دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
حاذر الجيش الدخول على خط السجال الدائر حول عرسال، ووضعه في نطاق سياسي محض لا يفضي حكماً إلى التلاعب بالأمن. لم يتولَّ تبرير ما قاله وزير الدفاع فايز غصن، ولا ناقضه بالتأكيد في ضوء الكمّ الكبير من المعلومات المتوافرة لديه حيال هذا الملف الشائك، ولا أغفل حقيقة تنامي السلفية هناك متأثرة بتنظيم "القاعدة" أو بسواه، ولا اشترك في الجدل الذي نشب بين غصن ووزير الداخلية والبلديات العميد مروان شربل، ولا بين حلفاء وزير الدفاع وقوى 14 آذار حيال وجود عناصر من "القاعدة" في البلدة البقاعية أو عدم وجودهم. لم تكن إيضاحات غصن في الساعات الأخيرة بعيدة، كذلك، عن وجهة نظر المؤسّسة العسكرية.
كانت لدى قائد الجيش العماد جان قهوجي معلومات مهمة حيال تسلّل إرهابيين من سوريا إلى لبنان عبر عرسال، بينهم شخص رصده الجيش واعتقله قبل أن يتدخّل أهالي عرسال لإطلاقه بالقوة، بعدما طوّقوا عناصر الجيش وأفلحوا في تهريب هذا الشخص. لم يؤدِّ الحادث، رغم معرفة القيادة بانتماء هذا الشخص إلى تنظيم "القاعدة"، إلى مشكلة بين المؤسسة العسكرية وأهالي عرسال، فعاود الجيش في الغداة، ثم في الأيام التالية، تسيير دوريات عسكرية وأمنية هناك. بدوره تيّار المستقبل لم يتعمّد تصعيد الموقف في وجه الجيش، بيد أنه وجّه رسالة واضحة في هذا المنحى.
تيقّنت المؤسسة العسكرية من وطأة المواجهة العنيفة والحسّاسة التي تقودها البلدة بتشجيع مباشر من تيّار المستقبل ضد النظام السوري، ودعم معارضيه الذين يجبهونه سلماً أو بالسلاح. لم يُخفَ على الجيش أن سعر الكلاشنيكوف ارتفع من 500 دولار أميركي إلى ألف، ولا اعتقاله وأجهزة أمنية أخرى مهرّبين أو تجّار تهريب أسلحة، ولا كذلك سهولة عبور النهر في الشمال من لبنان إلى سوريا لتهريب البنادق.
بعض تلك المعطيات أطلع قائد الجيش النائب سليمان فرنجية عليها، عندما زاره قبل أيام في بنشعي. كان بعض التقارير الأخرى، المطابقة في معطياتها، قد بلغ إلى وزير الدفاع وتحدّث ـ إلى تلك الحادثة ـ عن توسّع المناخ السلفي في عرسال، كما في سواها، متأثراً بالتطورات العسكرية التي كانت تشهدها حمص، المرتبطة مع الشمال اللبناني المتاخم بأكثر من علاقة جوار واختصار مسافات.
إلا أن المؤسّسة العسكرية حدّدت موقفها من كل ما أحاط بالاشتباك السياسي الأخير حول عرسال و"القاعدة" تبعاً لمعطيات منها:
1 ـ إن انتشار الجيش في عرسال، في المنطقة الحدودية الشرقية مع سوريا، يحتاج أولاً إلى قرار سياسي من السلطة الإجرائية لم يُتخذ، ولا توشك على اتخاذه. إلا أنه يحتاج إلى ما يتجاوز القرار السياسي بالانتشار، وهو قدرات الجيش.
في منطقة يمتد عرضها إلى 33 كيلومتراً تكثر فيها الوديان والهضاب والجبال والمغاور، متاخمة لسوريا، يحتاج نشر الجيش إلى أكثر من لواء، الأمر الذي يعني سحب عديد كبير من أماكن انتشار أخرى ينظر الجيش إلى الأخطار التي تحيق بها بقلق أكبر. لديه خمسة ألوية في الجنوب مع القوة الدولية العاملة في نطاق عمليات القرار 1701. لا يسعه كذلك سحب عديده من بيروت أو طرابلس أو صيدا أو جوارها، وخصوصاً المخيمات الفلسطينية، فضلاً عن انتشاره في الناعمة لحماية خط مرور القوة الدولية، من أجل نشره في عرسال.
2 ـ يدرك الجيش أن جانباً كبيراً ـ قد يكون الرئيسي ـ في السجال الدائر حول عرسال وتنظيم "القاعدة" يتصل بالموقف من أحداث سوريا، بين فريق يندفع في تشجيع إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد ويجهر قادته بموقفهم هذا، وآخر يدعم النظام ويضعه في صلب خياراته الاستراتيجية والإقليمية. بين هذين الموقفين، حدّدت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مقاربة تعاطيها مع أحداث سوريا وفق سياسة النأي بالنفس. لم تعلن موقفاً مناوئاً للنظام، ولا آخر مؤيداً له.
أتاح ذلك للجيش اتخاذ الإجراءات التي تمكّنه من ممارسة دوره في ضمان الاستقرار وضبط الأمن. يوقف المسلحين بالجرم المشهود لا تبعاً لشهادات أو إفادات وإخبار، يساعد على انتقال المدنيين الفارين من سوريا إلى لبنان من دون أن يكون معنياً بتسليمهم، ولا يمثل الجهة الرسمية المعنية بالتسليم، يمنع دخول أشخاص بالبزّة العسكرية إلى داخل لبنان، من أن ينفي احتمال لجوء جنود فارين من الجيش السوري إلى البقاع في عداد فارين مدنيين لا يُبرزون أي مظاهر عسكرية بلباسهم أو تزّودهم أسلحة.
3 ـ رغم أن الجيش يأتمر بالسلطة الإجرائية، إلا أنه ليس طرفاً في الصراع السياسي الناشب بين قوى 8 و14 آذار، ولا يتصرّف على أنه جزء من هذا الفريق أو ذاك ضد الآخر عندما يكون في السلطة. لم يكن جيش قوى 14 آذار عندما أمسكت هذه بحكومة الغالبية قبل سنوات، ولا يتصرّف الآن على أنه جيش قوى 8 آذار كأكثرية حكومية ونيابية. وهو بذلك يتفادى الوقوع في شرك هذا الانقسام. لا يدعم النظام السوري عندما يعتقل مسلحين أو تجار تهريب سلاح من الأراضي اللبنانية إلى الأراضي السورية، ولا يؤيد في المقابل المعارضة السورية عندما يتساهل لأسباب إنسانية في دخول الفارين إلى لبنان. إلا أنه لا يوافق في كل حال، تحت وطأة الاتهامات المتبادلة بين قوى 8 و14 آذار، على التعامل مع عرسال على أنها مأوى إرهابيين.
الواقع أن العلاقة الميدانية الوحيدة بين الجيشين اللبناني والسوري تتركز على مكتب التنسيق الذي يجتمع في دمشق أو في بيروت، لتبادل المعلومات والشكاوى المتصلة بمراقبة الحدود المشتركة بين البلدين ومنع التهريب وتسلّل المسلحين. لا يتلقى الضبّاط اللبنانيون من نظرائهم السوريين سوى شكوى واحدة، هي ضرورة ضبط الجيش اللبناني الحدود من الجانب الذي يسيطر عليه.
المصدر :
نقولا ناصيف
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة