في حمص يذبح السوري أخاه. وفي حمص يصبح المذهب أهم من الجار ومن عشرة العمر وأهم من الدولة والدين الحنيف، فيكتب العلويون والسنة تاريخا جديدا ملطخا بدم المدينة المنكوبة. وعلى حمص وأهلها يراهن كثيرون لحسم معركة مصير. الأنياب كثيرة في الداخل والخارج، والمخالب تريد لذاك الوريد الحمصي أن يؤسس لخراب بلد.

هل كان كل ذاك المخزون الطائفي مخنوقا فعلا في القلوب؟ هل الصمت عن الطائفية والمذهبية طيلة تلك العقود كان بفعل الخوف لا النسيان؟ هل كانت العلمانية وأفكار البعث سبيلا لخنق الحقد، أم وقودا لنار طال وقت اشتعالها، ولما اشتعلت تكاد تحرق كل شيء؟

المتفجرات تقض مضاجع أهل حمص ليلا، والاقتتال والخطف والاغتصاب والذبح على الهوية يقضها طيلة النهار. يهرب بعض أهل المدينة المنكوبة إلى الفنادق الدمشقية، ويكمل بعضهم الآخر صوب لبنان، ويتكوم بعضهم الثالث على بضعهم في ما تيسر من ملاجئ أو في البيوت، بينما الأنياب والمخالب والسكاكين تحتل الشوارع.

من أين جاء كل هذا السلاح؟ ولماذا فشلت الدولة في منع الكارثة؟ وهل يستحق الإصلاح كل هذا الدم؟ ومتى تنتهي محنة المدينة التي عرفت أهم الحضارات عبر تاريخها الحديث منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. من يقتل باسم الدين أو باسم الدولة أو باسم من لا يريد لهذا الدين ولا للدولة أن يبقيا؟

يراد لحمص أن تهزم النظام، ويدرك النظام انه لو «سقطت» حمص فقد تصبح بنغازي سورية. لا المسلحون فيها من النوع الذي سيسلم سلاحه بسهولة، ولا السلطة ستقبل بان تتحول حمص إلى ثغرة أمنية خطيرة. الحسم ممنوع لأن عيون العرب والغرب مسلطة على المدينة والروس ينصحون بالتريث، والاستمرار على الوضع الحالي ينهك الجيش والأمن ويهدد بفتح ثغرات أخرى بدأت معالمها تظهر في ادلب وريفها. أما الحلول السياسية فالجميع عاجز عن اجتراحها. العقم السياسي سيد الموقف.

حاول النظام القضاء على مناهضيه والمسلحين في المدينة من دون اللجوء إلى وسائل الحسم النهائي. دخلها مرة وانسحب، عاد السلاح إليها بأقوى مما كان. لعل بعض من كان سابقا في أجهزة أمنية في المدينة قد ساهم في إيصال السلاح. هذه كانت من عيوب الفساد والرشوة سابقا حين كانت بعض المعابر الحدودية «تؤجر» لساعات بحيث ان المسؤول كان يتقاضى رشوة في مقابل عدم تفتيش العبور لوقت محدد. ويقال إن إدخال السلاح تم خصوصا من تركيا ولبنان.

فرنسا سارعت إلى تحذير القيادة السورية من دخول حمص. قال الناطق باسم الخارجية الفرنسية برنار فاليرو «يجب على المجتمع الدولي بأسره أن يحشد نفسه لإنقاذ الشعب السوري». تزامن الموقف الفرنسي مع موقف أميركي مماثل. قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية انه «من المقلق للغاية انه في مناطق مثل حمص ثمة شيء ما يتم الإعداد له». لم ينفع نفي الحكومة السورية لمثل هذا الاحتمال في صد التصريحات الغربية. أما في الوطن العربي فتعددت التحذيرات حيال احتمال الدخول إلى حمص.

حصل الشيء نفسه سابقا في حماه. كان يراد للمدينة أن تستنبط التاريخ الحديث. أريد لها أن تبعث الدماء التي سالت في ثمانينيات القرن الماضي. ساد الاعتقاد بأن في حماه ما يكفي من الأحقاد المذهبية لتشتعل فيها الحرب. دخل الجيش السوري المدينة بحيلة أمنية حيث اصطنع انشقاقا فالتف حول المنشقين معارضون سرعان ما تم القبض عليهم. أما حمص فتبدو، على الأقل حتى الآن، عصية على كل الحيل الأمنية.

يستذكر بعض أهل حمص تاريخ مدينتهم. يقول بعضهم إنها كانت اقرب إلى علي بن أبي طالب منها إلى معاوية الذي بسط نفوذه عليها. يستعيدون مجد خالد بن الوليد الذي دخلها سلما ولا يزال قبره فيها شاهدا على التاريخ، ويستعيدون عهد عمر بن الخطاب الذي أسس فيها جند حمص. فيها استقر صحابيون، وفيها صكت النقود وازدهرت الزراعة والصناعة.

المدينة الغارقة اليوم بدماء أهلها، عرفت كل أنواع الغزوات والحضارات، من الرومان والسلاجقة والبيزنطيين والعباسيين والأمويين والصليبيين، إلى العثمانيين حين غزاها القائد التركي افتكين، وهم الذين دكوا سورها. وبحمص تغزل ابن بطوطة ومن صوفها وحريرها تزينت النساء.

الطامعون بحمص اليوم كثيرون. بعضهم يستنجد بالإسلام سلاحا. وبعضهم يحارب فيها الإسلاميين، وثالثهم يستنبط عهد الجنرال الفرنسي هنري غورو الذي جعلها تابعة لولاية دمشق، ورابعهم يعتقد أن الانتفاضة فيها تحاكي ثورتها ضد الفرنسيين. وخامسهم يريد محاسبة كل النظام على تاريخه. والنظام حائر بين الدخول بقوة، أو الانتظار ريثما تنضج الظروف. هو فخ جديد، ودماء جديدة.

تنحسر السياسة أمام الدماء. تصرخ الدولة أن في المدينة مسلحين يجب القضاء عليهم. يقول المسلحون إن الدولة ستنهزم في حمص. يحذر بعض المعارضة من السلاح. تدغدغ بعض المعارضة الأخرى أحلام الحسم العسكري فتحصل لقاءات مع قائد الجيش السوري الحر رياض الأسعد. تنتفض نخوة العرب دفاعا عن المدينة وفي ذهنهم إسقاط النظام أو إسقاط إيران. يرى الغرب في حمص فرصة نادرة لشد الخناق ولإقناع روسيا والصين بتعديل مسار الأمور في مجلس الأمن. «الأطلسي» متردد، لكن بعض دوله تنتظر مجزرة لتتحرك الآلة العسكرية على غرار ما حصل في ليبيا.

تبدو حمص حاليا عنوانا لمرحلة قد تعدل مسارات كثيرة وتدفع نحو خيارات عسكرية خطيرة ما دام العقم السياسي مستمرا. الجميع مسؤول عن هذا العقم نظاما ومعارضة وعربا. وبانتظار الحلول التي قد لا تأتي، يقتل الحمصي أخاه الحمصي، ويتقاتل الجيش مع المسلحين والمناهضين، فتغرق سورية أكثر في اتون حرب مذهبية. لا احد يستطيع أن ينهزم في حمص، لا الدولة ولا المسلحون. قد لا يتأخر الأمر نحو حسم عسكري. الجميع مسؤول.

  • فريق ماسة
  • 2011-12-12
  • 12164
  • من الأرشيف

دماء حمص تغير وجه سورية

  في حمص يذبح السوري أخاه. وفي حمص يصبح المذهب أهم من الجار ومن عشرة العمر وأهم من الدولة والدين الحنيف، فيكتب العلويون والسنة تاريخا جديدا ملطخا بدم المدينة المنكوبة. وعلى حمص وأهلها يراهن كثيرون لحسم معركة مصير. الأنياب كثيرة في الداخل والخارج، والمخالب تريد لذاك الوريد الحمصي أن يؤسس لخراب بلد. هل كان كل ذاك المخزون الطائفي مخنوقا فعلا في القلوب؟ هل الصمت عن الطائفية والمذهبية طيلة تلك العقود كان بفعل الخوف لا النسيان؟ هل كانت العلمانية وأفكار البعث سبيلا لخنق الحقد، أم وقودا لنار طال وقت اشتعالها، ولما اشتعلت تكاد تحرق كل شيء؟ المتفجرات تقض مضاجع أهل حمص ليلا، والاقتتال والخطف والاغتصاب والذبح على الهوية يقضها طيلة النهار. يهرب بعض أهل المدينة المنكوبة إلى الفنادق الدمشقية، ويكمل بعضهم الآخر صوب لبنان، ويتكوم بعضهم الثالث على بضعهم في ما تيسر من ملاجئ أو في البيوت، بينما الأنياب والمخالب والسكاكين تحتل الشوارع. من أين جاء كل هذا السلاح؟ ولماذا فشلت الدولة في منع الكارثة؟ وهل يستحق الإصلاح كل هذا الدم؟ ومتى تنتهي محنة المدينة التي عرفت أهم الحضارات عبر تاريخها الحديث منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. من يقتل باسم الدين أو باسم الدولة أو باسم من لا يريد لهذا الدين ولا للدولة أن يبقيا؟ يراد لحمص أن تهزم النظام، ويدرك النظام انه لو «سقطت» حمص فقد تصبح بنغازي سورية. لا المسلحون فيها من النوع الذي سيسلم سلاحه بسهولة، ولا السلطة ستقبل بان تتحول حمص إلى ثغرة أمنية خطيرة. الحسم ممنوع لأن عيون العرب والغرب مسلطة على المدينة والروس ينصحون بالتريث، والاستمرار على الوضع الحالي ينهك الجيش والأمن ويهدد بفتح ثغرات أخرى بدأت معالمها تظهر في ادلب وريفها. أما الحلول السياسية فالجميع عاجز عن اجتراحها. العقم السياسي سيد الموقف. حاول النظام القضاء على مناهضيه والمسلحين في المدينة من دون اللجوء إلى وسائل الحسم النهائي. دخلها مرة وانسحب، عاد السلاح إليها بأقوى مما كان. لعل بعض من كان سابقا في أجهزة أمنية في المدينة قد ساهم في إيصال السلاح. هذه كانت من عيوب الفساد والرشوة سابقا حين كانت بعض المعابر الحدودية «تؤجر» لساعات بحيث ان المسؤول كان يتقاضى رشوة في مقابل عدم تفتيش العبور لوقت محدد. ويقال إن إدخال السلاح تم خصوصا من تركيا ولبنان. فرنسا سارعت إلى تحذير القيادة السورية من دخول حمص. قال الناطق باسم الخارجية الفرنسية برنار فاليرو «يجب على المجتمع الدولي بأسره أن يحشد نفسه لإنقاذ الشعب السوري». تزامن الموقف الفرنسي مع موقف أميركي مماثل. قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية انه «من المقلق للغاية انه في مناطق مثل حمص ثمة شيء ما يتم الإعداد له». لم ينفع نفي الحكومة السورية لمثل هذا الاحتمال في صد التصريحات الغربية. أما في الوطن العربي فتعددت التحذيرات حيال احتمال الدخول إلى حمص. حصل الشيء نفسه سابقا في حماه. كان يراد للمدينة أن تستنبط التاريخ الحديث. أريد لها أن تبعث الدماء التي سالت في ثمانينيات القرن الماضي. ساد الاعتقاد بأن في حماه ما يكفي من الأحقاد المذهبية لتشتعل فيها الحرب. دخل الجيش السوري المدينة بحيلة أمنية حيث اصطنع انشقاقا فالتف حول المنشقين معارضون سرعان ما تم القبض عليهم. أما حمص فتبدو، على الأقل حتى الآن، عصية على كل الحيل الأمنية. يستذكر بعض أهل حمص تاريخ مدينتهم. يقول بعضهم إنها كانت اقرب إلى علي بن أبي طالب منها إلى معاوية الذي بسط نفوذه عليها. يستعيدون مجد خالد بن الوليد الذي دخلها سلما ولا يزال قبره فيها شاهدا على التاريخ، ويستعيدون عهد عمر بن الخطاب الذي أسس فيها جند حمص. فيها استقر صحابيون، وفيها صكت النقود وازدهرت الزراعة والصناعة. المدينة الغارقة اليوم بدماء أهلها، عرفت كل أنواع الغزوات والحضارات، من الرومان والسلاجقة والبيزنطيين والعباسيين والأمويين والصليبيين، إلى العثمانيين حين غزاها القائد التركي افتكين، وهم الذين دكوا سورها. وبحمص تغزل ابن بطوطة ومن صوفها وحريرها تزينت النساء. الطامعون بحمص اليوم كثيرون. بعضهم يستنجد بالإسلام سلاحا. وبعضهم يحارب فيها الإسلاميين، وثالثهم يستنبط عهد الجنرال الفرنسي هنري غورو الذي جعلها تابعة لولاية دمشق، ورابعهم يعتقد أن الانتفاضة فيها تحاكي ثورتها ضد الفرنسيين. وخامسهم يريد محاسبة كل النظام على تاريخه. والنظام حائر بين الدخول بقوة، أو الانتظار ريثما تنضج الظروف. هو فخ جديد، ودماء جديدة. تنحسر السياسة أمام الدماء. تصرخ الدولة أن في المدينة مسلحين يجب القضاء عليهم. يقول المسلحون إن الدولة ستنهزم في حمص. يحذر بعض المعارضة من السلاح. تدغدغ بعض المعارضة الأخرى أحلام الحسم العسكري فتحصل لقاءات مع قائد الجيش السوري الحر رياض الأسعد. تنتفض نخوة العرب دفاعا عن المدينة وفي ذهنهم إسقاط النظام أو إسقاط إيران. يرى الغرب في حمص فرصة نادرة لشد الخناق ولإقناع روسيا والصين بتعديل مسار الأمور في مجلس الأمن. «الأطلسي» متردد، لكن بعض دوله تنتظر مجزرة لتتحرك الآلة العسكرية على غرار ما حصل في ليبيا. تبدو حمص حاليا عنوانا لمرحلة قد تعدل مسارات كثيرة وتدفع نحو خيارات عسكرية خطيرة ما دام العقم السياسي مستمرا. الجميع مسؤول عن هذا العقم نظاما ومعارضة وعربا. وبانتظار الحلول التي قد لا تأتي، يقتل الحمصي أخاه الحمصي، ويتقاتل الجيش مع المسلحين والمناهضين، فتغرق سورية أكثر في اتون حرب مذهبية. لا احد يستطيع أن ينهزم في حمص، لا الدولة ولا المسلحون. قد لا يتأخر الأمر نحو حسم عسكري. الجميع مسؤول.

المصدر : السفير /سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة