دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أخبار لبنان واللبنانيين فريدة في بابها... ومن بين نماذجها الدالة على فرادتهم يمكن اختيار بعض الوقائع التي شهدتها عاصمتهم الباهرة، بيروت، ومناطق أخرى غالباً ما كانت خارج الذاكرة الرسمية.
لا ينتبه اللبنانيون إلى وجود «الدولة» إلا حينما تحاول الادّعاء أنها تمثلهم جميعاً، بدستورها ومؤسساتها والقوانين الدالة على وحدتهم.
هم قد رفضوا، على امتداد وجود كيانهم الفريد في بابه، أن يكونوا شعباً واحداً، له تاريخ واحد، ولهم دولة واحدة بحكومة واحدة، وبالتالي فهم يرفضون أن يقرأ أبناؤهم في كتاب واحد، وأن تكون لهم لغة واحدة وموحدة.
وإذا كان مأخذ اللبنانيين أن التاريخ في البلاد العربية بمجملها هو تاريخ الأسر الحاكمة أو الطغاة من الحكام الذين لم يغادروا السلطة إلا إلى السجن أو القبر، فإن للبنان أكثر من تاريخ، ولذا فإن كل مجموعة من المدارس الأهلية تدرس كتاباً مختلفاً في وقائعه وفي دلالاتها، وفي تطور الأحداث وفي محركيها والمستفيدين منها.
... وحين تورطت الدولة فحاولت بعض حكوماتها الائتلافية أن توحد كتاب التاريخ، عبر الكتابة بالماء، وإسقاط الأحداث والتطورات الدراماتيكية المختلف على حيثياتها ودلالاتها منه، هبّ قسم من المعارضة السياسية إلى رفض مبدأ الكتاب الموحد، مطالباً بترك الحق لكل طائفة بأن تكتب تاريخها.
أليس طريفاً أن يقرأ جيل واحد من التلامذة في ثمانية عشر كتاباً مختلفاً، لكل واقعة رواية تناقض الروايات الأخرى، واستنتاجات متباينة في الدلالات بما يكفل تعميق الانقسام والتمهيد للحرب الأهلية التالية؟!
تسير التظاهرات تحت شعار طائفي صريح: لكم تاريخكم ولنا تاريخنا! ولن نعلّم تاريخكم في مدارسنا!
قبل ذلك، وفي السياق نفسه، وتوكيداً للمقولة الطائفية ذاتها، تخرج تظاهرة تحت الشعار الإسلامي تريد الإسهام في كتابة تاريخ جديد لسوريا، ومن بعدها لمجمل البلاد العربية، بشطب الهوية العربية الجامعة ليعتمد الدين الحنيف هوية، وليذهب المعترضون إلى الجحيم!
يمكن القول، ببساطة، إن هاتين الحادثتين، في جملة حوادث عديدة، تظهران عمق الاضطراب بل الضياع، في تحديد هوية هذه الأرض العربية جميعاً في حمى الصراع بين الوطنية أو العروبة والدين.
هل نستغرب بعد ذلك أن تسقط فلسطين، عمداً، من جدول أعمال جامعة الدول العربية، وأن تكون في القمة العربية، المقررة بعد أسابيع في بغداد، في منزلة بين منزلتي الضيف الثقيل واللاجئ السياسي الذي لا يمكن رفضه كصاحب قضية تفيد كثيراً في لعبة المناقصة والمزايدة بين الدول الأعضاء التي باتت تعبر هذه الجامعة مجرد معبر أو بالأحرى «محلل شرعي» للذهاب بالمسائل العربية الخلافية بين «مكوناتها»، القديم منها والثابت بقوة الذهب، والحديث الواصل إلى السلطة بالشعار الديني، إلى مجلس الأمن الدولي.
والحقيقة أن الأنظمة العربية قد اجتمعت على إفراغ الجامعة العربية من أي مضمون، وعطلتها عن ممارسة أي دور فاعل... وهكذا فقد اكتفت أمانتها العامة بالتفرج على «الميدان» ـ الملاصق لمقرها ـ في القاهرة بينما الثورة تشعله بإرادة التغيير، ولكنها تحركت، بإرادة الخارج، لتأخذ قضية الثورة على نظام معمر القذافي، والتي عجزت عن مساعدتها إلى مجلس الأمن الذي أحالها على الحلف الأطلسي فاندفعت طائراته الحربية تقصف المدن والمنشآت والطوابير العسكرية جميعاً، مع الحرص على إبعاد الليبيين عن مصدر الثروة في بلادهم: آبار النفط والأنابيب ومحطات التكرير ومرافئ التصدير.
وتكرر الأمر ذاته مع تفجر الاعتراض الشعبي على «دكتاتورية الحزب الواحد» في سوريا ونظامها الذي رفض الاستماع لصوت الناس الذين كانوا يريدون الإصلاح وقد طالما وعد به وتحدث عنه ثم لم يباشره بذريعة أنه لن ينفذ تحت الضغط، فكان أن اتسعت رقعة المواجهة بين قوات النظام ومعارضيه الذين وجد بعضهم في الخارج من يؤمن لهم السلاح والتمويل والمنبر... ولم تجد الجامعة العربية عندها من القوة لردع النظام إلا «طرد» مندوبه من حرمها، في سابقة لا مثيل لها... وكان بديهياً أن يتفاقم الوضع منذراً بمخاطر جدية تتهدد كيان سوريا ووحدتها الوطنية، خصوصاً وقد ارتكبت الجامعة الخطيئة، مرة أخرى، فذهبت بالمسألة إلى مجلس الأمن.
وفي ظل التحالف المستجد بين أهل النفط والانتفاضات التي اختطفها الإسلاميون من «الميدان» وركبوا موجتها إلى السلطة في أقطار عربية عدة، أخرجت قضية فلسطين من الدائرة العربية، وترك مصير شعبها لإسرائيل تقرر فيه ـ بأسباب القوة الهائلة التي تملكها ـ ما يناسب مصالحها وأمنها، مستفيدة من هذه المهلة التي غاب فيها «عرب النظام الإسلامي» عن السمع والنظر فلم يعرفوا بالاعتداءات المتكررة كامتحان جدي لهم.
وهكذا لم يجد مجلس الجامعة الذي انعقد بينما الصواريخ الإسرائيلية تنهمر على مخيمات اللجوء في غزة، وتفتك بأهاليها، مستهدفة المجاهدين خصوصاً، ما يستدعي الاهتمام ولو عبر إصدار بيان فارغ من أي مضمون.
وصل الأمر بسياسي مجرب مثل سعود الفيصل إلى المطالبة بتسليح المعارضة في سوريا ومدها بالأموال اللازمة.. للتحرير! مزايداً بذلك على القطري المذهب حمد بن جاسم.
فأما العراق المشغول بنفسه، والمضيّعة وحدته ومواردها، فاهتمامه يتركز على استضافة «قمة الأربع ساعات» التي يرى فيها تأكيداً لهويته، بينما الظواهر الانفصالية تجعل وحدة دولته «رمزية».
وأما اليمن ففي مرحلة الانتقال من الدولة المركزية التي أقامها علي عبد الله صالح على قاعدة رئاسته والمهددة الآن بالانفراط، تحت ضغط انفصاليي الجنوب ومقاتلي «القاعدة» الذين يتوالدون على مدار الساعة فإذا هم جيش جرار.
وأما البحرين فشعبها يتيم متروك للريح،
باختصار فإن كل جماعة تكتب الآن تاريخاً جديداً لبلادها، لا تهم الأمانة أو الدقة فيه، بمقدار ما يهم تثبيت شرعية النظام الجديد.
ولعل هذا بين مسوغات التحرك في بيروت، الذي يريد كتابة التاريخ على قاعدة الدين، بحيث يكون لكل طائفة تاريخها... استباقاً لأن يكتب «الإسلاميون» مستقبل هذه المنطقة، متجاوزين حقهم إلى ما يتصل بأبناء الأديان الأخرى، فضلاً عن الطوائف الـ18...
وعسى من كانوا «عرباً» في ظل الأنظمة الدكتاتورية تبقى لهم هوية جامعة تحت الأنظمة الآتية إلى سرايات الحكم تحت رايات الدين الحنيف.
المصدر :
طلال سلمان\ السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة