دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يعيش اللبنانيون في قلب الكابوس الذي يحتجز إخوانهم السوريين في الدوامة الدموية التي تعصف بالبلد الشقيق الذي كان ملاذهم الآمن في أيام الشدة التي استطالت دهراً من الحروب الأهلية متعددة الشعار والهدف والقوة المحرّكة للاشتباك الذي يدر ذهباً بغض النظر عما يسفحه من دماء الضحايا الذين لا يمكن حصرهم في حزب أو تيار أو جبهة سياسية بالذات.
ويستعيد اللبنانيون فصول مأساتهم وهم يتابعون ـ بقلوبهم ثم بعيونهم ـ الوقائع اليومية التي تذهب ببعض ملامح الدولة التي كانت تتبدى مستعصية على الاختراق، وتخلخل ركائز الوحدة الوطنية لشعب شقيق طالما عصمته عروبته من الانجراف مع التطرف الديني أو التعصب المذهبي وأسقطت كل المحاولات التي استهدفت غواية الأقليات وتحريضها للخروج على الإجماع الوطني بدعاوى التميّز العنصري.
وليست مبالغة أن المأساة التي تعيشها سورية تحتل وجدان اللبنانيين وتزيد من إحساسهم بالخطر الذي سوف يتهددهم إذا ما جرفت التطورات الميدانية معززة بالتدخل العربي المباشر، تمويلاً وتسليحاً، وبالتحريض الدولي المفتوح الذي يستهدف سورية في وحدة شعبها ووحدة كيانها أكثر مما يستهدف نظامها، نحو الحرب الأهلية.
من هنا لم يجد اللبنانيون اعتراف الرئيس السوري بشار الأسد بأن سوريا تواجه خطر التقسيم أمراً عارضاً أو استنتاجاً متسرعاً.
والحقيقة أن هذا الاعتراف بخطر التقسيم يأتي متأخراً جداً وبعدما استولدت الوقائع وضعاً متفجراً، وشطرت المدن والمناطق بين القوى النظامية وما تسميه السلطة «العصابات المسلحة» من دون تحديد لهويتها السياسية، إن كان لها مثل هذه الهوية، وخلخلت العلاقات الإنسانية بين شركاء المصير من أبناء الشعب الواحد.
الطريف أن يأتي هذا الاعتراف غداة الدعوة إلى استفتاء على مشروع الدستور الجديد، وبعدما تجاوزته الأحداث على الأرض.. هذا على فرض إجرائه في الموعد المحدد يوم الأحد المقبل في السادس والعشرين من الشهر الجاري، والنجاح في استدراج المواطنين إلى المشاركة فيه بما يضمن شرعية نتائجه، فضلاً عن التسليم بتلبية نصوصه لمطالبهم المشروعة التي تتبدى الآن وكأنها تتجاوز كل ما هو مطروح ومتداول، مما كان قد يُقبل قبل ستة شهور، مثلاً، أو ربما في الأيام الأولى للخطأ القاتل في درعا.
لقد تجاوزت الأوضاع في سوريا حدود الاضطراب الأمني واسع النطاق، وصارت في بعض جوانبها، وعند الحدود مع لبنان والأردن والعراق خاصة، فضلاً عن تركيا بعدائيتها المعلنة، أقرب إلى صورة الحرب الأهلية.
إن الحدود السورية مع الدول المحيطة (في ما عدا الجولان الذي تحتله إسرائيل منذ حزيران 1967) تتبدى «مفتوحة» لكل راغب في المشاركة في الحدث السوري، سواء أكان تنظيماً سلفياً، أم جماعات مسلحة منخرطة في «القاعدة»، أو متحدراً من صلب الإخوان المسلمين الذين يحظون برعاية استثنائية من تركيا ومعها قطر، فضلاً عن منابع التنظيم الدولي للإخوان، بكل الجهات التي تحتضنه وتستفيد من خبرات شيوخه الكبار الذين لا يتورعون عن تكفير أي مسلم لا يقول قولهم، فكيف بالآخرين.
وبالتأكيد فإن جماهير المعارضة في الداخل التي يضاعف من حجمها كما يزيد من حدة مواقفها إصرار النظام على الحل الأمني وتكرار وعوده بحوار وطني لم يوفر الظروف الصحية لانعقاده حتى اليوم، تزداد تطرفاً خصوصاً أنها متروكة للريح، وللتحريض اليومي المنهجي ينهال عليها عبر الفضائيات والإذاعات والصحف ووسائل التواصل الإلكتروني، بينما النظام متمسك بخطابه الخشبي الذي لا يقدم أي وعد بتغيير جدي وشامل بل يكتفي بوعود غامضة لا تجد من يسمعها فضلاً عن أن يقبلها.
وطبيعي إن تعنت النظام في رفض الحوار مع معارضيه الذين يتزايدون عدداً وقوة مع كل يوم من أيام الاشتباك المفتوح في معظم أرجاء سوريا سيزيد مساحة التدخل الأجنبي، وهو على الأرجح ما يرى فيه الرئيس السوري مصدراً لخطر التقسيم.
ومفهوم أن ثمة قوى عديدة، بعضها عربي الكوفية غربي الهوى والهوية، فضلاً عن دول عديدة جاهرت بموقفها العدائي، تريد إسقاط سوريا جميعاً وليس إسقاط نظامها فحسب.. ولكن السؤال: هل مكّن هذا النظام شعب سوريا من مواجهة هذا الخطر بصدره، كما تعوّد في تجارب مشهودة سابقاً فهزم المتآمرين ووفر السلامة لـ«قلب العروبة النابض»؟!
ومع أن «مؤتمر أصدقاء سوريا» الذي سينعقد يوم الجمعة المقبل في تونس لا يبدو مؤهلاً لصياغة الحل المنشود، خصوصاً أنه محل صراع عنيف بين الأطراف الداعية إليه والتي تتباين في أغراضها إلى حد التناقض، إلا أن التفاهم المستجد بين بعض الدول العربية لا سيما مصر وتونس، قد يخفف من أضراره... وثمة أكثر من ثلاثين ورقة عمل، بينها عظيم التطرف كالورقة التركية، وبينها ما قدم بديلاً من الصمت، كالورقة الفرنسية، وإن كانت الوجهة العامة تتلخص بدعم «الخطة العربية» التي كانت اقترحتها جامعة الدول العربية، والتي ترفض التدخل الأجنبي، من حيث المبدأ، ربما لمعرفة من كان يرغب فيه باستحالته.
لقد بات الخطر يتهدد سورية، شعباً ودولة، وليس نظامها فحسب.
ولعل هذا الخطر الذي يتبدى جلياً لكل ذي عقل هو الذي دفع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى التحذير من لغة التحريض على الفتنة، والإلحاح في الدعوة إلى الحوار، في مواجهة ما يدبر لسوريا، والذي يرونه في دمشق دعوة إلى التقسيم، ونراه في لبنان خطراً على الوحدة الوطنية.
ومفهوم أن الحرص على السلم الأهلي في لبنان لا يتجلى في مثل تلك الخطب التحريضية التي حفل بها مهرجان البيال لمناسبة الذكرى السابعة لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي تؤذي لبنان من غير أن تفيد في كثير أو قليل حركة المعارضة في سورية.
إننا نعيش، هذه اللحظة، في قلب الخطر. وليس ضماناً للوحدة الوطنية أن نستخدم المحنة السورية للاستثمار السياسي والطوائفي في لبنان، فالقضية أخطر وأبعد من ذلك بكثير.
المصدر :
السفير /طلال سلمان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة