دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ما إن ظهر مصطلح «اللاجئون الشُّقر» مع
اندلاع الحرب الأوكرانية، حتى بدأت التوقّعات بسلوك الأزمة السورية مساراً تراجعياً
لناحية الاهتمام الغربي بها، مع ما يستجلبه ذلك من انعكاسات على مستويَي قبول المزيد
من اللاجئين السوريين، وقيمة الدعم الإغاثي المُوجَّه لدعم مخيمات اللجوء المنتشرة
في سوريا ودول الجوار. والظاهر أن هذه التوقّعات قد بدأت بالتحقّق فعلاً، مع ما خلص
إليه مؤتمر المانحين في مدينة بروكسل أخيراً من نتائج
كما جرت العادة، ما إن تندلع حرب جديدة
في مكان ما من العالم، يكون للغرب غالباً دور في إشعالها وتأجيجها، حتى يتراجع الاهتمام
بالحروب القائمة والمستمرّة منذ سنوات لصالح الناشئة، خاصّة في ما يتعلّق بالمساعدات
الإنسانية والإغاثية. والأمثلة على ذلك كثيرة خلال العقدين السابقين، من حرب أفغانستان
إلى غزو العراق، فالحرب على لبنان وفلسطين، وغيرها. ولذلك، فقد كان من الطبيعي أن تسرق
الأزمة الأوكرانية الأضواء من الأزمات الدولية الأخرى القائمة لأسباب مختلفة. وقطعت
الحرب في أوكرانيا شوطاً كبيراً في نيْل اهتمام الغربيين، لسبَبين: الأوّل أنها على
حدود الغرب جغرافياً، وفي قلبه معنوياً وسياسياً واقتصادياً وإنسانياً؛ والثاني هو
دعم دمشق للعملية الروسية، والذي يدفع الغرب إلى التشدّد حيالها. وفي هذا الإطار، يؤكد
أحد الباحثين السوريين، والذي شارك في مؤتمر بروكسل كباحث مستقلّ، في حديث إلى «الأخبار»،
أن «مشكلة روسيا وأوكرانيا انعكست سلباً على أيّ انفراج محتمل بالملف السوري». ويضيف
أن هناك عدّة نقاط أساسية يمكن استخلاصها من المؤتمر، أبرزها «عودة التشدّد الأوروبي
- الأميركي حيال الحكومة السورية؛ وانخفاض الدعم المقدّم للسوريين نتيجة الأزمة الاقتصادية
في أوروبا؛ واستمرار استثمار ورقة اللاجئين من قِبَل جميع الأطراف، وكذلك استمرار الدعم
الأميركي للقوى الكردية في الشمال والشرق السوريَّيْن».
تراجع فعلي
يمكن القول إن مؤتمر بروكسل شكّل اختباراً
عملياً لمسار الدعم الإغاثي الدولي المقدّم سنوياً للسوريين المتضرّرين. ففي الوقت
الذي كانت فيه التصريحات الغربية تؤكد استمرار حضور الأزمة ضمن أجندة أولوياتها، كانت
التبرّعات والتعهّدات المالية للدول المشاركة تُظهر تراجعاً واضحاً، سواءً بالنسبة
إلى المبالغ المالية المطلوبة لمساعدة أكثر من 15 مليون سوري يواجهون - بحسب المنظمات
الأممية - أوضاعاً اقتصادية صعبة، أو بالنسبة إلى الارتفاعات الكبيرة التي شهدتها أسعار
الغذاء والدواء وغيرهما من الاحتياجات الرئيسة خلال الأشهر الماضية. وبحسب ما يذكر
رئيس «حركة البناء الوطني في سوريا»، أنس جودة، في حديث مع «الأخبار»، فقد «كان واضحاً
انخفاض قيمة الدعم السنوي لسوريا، والذي بلغ 6.4 مليارات يورو، منها حوالي 4 مليارات
يورو لعام 2022، وحوالي مليارَين لعام 2023 وما بعده، يضاف إليها حوالي 1.7 مليار يورو
(قروض ميسّرة) لعام 2022 وما بعده، وذلك بانخفاض قدره حوالي مليار يورو عن العام السابق
(...) ولولا تدخّل المفوضية الأوروبية لرفع مساهمتها من نصف مليار إلى مليار ونصف مليار،
لكان الانخفاض أكبر من ذلك».
وإذا ما جرت مقاربة الوضع لجهة ارتفاع معدّل
التضخم خلال الفترة الفاصلة بين النسخة الخامسة من المؤتمر في العام الماضي والنسخة
الحالية، فإن الانخفاض يصبح أكثر حدّة، إذ وفقاً لتقديرات منظمة «الفاو»، فإن أسعار
السلع الغذائية مثلاً زادت عالمياً خلال الشهر الأول من عمر الأزمة الأوكرانية بنسبة
تتجاوز 20%، وهو ما يعني أن «الدعم الإغاثي سيكون متأثّراً بتراجع حجم التبرّعات الدولية
الفعلية من جهة، وأيضاً بتراجع القيمة الشرائية للمبلغ نفسه في ظلّ موجة الغلاء وتراجع
إنتاج الغذاء على المستوى العالمي من جهة ثانية»، بحسب باحث تنموي يعمل مع إحدى المنظمات
الأممية، فضّل عدم ذكر اسمه. ويبيّن الباحث، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الأمر لا يتعلّق
فقط بما يُعلَن من تبرعات، وإنّما بما يُقدم فعلياً، فمثلاً بيانات مكتب الأمم المتحدة
لتنسيق المساعدات الإنسانية تُظهر أن ما تمّ توفيره من تبرّعات خلال عام 2021 لا تتجاوز
نسبته 50.1% من إجمالي خطّة الاحتياجات المقرّرة لدعم السوريين، والبالغة 4.2 مليارات
دولار، وفي العام الحالي لم تتجاوز تلك النسبة حتى الآن أكثر من 9.1%».
سيكون لتراجع الدعم الإغاثي أثره السلبي على شريحة واسعة من السوريين
جانب آخر للتأثّر يشير إليه جودة، يتمثّل
بحسب قوله في «الفجوة الهائلة بين ما تمّ تقديمه منذ بداية الحرب، والمقدّر وفقاً للأمم
المتحدة بـ33 مليار دولار، وبين الأثر المتحقّق على الأرض؛ فعملياً زادت شريحة المحتاجين
إلى الدعم الإغاثي، ولم يتمّ القيام بمشاريع تنموية مستدامة بسبب شروط التمويل التي
تفرض البقاء ضمن حيّز الدعم الإنساني». ويضيف: «هذا يعني أن التوجّه الجديد الذي أعلن
عنه نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، في زيارته الأخيرة
لسوريا، والمتمثّل في تركيز برامج الدعم على مرحلة التعافي، لن يُكتب له النجاح ضمن
هذه الظروف، إلّا إذا وُضعت رؤى واضحة تستطيع الاستفادة من التمويل القليل للدعم الإغاثي
والارتقاء به إلى وضع أُسس مرحلة التعافي التنموية، وهذا يحتاج إلى جهود كبيرة وتكاملية
بين المنظّمات الدولية والهيئات الحكومية والمجتمع المدني، وعدم ترك المنظمات الدولية
تضع لوحدها خططها وبرامجها، واقتصار المتابعة الحكومية على الموافقات، وبقاء المجتمع
المدني المحلّي في دور المنفذ لتوجّهات قد تكون في أحيان كثيرة غير مناسبة للواقع».
ماذا يعني ذلك؟
على الأرض، سيكون لتراجع الدعم الإغاثي
أثره السلبي على شريحة واسعة من السوريين، خصوصاً أن هذا الدعم يمثّل إمّا المصدر الأول
لبعضهم في مسعاهم لتأمين مستلزمات البقاء على قيد الحياة، وإمّا سنداً أساسياً لآخرين
في مواجهة ارتفاع أسعار الاحتياجات الأساسية. وهذه الأهمية تُظهرها معظم المسوح الإحصائية
التي جرت خلال السنوات الماضية؛ ففي تقرير مسح الأمن الغذائي، المعدّ من قِبَل الحكومة
السورية بالتعاون مع منظمة أممية في نهاية عام 2020، ثمّة اعتراف واضح بأهمية المساعدات
الغذائية في ظلّ تأثيرات الحرب، كونها «تشكّل مورداً أساسياً للاستجابة لحالات إخفاق
السوق والتغيّرات الكبيرة والمفاجئة في الكمّيات المتوفرة من الغذاء، حيث تقدَّم هذه
المساعدة أساساً لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية، ويؤدّي توزيعها على المناطق
المتأثّرة بالقلاقل دوراً هاماً في إبقاء أسعار المواد الغذائية منخفضة». وتشير نتائج
المسح، أيضاً، إلى أن «أقلّ من نصف الأسر حصلت على دعم أو خدمات تقدّمها منظّمات أو
جهات تابعة لمنظّمات الأمم المتحدة أو منظّمات غير حكومية دولية. وتجاوزت هذه النسب
أكثر من 90% من أسر محافظات الرقة، القنيطرة، دير الزور ودرعا».
أمّا في مخيمات اللجوء المنتشرة في دول
الجوار، فتبدو الحاجة أكبر؛ إذ تشير نتائج مسح أجراه «المركز السوري لبحوث السياسات»
في مخيمات برالياس في لبنان، أن «الأسر تعتمد بشكل رئيس على مساعدات الأمم المتحدة.
لكن تتفاوت نسب الأسر التي تستفيد من المساعدات الغذائية الأممية بين المخيمات، ففي
بعضها لا تتعدّى النسبة 50%، فيما في بعضها الآخر تتجاوز 90%. وتساهم كذلك جمعيات غير
ربحية في تقديم المساعدات الغذائية، لكن إجمالي المساعدات لا يكفي، فتعتمد العائلات
على دخلها من العمل لسدّ الفجوة. أمّا الأسر التي لا تتلقّى مساعدات فيكون وضعها أكثر
صعوبة، وتعتمد على العمل والاستدانة لتوفير احتياجاتها من الغذاء. وتعمل العديد من
العائلات على التكيّف مع حالات نقص الدخل والمساعدات من خلال تقليص عدد الوجبات أو
شراء نوعية أغذية أقل جودة». والمركز نفسه، كان قد حذّر في تقرير له في عام 2019، من
التبعات الاقتصادية الكارثية إذا حدث تراجع كبير في الدعم الإنساني، وذلك نتيجة الاتّكال
المفرط والخطر للاقتصاد السوري على المساعدات الإنسانية، والتي شكّلت في عام 2018 ما
نسبته 30% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، ثمّ انخفضت إلى حوالي 22% في عام
2019.
المصدر :
الأخبار/ زياد غصن
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة