دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
لعل أكثر المتفائلين في قوى 8 آذار لم يكن يتوقع ان يصل البطريرك الماروني بشارة الراعي في موقفه من أحداث سورية وسلاح المقاومة الى حدود «الجرأة» التي بلغها في فرنسا، ولعل المكان الذي أطلق منه «إنتفاضته» جعل كلامه يكتسب قيمة مضاعفة، إذ ليس أمراً عادياً ان يجاهر الراعي من باريس تحديداً، بخطورة التداعيات التي ستطال المنطقة والمسيحيين في حال سقوط النظام السوري وان يبدي تفهماً للربط بين بقاء سلاح المقاومة وبين استمرار الاحتلال الاسرائيلي لجزء من الاراضي اللبنانية وعدم تنفيذ القرار الدولي المتعلق بعودة اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان الى أرضهم.
وفي حين كانت قوى 14 آذار تنتظر بفارغ الصبر عودة الراعي الى بيروت، لعله يعيد تصويب ما قاله، فيعفيها من إحراج الاشتباك السياسي معه وكلفته المرتفعة عليها، بدا البطريرك مصمما على استكمال ما بدأه في العاصمة الفرنسية، من دون ان يتأثر بالحرب النفسية التي تشن عليه، لتكتشف المعارضة سريعا ان ما سمعته من الراعي في باريس لم يكن مجرد منام مزعج او سوء فهم كما كانت تمنّي النفس، بل هو يعبر عن تطور استراتيجي في توجهات بكركي، من شأنه ان يترك تأثيرات على المعادلات الداخلية والمشرقية، وموقع المسيحيين فيها.
وإذا كانت أطراف الأكثرية الحاكمة قد تلقفت بإيجابية مواقف الراعي، فان الرئيس نبيه بري يعتبر ان ردود شخصيات 14 آذار الإنفعالية على البطريرك الماروني «تثبت مرة أخرى أن هؤلاء يعبدون آلهة من تمر، لا يترددون في أكلها عندما يجوعون»، مستهجناً ان يفقد البعض أعصابه ويتجاوز الأصول في مخاطبة البطريرك، لمجرد أنه أعطى رأياً مخالفاً.
وتفيد المعلومات ان ما قاله الراعي ليس وليد نزوة سياسية عابرة، ولم يأت من فراغ، والأرجح انه وضع الحجر الأساس لمرحلة جديدة في سلوك الكنيسة المارونية التي قررت ان تسلك الدروب المؤدية الى حماية مصالح المسيحيين ووجودهم في لبنان وسوريا وباقي المشرق، انطلاقاً من قراءة عميقة لواقعهم واستشراف للآتي، بعيداً عن المقاربات السطحية.
وما يفسر ثبات الراعي على طروحاته، انه يسند ظهره الى دوائر مؤثرة في الفاتيكان كان لها دورها الحاسم في انتخابه أولا وفي التأثير على مقارباته لما يجري في العالم العربي، وعدم الانسياق وراء الموج العالي الذي قد يجرف المسيحيين المشرقيين الى المجهول، في ضوء ما شهده المسيحيون في فلسطين والعراق ولبنان وما يواجهه مسيحيو مصر وسوريا اليوم.
وحسب المعطيات المتوافرة، تتابع دوائر فاتيكانية باهتمام التطورات في العالم العربي، إنطلاقا من حرصها على مستقبل المسيحيين في المنطقة، وهي تملك من المؤشرات ما يكفي للقلق عليهم، علما ان الفاتيكان- وخلافا لما يعتقده البعض- قد يكون مركز المعلومات الأهم في العالم، بالنظر الى شبكة علاقاته العميقة التي تمتد في اتجاهات مختلفة، ويذهب أحد المطلعين الى القول بان هذه «الدولة الرمزية» قادرة على التقاط الذبذبات السياسية قبل أي رادار دبلوماسي او مخابراتي في العالم.
وعليه، فان الراعي ومن خلفه الفاتيكان يستشعران وجود خطر حقيقي يحدق بمصير المسيحيين في الشرق الأوسط، ما تطلب موقفاً وقائياً وشجاعاً، وبالتالي لا يصح «تقزيم» كلام البطريرك وإدراجه في إطار الاصطفاف المحلي الى جانب ميشال عون ضد سمير جعجع او الى جانب 8 آذار ضد 14 آذار، لأن مثل هذا التصنيف أضيق بكثير من المدى الذي يمكن ان تصل اليه رسالة الراعي، بأبعادها الاستراتيجية في المنطقة.
ومع «انتفاضة» الراعي على منطق 14 آذار، تكون مصيبة المعارضة الجديدة قد اكتملت. الضربة الاولى تلقاها هذا الفريق عند إخراج سعد الحريري وحلفائه من السلطة في ليلة «ما فيها ضو قمر»، ثم جاءت الضربة التالية مع خروج الرئيس نجيب ميقاتي عن «الطاعة الحريرية» وقبوله بتشكيل الحكومة على الرغم من حملات التخوين والترهيب التي شنها «تيار المستقبل» عليه سعيا الى دفعه نحو الاعتذار.
وقبل ان ينفض فريق 14 آذار عنه آثار الزلزال السياسي الذي أصاب وضعيته الداخلية، عاجلته هزات ارتدادية تمثلت في انتقال موقع مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني من ضفة التعاطف العلني مع «المستقبل» وحلفائه الى ضفة الوسطية الداعمة للرئيس ميقاتي، الامر الذي أغضب الحريري وقيادات تياره بعدما شعر هؤلاء بأن غطاء المرجعية الدينية السنية قد رفع عنهم، ليظلل خصمهم اللدود، في وقت كانوا هم بأمس الحاجة اليه.
لم تتوقف خسائر 14 آذار عند هذا الحد، إذ وفي موازاة الازمة الناشبة بين « تيار المستقبل» ودار الفتوى، توترت علاقة هذا التيار مع المؤسسة العسكرية التي تعرضت لانتقادات قاسية من النائب خالد الضاهر وزملائه، طالت العماد جان قهوجي وبلغت حد التهديد بالتعرض لوحدة الجيش اللبناني الذي يكاد يشكل خط الدفاع الاخير عن السلم الأهلي، وسط الاهتراء اللاحق بالمؤسسات الأخرى.
واستمر غرق الأقلية الجديدة في الرمال المتحركة مع توسيع رقعة المواجهة وفتح جبهة جديدة على محور عين التينة، حيث طال القصف السياسي مؤخراً رئيس مجلس النواب الذي ظل يمثل في عز الأزمات خيط التواصل - ولو الرفيع - بين الخصوم، قبل ان يقطعه «مقص» وثائق «ويكيليكس»، علماً ان علاقة قوى 14 آذار برئيس الجمهورية ميشال سليمان ليست بدورها على ما يرام منذ إقصاء الحريري عن الحكم، لإحساسها بأنه إبتعد عن الخط التوافقي والحيادي، وانحاز الى فريق 8 آذار، وهي لم تتردد في رفض دعوته الى معاودة الحوار الوطني.
ثم جاء الهجوم العنيف على البطريرك الراعي ليتوّج عزلة قوى 14 آذار التي اكتمل «يتمها» السياسي هذه الأيام، وتكاد تصبح مقطوعة من شجرة في الداخل، تحت وطأة أزمتها المترامية الأطراف مع كل من المراجع الرسمية ممثلة برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، والمرجعيات الدينية الاساسية ممثلة بالكنيسة المارونية ودار الفتوى والمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، والمؤسسة العسكرية برمزيتها الوطنية، ناهيك عن الخلاف القائم مع الحليف السابق وليد جنبلاط.
لعل فريق 14 آذار أصبح يحتاج الى خلوة عاجلة، ليراجع حساباته ويرتب أوراقه قبل ان تحترق كلها..
المصدر :
السفير /عماد مرمل
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة