم ليلعبوا دوره في أجواء "ربيع" أميركي متنقّل في المساحة العربية التي لن يصيبها إلاّ ما كتبه الله لها.
المصدر :
ابراهيم المتني\ البناء
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة