#
  • فريق ماسة
  • 2022-04-24
  • 10576

الحرب الروسية الأوكرانية.. من الهجوم إلى الإحتواء والتكيف (1)

منذ شهرين، وتحديداً في الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، لتبدأ معها أيضاً مرحلة سياسية وإقتصادية فاصلة ستفضي، تبعاً لنهاياتها، إلى رسم معالم نظام دولي.. جديد. تتجه الوقائع والمعطيات الميدانية، المتعلقة بمجريات الحرب الروسية الأوكرانية وتطوراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، للتأكيد بصورةٍ واضحة وجلية، على أن حجم الاشتباك الدولي، حول مغزى هذه الحرب ودوافعها، يزداد تعقيداً، وتتسارع مفاعيله بصورة مقلقة ومخيفة، تدفع بمختلف القوى الإقليمية والدولية، للعمل بقوة لأجل تطويق مفاعيلها، ومحاولة احتواء نتائجها، وتأطيرها في سياقات معينة، تساعد في التحكم بها، والسيطرة عليها، وإبقائها محصورة ضمن نطاق جيوسياسي محدد. مع الأخذ بالحسبان، أن حالة الغموض، وضبابية المشهد واللاتعيُّن، التي تهيمن على مجرى العلاقات الدولية الراهنة، والأزمات الاقتصادية المركبة، الضاغطة بقوة على صناع القرار وراسمي السياسات الاقتصادية، خلقت حالة من الارتباك والغموض، غير المسبوق في عملية تحديد المواقف بصورة نهائية، ما جعل جميع التوازنات والتحالفات الراهنة من طبيعة رمادية، قلقة وهشة وقابلة للانهيار في أي لحظة. في ضوء ما تقدم تتجه هذه الورقة، نحو إجراء تقييم بانورامي سريع ومكثف، ينطلق من عملية رصد دقيقة وشاملة، للتطورات الناجمة عن هذه الحرب، ومحاولة استشراف السيناريوهات والنتائج، التي يمكن أن تنتهي إليها، بعد مُضي ما يقارب الشهرين على اندلاعها. إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن عملية الاستشراف، وإمكانية بناء السيناريوهات المحتملة، هي عملية معقدة، تنطوي على تحديات كبيرة، وتحتاج لمزيدٍ من الوقت بوصفه المتغير الأبرز في عملية بناء السيناريوهات المتعلقة باتجاهات تطورها. لطالما أنها (أي هذه الحرب) تعدُّ بكل المقاييس والمعايير حرباً من طبيعة خاصة، (أي غير تقليدية)، سواء كان لجهة ما يتعلق بالوسائل والأدوات المُستخدمة فيها، أم لجهة ما يتعلق بأهداف وغايات القوى التي أسهمت في التخطيط لها، والتي تراهن عليها بقوة، لأن تكون حرب تشكيلية، ذات مغزى ومضمون هيكلي/بنيوي، ستُفضي إلى إعادة تعريف القوة، وآليات توزيعها في هيكل العلاقات الدولية الراهنة. الروس سيتجهون نحو الإبقاء على حالة لا سلم ولا حرب والتذكير بأن الحرب مستمرة، وذلك عن طريق استمرار استهداف الهجمات الصاروخية وسلاح الطيران، لمراكز إستراتيجية محددة، وأهداف نوعية قد تنشأ من وقت لآخر من الهجوم إلى الاحتواء والتكيف تطورات كبيرة ونوعية تشهدها ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، مع نهاية شهرها الثاني. فقد شهد مسرح العمليات العسكرية تطورات مهمة وتفسيرية، قوامها تصلب أوكراني واضح في المواجهة، وثبات في الموقف، يقابله تغير ملموس في طبيعة الموقف، والمقاربة الروسية للعملية العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية. وهذا التغير كما يبدو في تقديرات الموقف الروسي، والمقاربة الجديدة في إدارة الحرب، يعود في الواقع لمجموعة متعددة من الأسباب، يمكن الإشارة إلى أهمها عن طريق الآتي: الضغوط السياسية والاقتصادية الدولية الكبيرة، التي تتعرض لها موسكو، سواء كان عن طريق العقوبات الغربية الاقتصادية المباشرة، أم عن طريق القنوات الدبلوماسية والسياسية السرية والعلنية. إدراك الروس في لحظة ما، لمخاطر الانزلاق الكبير، والانجراف الحاد، والغوص أكثر في المستنقع الأوكراني، الذي نقدِّر بأن الولايات المتحدة الأمريكية، نجحت إلى حدٍّ كبير في استجرار ودفعِ الجميع إليه (روسيا وأوروبا). التشدد في تطوير أنظمة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على روسيا. وهي بالمجمل عقوبات، أثرت وستؤثر إلى حد كبير على روسيا، جراء تشابك الاقتصاد الروسي، وتكامله مع الاقتصاد الأوروبي، سواء كان عن طريق شركات النفط والغاز وحوامل الطاقة، أم عن طريق الحضور الكبير للشركات والفعاليات الاقتصادية الروسية، ورجال المال والأعمال الروس، داخل بلدان أوروبا الغربية، لا سيما في بريطانيا وألمانيا وفرنسا. وفي هذا الإطار تشير البيانات والإحصاءات، إلى أن حجم الأصول الروسية المجمدة في أوروبا الغربية، بلغ مئات المليارات من الدولارات. وقد أشار لذلك بلغة اللوم والأسف، وزير خارجية روسيا (سيرغي لافروف) قائلاً “لقد أثرت العقوبات الاقتصادية بقوة على الاقتصاد الروسي، وعلى الشركات الروسية في الداخل والخارج”، كما أشار لذلك الرئيس (فلاديمير بوتين) نفسه. الضغوط السرية الناعمة التي يُمارسها حلفاء موسكو (الصين، الهند..) على موسكو، والتي لا تخلو من الرغبة في عرض وجهات نظر بديلة، ومقاربات مختلفة، بعيدة عن أو قريبة من وجهة نظر موسكو، وربما وجود بعض الابتزاز السري، حول ثمن المواقف السياسية والدبلوماسية ومتطلباتها اللوجستية (على سبيل المثال تسليم روسيا صواريخ (S400) إلى الهند. استمرار الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو، بالتصعيد السياسي والاقتصادي وتقديم الدعم الفني والتقني واللوجستي، وكافة متطلبات وأشكال الدعم والمساندة، اللازمة للجانب الأوكراني، من دواء وغذاء وحوامل الطاقة (الغاز والبنزين والمازوت) حتى أوشكت أن تُصبح الحياة شبه طبيعية، في العاصمة الأوكرانية (كييف)، ما أدى إلى تشكل تيار هجرة معاكس للنازحين والمهجرين إلى العاصمة كييف ومدن أخرى من داخل أوكرانيا ومن خارجها. الدفاع الشرس للقوات الأوكرانية، المدعوم تقنياً ولوجستياً وعسكرياً واستخباراتياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الإتحاد الأوروبي مجتمعة (من داخل الناتو ومن خارجه). الخسائر غير القليلة التي مُني بها الجانب الروسي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. على خلفية ما تقدم، اتجهت القيادة الروسية، نحو إجراء تقييم للملف الأوكراني، في ضوء الوقائع والمعطيات التي أفرزتها الحرب، على كافة الصعد والمستويات داخلياً وخارجياً، انتهى إلى صياغة مقاربةٍ مختلفةٍ للملف، استندت إلى أسس ومؤشرات مختلفة، يندرج في مقدمتها، أن أمد المعركة في أوكرانيا سيطول، وأن الملف الأوكراني سيتفاعل بصورة مركبة، ليصبح أكثر تعقيداً من الناحية الاقتصادية والسياسية والعسكرية داخلياً وخارجياً. وعليه انطلقت الإستراتيجية الروسية الجديدة من مجموعة من المرتكزات الجديدة التي يمكن أن نعرضها عن طريق الآتي: إعادة نشر القوات الروسية، بصورة تجنبها الكثير من الخسائر، وتخفف من الاحتكاك مع القوات الأوكرانية، والاعتماد أكثر على أدوات الحرب من بعد، وذلك بواسطة الهجمات الصاروخية وسلاح الطيران، والضربات الانتقائية والنوعية من وقت لآخر (بمعنى أن الروس سيتجهون نحو الإبقاء على حالة لا سلم ولا حرب والتذكير بأن الحرب مستمرة، وذلك عن طريق استمرار استهداف الهجمات الصاروخية وسلاح الطيران، لمراكز إستراتيجية محددة، وأهداف نوعية قد تنشأ من وقت لآخر) كاستهداف العتاد وقوافل الإمداد ومراكزها، ومراكز تجميع مرتزقة، مجمعات تصنيع ضخمة، مراكز التجسس ونظم مراقبة والإنذار ومختبرات بحث، ومراكز الدعم اللوجستي والتدريب وغير ذلك. سن الكثير من التشريعات والقوانين الاقتصادية، ومراجعة الكثير من الإجراءات التي اتخذتها السلطات النقدية الروسية، لمواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة من ضفتي الأطلسي، وللحفاظ على القوة الشرائية للروبل الروسي. وذلك عن طريق توجيه عقوبات روسية مضادة للغرب، وقيام البنك المركزي الروسي بمجموعة من الإجراءات النقدية، والرد بإجراءات عقابية ضد شخصيات وكيانات اقتصادية، أمريكية وأوروبية (بصرف النظر عن مفاعيل هذه العقوبات المضادة ونتائجها، التي قد لا تذكر أو قد تكون محدودة التأثير في أبعد الحالات)، والسماح للبنوك الروسية ببيع العملات الأجنبية، والقطع الأجنبي القابل للتحويل، ومحاولة الالتفاف على العقوبات الغربية، عن طريق الأسواق السوداء، ومافيا التجارة الدولية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إعلان القيادة الروسية عن توجهها نحو استخدام الروبل، لبيع وتسعير النفط والغاز الروسي وصادرات روسية أخرى منها القمح بالروبل، وذلك لتحييد الدولار كأداة من أدوات الحرب الاقتصادية الأمريكية على روسيا، لاستنزاف احتياطاتها من القطع الأجنبي (الدولار)، وبالتالي دفع معدل التضخم، والمستوى العام للأسعار للارتفاع، ما سيتسبب بحرج مالي وسياسي واقتصادي كبير للرئيس بوتين في الداخل. وقد تمكنت روسيا عن طريق الإجراءات والسياسات الاقتصادية، من إيقاف مسار الانهيار الدراماتيكي للروبل تجاه الدولار، واستعادت الكثير من المكاسب، التي كان قد خسرها الروبل تجاه الدولار، والتي قاربت حدود (55-60%). وفي ضوء الاحتياجات الماسة لمتطلبات تعزيز الثقة بالوضع الاقتصادي الروسي (النقدي والمالي) اتجهت السلطة النقدية الروسية (البنك المركزي الروسي) أيضاً، نحو تخفيض سعر الفائدة من (20%) إلى (17%)، وهي إجراءات تستهدف تحفيز الاقتصاد الروسي، وتعزيز الثقة بقدرة الاقتصاد على احتواء مفاعيل العقوبات، وتجاوز آثارها وتداعياتها السلبية. التوجه الروسي نحو تركيز العمليات العسكرية للقوات الروسية في الأقاليم الشرقية لأوكرانيا، والعمل المكثف وبمختلف أنواع الأسلحة، لتحقيق مكاسب وانتصارات ميدانية ملحوظة وظاهرة في هذه الأقاليم. الرد والتصعيد بقوة على المستوى السياسي والدبلوماسي على التصعيد الأوروبي والأمريكي. وهذا يظهر بوضوح من خلال الإجراءات المتعلقة بطرد الدبلوماسيين الأوروبيين. الروس في لحظةٍ ما كانوا يراهنون على إمكانية حصول انهيار دراماتيكي في صفوف القوات الأوكرانية، خاصة إذا ما قامت روسيا برفع سقف التهديد، لدرجة استخدام السلاح النووي مقايضة الملفات إقرأ على موقع 180  روسيا: السياسة في إجازة.. نافالني "أسطورة من كوكب آخر"! إن حدود العملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا، والنتائج التي انتهت إليها حتى اللحظة الراهنة، توحي وتساعد بقوة على الاستنتاج، بأن الروس في لحظةٍ ما كانوا يراهنون على إمكانية حصول انهيار دراماتيكي في صفوف القوات الأوكرانية، خاصة إذا ما قامت روسيا برفع سقف التهديد، لدرجة استخدام السلاح النووي، وهو ما لوّح به بوتين منذ اليوم الأول للحرب، (وهو ما تجاهلته الولايات المتحدة الأمريكية، ودفعت القيادة الأوكرانية لتجاهله، وعدم التعاطي معه بصورة جدية)، أو إمكانية حصول انقلاب عسكري داخل أوكرانيا، أو خروج مؤيدين لموسكو، ما قد يساعد في عملية الإطاحة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، أو إمكانية تراجع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والعودة لفتح باب الحوار مع موسكو، والتفاوض معها على الملفات الإقليمية والدولية، (الملف السوري، الملف الإيراني، ملف الإرهاب، الأمن والتعاون في أوروبا، وملفات الطاقة والنفط وأنابيب الغاز.. وغير ذلك من الملفات). وهو سيناريو كان القادة الروس يرجحونه على ما يبدو. وعليه، يبقى السؤال المطروح: هل فعلاً تورط الروس بالملف الأوكراني بطريقة غير مدروسة؟ وإلى أي مدى كان (التورط) قد حصل بناءً على معطيات ومعلومات استخباراتية بعيدة عن الواقع؟ تساؤلات مهمة يبقى الجواب عليها برسم المستقبل ويحتاج لمزيدٍ من الوقت والبحث والتحليل.  (*) غداً الجزء الثاني والأخير: روسيا وأوكرانيا معركة كسر إرادات

المصدر : الدكتور مدين علي باحث في العلاقات الدولية ..


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة