هناك شيء ما تغير في موقع لبنان في المقاربة الاميركية حيال الشرق الاوسط. هو تحوّل تدريجي فرضته عوامل داخلية في واشنطن وتطورات «الربيع العربي» المتسارعة وتراكم ما يمكن وصفه «بخيبة أمل اميركية من حلفائها وخصومها في لبنان على حد سواء»، وبالتالي تحالف «14 آذار» لم يعد يُنظر اليه في واشنطن «كحليف استراتيجي».

الشعور عند بعض الاوساط الحكومية الاميركية انها تحررت من امتناعها عن انتقاد تجربة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بعد خروجه من الحكم، وقامت في الأشهر الأخيرة بجردة حساب لهذه المواقف التي اتخذها في تلك المرحلة التي طبعها ايضا الدخول الاميركي على خط الازمة، للإيضاح ان اي مبادرة سعودية ـ سورية لا تعني مسار العدالة الدولية التي لن تتوقف. يبدو هذا اليوم كأنه زمن آخر في منطقة يتسارع فيها سقوط المحرّمات.

هناك قضايا أخرى ايضاً على قائمة جردة حساب هي أقرب الى تمرين فكري بدون أي أثر مباشر على السياسة الاميركية حيال لبنان. الطرف الاميركي فاتح سعد الحريري بموضوع التنقيب عن النفط في البحر مرات عدة، وكان جوابه ان هذا الأمر يحتاج الى حوار وطني، فكانت النصيحة الاميركية بإجراء هذا الحوار، لكنه فضل عدم الخوض في هذا الموضوع ربما لتفادي مواجهة داخلية او إقليمية. الامر الثاني، هو برغم تركيز الجانب الاميركي على المساعدات العسكرية الى «القوات الخاصة» في الجيش اللبناني لتوفير قوة توازن مع «حزب الله»، سعت حكومة سعد الحريري لمساعدات تقنية الى قوى الأمن الداخلي أدت في نهاية المطاف الى كشف شبكات تجسس اسرائيلية كانت تراقب تحركات «حزب الله».

قد يكون صحيحاً ان قرار إسقاط حكومة الحريري صدر في دمشق والضاحية الجنوبية، لكن لم يكن هناك رفض اميركي مطلق، ولعل اعتراض الادارة منذ اليوم الاول كان على شكل إسقاط الحكومة وليس على مضمونه. في الجزء الآخير من العام الماضي، بدأت تشعر الادارة الاميركية ان الحريري يتعرض لضغوط سعودية وسورية لمزيد من التنازلات حول المحكمة الخاصة بلبنان، ويجب التدخل سعودياً لوقف هذا المسار الانحداري، ووصلت الادارة الأميركية الى قناعة مفادها انه يستحيل على سعد الحريري في هذه الظروف الجمع بين رئاسة الحكومة والتمسك بالمحكمة الدولية.

في المرحلة الاولى بعد خروجه من السلطة، عتب الحريري على الاميركيين، مستعيداً تجارب سابقة لم يساندوه فيها، لا سيما في 7 أيار 2008. هذا العتب بدأ يظهر في التواصل الدوري بين الجانبين، حيث كان يشكو بعض الدبلوماسيين الاميركيين، الذين يتابعون يومياً الملف اللبناني، انه يصعب احياناً الوصول الى مستشاري الحريري. فريق عمله خلال هذه الفترة كان شبه غائب عن واشنطن، حتى في قمة الحديث عن وقف المساعدات العسكرية الاميركية الى الجيش اللبناني.

وخلال زيارة رئيس «كتلة المستقبل» فؤاد السنيورة الى واشنطن في شهر أيار الماضي، عقد لقاءات بعيدة عن الأضواء مع الإدارة، لا سيما مع مستشار الرئيس باراك اوباما لشؤون مكافحة الارهاب جون برينان، وخلاصة كلامه كان نصيحة ان تحافظ الادارة على برودة أعصابها لأن رئيس الحكومة المكلف حينها نجيب ميقاتي سيعتكف في نهاية المطاف، وبعدها كان الرهان ان تسقط الحكومة من داخلها خلال إقرار خطة الكهرباء، والكلام حالياً ان تمويل المحكمة الخاصة بلبنان لن يمر بدون مشاكل داخلية.

كانت ولا تزال الادارة الاميركية تستمع الى ما يحمله حلفاؤها من أفكار. بعد سقوط حكومة الحريري، وللمرة الأولى منذ فترة طويلة، اكّدت الادارة لـ«14 آذار» أنها مستعدة لأي شيء تطلبه منها ضمن الامكانيات المتاحة، على عكس كل مراحل ما قبل سقوط حكومة الحريري حين كانت تمتنع وتشتكي من مجيء «14 آذار» اليها بدون أهداف واضحة او قدرات على تحقيقها. بنظر البعض في الادارة، عند صدور القرار الاتهامي في تلك الفترة، لم يرتق تحالف «14 آذار» الى مستوى الحدث كما كانت ردة فعله عفوية عام 2005.

حتى سأل الجانب الاميركي اركان «14 آذار» عن افكارهم العملية لإسقاط الحكومة الحالية بدون الاستماع الى اجوبة فيها محاولة جدية لتحقيق هذه الغاية، ما اوصل الادارة الاميركية الى اقتناع انه يصعب إسقاط هذه الحكومة من داخل المؤسسات اللبنانية او خارجها، والأولوية الآن هي للحراك السوري وليس خوض مغامرة جديدة في لبنان، مع الإدراك ان قوى «8 آذار» ليست في افضل حال، وهي مربكة ايضا نتيجة ما يجري في سوريا. طبعا هذا لا يعني تغيير في العلاقة والتنسيق والتواصل بين واشنطن وحلفائها حول قضايا مثل التوغل السوري داخل الحدود اللبنانية، لكن «14 اذار» ليس شريكاً استراتيجياً الآن في المقاربة الاميركية حيال سوريا او المنطقة، وليس هناك مشروع او دور لهذا التحالف على المدى القريب او المتوسط.

الى جانب ثوابت المحكمة الخاصة والاستقرار في جنوب لبنان، ما يهم واشنطن بشكل رئيسي الآن هو طبيعة تفاعل لبنان مع الوضع السوري، ولا حاجة اميركية ملحة لـ«14 آذار» لتحقيق كل هذه القضايا التي تشمل جهود المؤسسة العسكرية على طول «الخط الازرق» وتعاطي القطاع المصرفي اللبناني مع العقوبات على سوريا وتصويت لبنان في مجلس الامن والحد من التوغل السوري على الحدود. وتجتمع الادارة لهذه الاهداف مع المعنيين بهذه الملفات، اي ميقاتي في نيويورك وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في واشنطن، وقريبا قائد الجيش العماد جان قهوجي في العاصمة الاميركية ايضا. وبالتالي يمكن القول إن مرحلة اعتبار «14 أذار» تحالف مضاد قادر على إيجاد توازن مع «حزب الله» انتهت في واشنطن. اكثر ما هو متوقع منها هو التأكد من عدم اختلال توازن سياسة حكومة ميقاتي عبر انتقادها عند الضرورة، بانتظار تغير ما في دينامية لبنان او المنطقة. اما في الصورة الاشمل، وبكل بساطة، فلبنان ليس على الرادار الاميركي هذه الايام.

  • فريق ماسة
  • 2011-10-05
  • 11189
  • من الأرشيف

في واشنطن... «14 آذار» لم تعـد «حليفاً استراتيجياً»

هناك شيء ما تغير في موقع لبنان في المقاربة الاميركية حيال الشرق الاوسط. هو تحوّل تدريجي فرضته عوامل داخلية في واشنطن وتطورات «الربيع العربي» المتسارعة وتراكم ما يمكن وصفه «بخيبة أمل اميركية من حلفائها وخصومها في لبنان على حد سواء»، وبالتالي تحالف «14 آذار» لم يعد يُنظر اليه في واشنطن «كحليف استراتيجي». الشعور عند بعض الاوساط الحكومية الاميركية انها تحررت من امتناعها عن انتقاد تجربة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بعد خروجه من الحكم، وقامت في الأشهر الأخيرة بجردة حساب لهذه المواقف التي اتخذها في تلك المرحلة التي طبعها ايضا الدخول الاميركي على خط الازمة، للإيضاح ان اي مبادرة سعودية ـ سورية لا تعني مسار العدالة الدولية التي لن تتوقف. يبدو هذا اليوم كأنه زمن آخر في منطقة يتسارع فيها سقوط المحرّمات. هناك قضايا أخرى ايضاً على قائمة جردة حساب هي أقرب الى تمرين فكري بدون أي أثر مباشر على السياسة الاميركية حيال لبنان. الطرف الاميركي فاتح سعد الحريري بموضوع التنقيب عن النفط في البحر مرات عدة، وكان جوابه ان هذا الأمر يحتاج الى حوار وطني، فكانت النصيحة الاميركية بإجراء هذا الحوار، لكنه فضل عدم الخوض في هذا الموضوع ربما لتفادي مواجهة داخلية او إقليمية. الامر الثاني، هو برغم تركيز الجانب الاميركي على المساعدات العسكرية الى «القوات الخاصة» في الجيش اللبناني لتوفير قوة توازن مع «حزب الله»، سعت حكومة سعد الحريري لمساعدات تقنية الى قوى الأمن الداخلي أدت في نهاية المطاف الى كشف شبكات تجسس اسرائيلية كانت تراقب تحركات «حزب الله». قد يكون صحيحاً ان قرار إسقاط حكومة الحريري صدر في دمشق والضاحية الجنوبية، لكن لم يكن هناك رفض اميركي مطلق، ولعل اعتراض الادارة منذ اليوم الاول كان على شكل إسقاط الحكومة وليس على مضمونه. في الجزء الآخير من العام الماضي، بدأت تشعر الادارة الاميركية ان الحريري يتعرض لضغوط سعودية وسورية لمزيد من التنازلات حول المحكمة الخاصة بلبنان، ويجب التدخل سعودياً لوقف هذا المسار الانحداري، ووصلت الادارة الأميركية الى قناعة مفادها انه يستحيل على سعد الحريري في هذه الظروف الجمع بين رئاسة الحكومة والتمسك بالمحكمة الدولية. في المرحلة الاولى بعد خروجه من السلطة، عتب الحريري على الاميركيين، مستعيداً تجارب سابقة لم يساندوه فيها، لا سيما في 7 أيار 2008. هذا العتب بدأ يظهر في التواصل الدوري بين الجانبين، حيث كان يشكو بعض الدبلوماسيين الاميركيين، الذين يتابعون يومياً الملف اللبناني، انه يصعب احياناً الوصول الى مستشاري الحريري. فريق عمله خلال هذه الفترة كان شبه غائب عن واشنطن، حتى في قمة الحديث عن وقف المساعدات العسكرية الاميركية الى الجيش اللبناني. وخلال زيارة رئيس «كتلة المستقبل» فؤاد السنيورة الى واشنطن في شهر أيار الماضي، عقد لقاءات بعيدة عن الأضواء مع الإدارة، لا سيما مع مستشار الرئيس باراك اوباما لشؤون مكافحة الارهاب جون برينان، وخلاصة كلامه كان نصيحة ان تحافظ الادارة على برودة أعصابها لأن رئيس الحكومة المكلف حينها نجيب ميقاتي سيعتكف في نهاية المطاف، وبعدها كان الرهان ان تسقط الحكومة من داخلها خلال إقرار خطة الكهرباء، والكلام حالياً ان تمويل المحكمة الخاصة بلبنان لن يمر بدون مشاكل داخلية. كانت ولا تزال الادارة الاميركية تستمع الى ما يحمله حلفاؤها من أفكار. بعد سقوط حكومة الحريري، وللمرة الأولى منذ فترة طويلة، اكّدت الادارة لـ«14 آذار» أنها مستعدة لأي شيء تطلبه منها ضمن الامكانيات المتاحة، على عكس كل مراحل ما قبل سقوط حكومة الحريري حين كانت تمتنع وتشتكي من مجيء «14 آذار» اليها بدون أهداف واضحة او قدرات على تحقيقها. بنظر البعض في الادارة، عند صدور القرار الاتهامي في تلك الفترة، لم يرتق تحالف «14 آذار» الى مستوى الحدث كما كانت ردة فعله عفوية عام 2005. حتى سأل الجانب الاميركي اركان «14 آذار» عن افكارهم العملية لإسقاط الحكومة الحالية بدون الاستماع الى اجوبة فيها محاولة جدية لتحقيق هذه الغاية، ما اوصل الادارة الاميركية الى اقتناع انه يصعب إسقاط هذه الحكومة من داخل المؤسسات اللبنانية او خارجها، والأولوية الآن هي للحراك السوري وليس خوض مغامرة جديدة في لبنان، مع الإدراك ان قوى «8 آذار» ليست في افضل حال، وهي مربكة ايضا نتيجة ما يجري في سوريا. طبعا هذا لا يعني تغيير في العلاقة والتنسيق والتواصل بين واشنطن وحلفائها حول قضايا مثل التوغل السوري داخل الحدود اللبنانية، لكن «14 اذار» ليس شريكاً استراتيجياً الآن في المقاربة الاميركية حيال سوريا او المنطقة، وليس هناك مشروع او دور لهذا التحالف على المدى القريب او المتوسط. الى جانب ثوابت المحكمة الخاصة والاستقرار في جنوب لبنان، ما يهم واشنطن بشكل رئيسي الآن هو طبيعة تفاعل لبنان مع الوضع السوري، ولا حاجة اميركية ملحة لـ«14 آذار» لتحقيق كل هذه القضايا التي تشمل جهود المؤسسة العسكرية على طول «الخط الازرق» وتعاطي القطاع المصرفي اللبناني مع العقوبات على سوريا وتصويت لبنان في مجلس الامن والحد من التوغل السوري على الحدود. وتجتمع الادارة لهذه الاهداف مع المعنيين بهذه الملفات، اي ميقاتي في نيويورك وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في واشنطن، وقريبا قائد الجيش العماد جان قهوجي في العاصمة الاميركية ايضا. وبالتالي يمكن القول إن مرحلة اعتبار «14 أذار» تحالف مضاد قادر على إيجاد توازن مع «حزب الله» انتهت في واشنطن. اكثر ما هو متوقع منها هو التأكد من عدم اختلال توازن سياسة حكومة ميقاتي عبر انتقادها عند الضرورة، بانتظار تغير ما في دينامية لبنان او المنطقة. اما في الصورة الاشمل، وبكل بساطة، فلبنان ليس على الرادار الاميركي هذه الايام.

المصدر : جو معكرون -


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة