للمرّة الأولى منذ أكثر من عقد يواجه لبنان صعوبات على ثلاثة صعد في الوقت نفسه: الأول داخليّ مع تراجع الثقة، الثاني إقليمي في ظلّ الاضطرابات التي تشهدها المنطقة والثالث عالمي وتحديداً من منطقة اليورو. إزاء هذه الثلاثيّة المقلقة، يجدر بالبلاد الانطلاق بسياسات تُرسّخ الثقة، تحافظ على الاستقرار الماكرو اقتصادي، وتعبّد الطريق المؤدية إلى اقتصاد متين، دينامي ودامج، وفقاً لتقرير أصدره صندوق النقد الدولي أمس.

 

فبناءً على مشاورات أجريت في لبنان في نهاية 2011 في إطار العمل بموجب المادّة الرابعة من نظام الصندوق، أعدّت بعثة من الصندوق تقريراً مفّصّلاً يقوّم الأداء الاقتصادي والمالي والنقدي في عام 2011، ويفنّد التحدّيات القائمة حالياً ويبني عليها لتقديم مقترحات للمرحلة المقبلة. وانطلاقاً من هذه المقترحات والمعلومات حدّد مجلس المديرين في الصندوق النقاط الأساسية التي يجب التركيز عليها خلال المرحلة المقبلة.

يقول المديرون في تعليقهم إنّ «السلطات (النقدية والمالية) تمكّنت من إدارة مرحلة التراجع في 2011، بنجاح، مستخدمةً الوفر الذي تحقّق خلال مرحلة الطفرة»، غير أنّهم يلحظون «مخاطر نزولية مرتفعة نظراً للانتفاضة في سوريا والأفق غير المحسوم للمنطقة إضافة إلى الأزمة المالية في أوروبا». كذلك، فإنّ عوامل الهشاشة الكامنة تبقى كبيرة وتحديداً تلك الناتجة من ارتفاع الدين الحكومي واستمرار عجز الميزان الجاري.

في ظلّ هذه المخاطر يُشدّد المجلس على أنّ التحدّي الأساسي في المدى المتوسّط يتمثّل في «تحقيق النموّ المستدام والدامج بالتزامن مع خفض عوامل الهشاشة». ويقول إنّ على السلطات «تطبيق استراتيجية في المدى المتوسط تهدف إلى تحقيق نموّ مستدام وشامل في تأثيراته ومولّد للوظائف».

ويلحظ التقرير أنّ «قدرة الاقتصاد على توليد وظائف نوعية تبقى ضعيفة». ويوضح أنّه بين عامي 1998 و2009 نما الناتج بمعدّل سنوي بلغ 4% «غير أنّ معدّلات التوظيف لم تتغيّر وبقيت مركّزة في القطاعات ذات الإنتاجية المتدنيّة».

وارتباطاً بهذه القضية، يقول التقرير إنّ سوق العمل تشوبها عوامل عدم الفاعلية والكفاءة نتيجة التفاوت بين الوظائف المطلوبة والمعروض من المهارات - «حيث إنّ المستوى التعليمي لدى القوى العاملة مرتفع جداً ما يدفع العديد للعمل في الخارج في إحدى الفترات».

وفي ما خصّ زيادة الأجور التي أُقرّت أخيراً «فإنّ الحدّ الأدنى (للأجور في لبنان) سيكون من بين الأعلى في المنطقة ولكن مع الأخذ في الحسبان كلفة المعيشة يكون هذا الحدّ متماهياً على نحو كبير مع المعدّل الإقليمي».

على أي حال، تتطلّب استراتيجية النموّ المولد للوظائف «إطلاق الإصلاحات التي طال انتظارها لتطوير البنية التحتية وتحسين بيئة الأعمال وإزالة عوامل عدم الكفاءة من سوق العمل».

وفي هذا السياق «يُرحّب الصندوق بالاستثمار المخطّط في قطاع الكهرباء ولكن مع التشديد على أنّ المضي بالإصلاحات يجب أن يتزامن مع الإصلاحات لخفض التحويلات الكبيرة (من الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان)».

وفي ما خصّ أوضاع المالية العامّة، يُشير إلى أنّ الاستراتيجية يجب أن تُركّز على «خفض معدّل الدين العام إلى الناتج وفي الوقت نفسه خلق مجال لرفع الإنفاق الاجتماعي والاستثماري». ويقول التقرير إنّ الموازنة «تُمثّل فرصة لجعل السياسات المالية أكثر عدالة» ويُشير إلى أنّ وفد الصندوق دعم – خلال مشاوراته – معظم إجراءات زيادة الواردات المفترضة ورفع الإنفاق الاجتماعي بما فيها «التخفيف من حدّة آثار زيادة معدّل الضريبة على القيمة المضافة» إلى 12%. كما نصح «بتأجيل تطبيق الرسم على (معاملات) العقارات وضريبة إعادة تقييم الأصول على أن يتم تصنيفهما في ضريبة دامجة على الأرباح الرأسمالية تُركّز على الأرباح المحقّقة».

ويُمكن تحقيق إيرادات إضافية، يتابع التقرير، عبر زيادة الرسوم على الكحول والتبغ وإلغاء الخفض المعتمد لرسم البنزين الذي يُفيد أصحاب المداخيل المرتفعة.

وبالانتقال إلى تأمين الحاجات التمويلية للحكومة، «يجدر بالحكومة خفض اعتمادها على التمويل من مصرف لبنان وتأمين احتياجاتها كاملة من السوق». وفي هذا السياق يُعرب الصندوق عن دعمه «اقتراضاً أكبر إنّما أكثر حذراً بالعملات الأجنبية في المدى القصير». وعن الاقتراض بالليرة يقول إنّ «رفع الفوائد على سندات الخزينة لفترة استحقاق تقلّ عن 7 سنوات يجعل تلك السندات أكثر جاذبية للمصارف. ولكن في المقابل، يُحذّر بعض المديرين (في المجلس) من الأثر المالي والاقتصادي للفوائد المرتفعة».

وعن القطاع المالي تحديداً، يلحظ الصندوق أنّ «المصارف راكمت المقوّمات المخفّفة للصدمات، والمؤشرات التي تسجلها تظهر أنّها سليمة. لكن في المقابل، يؤدّي الانكشاف الكبير على الخارج وزيادة المخاطر الإقليمية والمحلية إلى ارتفاع المخاطر المصرفية». وفي هذا الإطار يحثّ الصندوق السلطات على «إيلاء التركيز اللازم للكشف المبكر للمخاطر من خلال اختبارات الضغط المتطورة وتحسين تصنيف القروض والمؤونات والاستمرار بتمتين النظام في وجه تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». ومن شأن تحسين إطار العمل وفقاً للمعايير الدولية (AML/CFL) «تأمين الطمأنينة إزاء القطاع المصرفي».

إلى ذلك يُعير الصندوق أهمية كبيرة لاحتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان التي تمّت مراكمتها في المرحلة السابقة. ويقول إنّه بنهاية تشرين الثاني الماضي (حين أجرى الوفد استشاراته) كانت الاحتياطات الأجنبية لمصرف لبنان عند 32 مليار دولار؛ أي أنّها تُغطّي 27% من الكتلة النقدية الواسعة و43% من الودائع بالعملات الأجنبية. تلك الاحتياطات «تكفي لتحمّل صدمة من عيار تلك التي شهدتها البلاد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، والحرب مع إسرائيل في عام 2006» يقول التقرير. ويتوقّع معدّوه أن ترتفع الاحتياطات – التي تؤمّن الاستقرار في العلاقة الاقتصادية مع العالم الخارجي وتحفظ سعر الصرف من الانهيار – إلى 34.4 مليار دولار في عام 2012.

  • فريق ماسة
  • 2012-02-10
  • 12343
  • من الأرشيف

صندوق النقد: بعد الطفرة حان وقت النموّ المستدام والدامج

للمرّة الأولى منذ أكثر من عقد يواجه لبنان صعوبات على ثلاثة صعد في الوقت نفسه: الأول داخليّ مع تراجع الثقة، الثاني إقليمي في ظلّ الاضطرابات التي تشهدها المنطقة والثالث عالمي وتحديداً من منطقة اليورو. إزاء هذه الثلاثيّة المقلقة، يجدر بالبلاد الانطلاق بسياسات تُرسّخ الثقة، تحافظ على الاستقرار الماكرو اقتصادي، وتعبّد الطريق المؤدية إلى اقتصاد متين، دينامي ودامج، وفقاً لتقرير أصدره صندوق النقد الدولي أمس.   فبناءً على مشاورات أجريت في لبنان في نهاية 2011 في إطار العمل بموجب المادّة الرابعة من نظام الصندوق، أعدّت بعثة من الصندوق تقريراً مفّصّلاً يقوّم الأداء الاقتصادي والمالي والنقدي في عام 2011، ويفنّد التحدّيات القائمة حالياً ويبني عليها لتقديم مقترحات للمرحلة المقبلة. وانطلاقاً من هذه المقترحات والمعلومات حدّد مجلس المديرين في الصندوق النقاط الأساسية التي يجب التركيز عليها خلال المرحلة المقبلة. يقول المديرون في تعليقهم إنّ «السلطات (النقدية والمالية) تمكّنت من إدارة مرحلة التراجع في 2011، بنجاح، مستخدمةً الوفر الذي تحقّق خلال مرحلة الطفرة»، غير أنّهم يلحظون «مخاطر نزولية مرتفعة نظراً للانتفاضة في سوريا والأفق غير المحسوم للمنطقة إضافة إلى الأزمة المالية في أوروبا». كذلك، فإنّ عوامل الهشاشة الكامنة تبقى كبيرة وتحديداً تلك الناتجة من ارتفاع الدين الحكومي واستمرار عجز الميزان الجاري. في ظلّ هذه المخاطر يُشدّد المجلس على أنّ التحدّي الأساسي في المدى المتوسّط يتمثّل في «تحقيق النموّ المستدام والدامج بالتزامن مع خفض عوامل الهشاشة». ويقول إنّ على السلطات «تطبيق استراتيجية في المدى المتوسط تهدف إلى تحقيق نموّ مستدام وشامل في تأثيراته ومولّد للوظائف». ويلحظ التقرير أنّ «قدرة الاقتصاد على توليد وظائف نوعية تبقى ضعيفة». ويوضح أنّه بين عامي 1998 و2009 نما الناتج بمعدّل سنوي بلغ 4% «غير أنّ معدّلات التوظيف لم تتغيّر وبقيت مركّزة في القطاعات ذات الإنتاجية المتدنيّة». وارتباطاً بهذه القضية، يقول التقرير إنّ سوق العمل تشوبها عوامل عدم الفاعلية والكفاءة نتيجة التفاوت بين الوظائف المطلوبة والمعروض من المهارات - «حيث إنّ المستوى التعليمي لدى القوى العاملة مرتفع جداً ما يدفع العديد للعمل في الخارج في إحدى الفترات». وفي ما خصّ زيادة الأجور التي أُقرّت أخيراً «فإنّ الحدّ الأدنى (للأجور في لبنان) سيكون من بين الأعلى في المنطقة ولكن مع الأخذ في الحسبان كلفة المعيشة يكون هذا الحدّ متماهياً على نحو كبير مع المعدّل الإقليمي». على أي حال، تتطلّب استراتيجية النموّ المولد للوظائف «إطلاق الإصلاحات التي طال انتظارها لتطوير البنية التحتية وتحسين بيئة الأعمال وإزالة عوامل عدم الكفاءة من سوق العمل». وفي هذا السياق «يُرحّب الصندوق بالاستثمار المخطّط في قطاع الكهرباء ولكن مع التشديد على أنّ المضي بالإصلاحات يجب أن يتزامن مع الإصلاحات لخفض التحويلات الكبيرة (من الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان)». وفي ما خصّ أوضاع المالية العامّة، يُشير إلى أنّ الاستراتيجية يجب أن تُركّز على «خفض معدّل الدين العام إلى الناتج وفي الوقت نفسه خلق مجال لرفع الإنفاق الاجتماعي والاستثماري». ويقول التقرير إنّ الموازنة «تُمثّل فرصة لجعل السياسات المالية أكثر عدالة» ويُشير إلى أنّ وفد الصندوق دعم – خلال مشاوراته – معظم إجراءات زيادة الواردات المفترضة ورفع الإنفاق الاجتماعي بما فيها «التخفيف من حدّة آثار زيادة معدّل الضريبة على القيمة المضافة» إلى 12%. كما نصح «بتأجيل تطبيق الرسم على (معاملات) العقارات وضريبة إعادة تقييم الأصول على أن يتم تصنيفهما في ضريبة دامجة على الأرباح الرأسمالية تُركّز على الأرباح المحقّقة». ويُمكن تحقيق إيرادات إضافية، يتابع التقرير، عبر زيادة الرسوم على الكحول والتبغ وإلغاء الخفض المعتمد لرسم البنزين الذي يُفيد أصحاب المداخيل المرتفعة. وبالانتقال إلى تأمين الحاجات التمويلية للحكومة، «يجدر بالحكومة خفض اعتمادها على التمويل من مصرف لبنان وتأمين احتياجاتها كاملة من السوق». وفي هذا السياق يُعرب الصندوق عن دعمه «اقتراضاً أكبر إنّما أكثر حذراً بالعملات الأجنبية في المدى القصير». وعن الاقتراض بالليرة يقول إنّ «رفع الفوائد على سندات الخزينة لفترة استحقاق تقلّ عن 7 سنوات يجعل تلك السندات أكثر جاذبية للمصارف. ولكن في المقابل، يُحذّر بعض المديرين (في المجلس) من الأثر المالي والاقتصادي للفوائد المرتفعة». وعن القطاع المالي تحديداً، يلحظ الصندوق أنّ «المصارف راكمت المقوّمات المخفّفة للصدمات، والمؤشرات التي تسجلها تظهر أنّها سليمة. لكن في المقابل، يؤدّي الانكشاف الكبير على الخارج وزيادة المخاطر الإقليمية والمحلية إلى ارتفاع المخاطر المصرفية». وفي هذا الإطار يحثّ الصندوق السلطات على «إيلاء التركيز اللازم للكشف المبكر للمخاطر من خلال اختبارات الضغط المتطورة وتحسين تصنيف القروض والمؤونات والاستمرار بتمتين النظام في وجه تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». ومن شأن تحسين إطار العمل وفقاً للمعايير الدولية (AML/CFL) «تأمين الطمأنينة إزاء القطاع المصرفي». إلى ذلك يُعير الصندوق أهمية كبيرة لاحتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان التي تمّت مراكمتها في المرحلة السابقة. ويقول إنّه بنهاية تشرين الثاني الماضي (حين أجرى الوفد استشاراته) كانت الاحتياطات الأجنبية لمصرف لبنان عند 32 مليار دولار؛ أي أنّها تُغطّي 27% من الكتلة النقدية الواسعة و43% من الودائع بالعملات الأجنبية. تلك الاحتياطات «تكفي لتحمّل صدمة من عيار تلك التي شهدتها البلاد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، والحرب مع إسرائيل في عام 2006» يقول التقرير. ويتوقّع معدّوه أن ترتفع الاحتياطات – التي تؤمّن الاستقرار في العلاقة الاقتصادية مع العالم الخارجي وتحفظ سعر الصرف من الانهيار – إلى 34.4 مليار دولار في عام 2012.

المصدر : الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة